الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اللهـم اهدهـم.. «أو هدهـم»!

19 ديسمبر 2017 21:51
أخطر شيء في الفكر العربي هو إخضاع النص الديني لمصطلحات حديثة أو لانطباعاتنا وأهوائنا وتفصيل النص على مقاس هذه المصطلحات الحديثة أو حتى لمصطلحات عامية أو انطباعات أو أهواء.. هذه الآفة أدت إلى الإرهاب والتطرف ونقل النص من معناه أو سياقه إلى معنى آخر مختلف تماماً وربما مناقض أو مضاد لمعناه، وقد ورد في رواية الأرض للراحل عبد الرحمن الشرقاوي أن إمام مسجد القرية الشناوي كان يقول: «وقد خلقكم أطوارا»، أي ثيرانا، لأن هناك عامية مصرية في بعض القرى تقول عن الثور «الطور» أو «بالتاء». كثيرة هذه الآفة في أمتنا والعجيب أنك تلح كثيراً في شرح المعاني، ومع ذلك لا يبدل الناس آراءهم فربما يقولون لك: فعلاً عندك حق لكنهم ينسون بعد ذلك ويعودون سيرتهم الأولى، ومن ذلك إصرارنا على أن نقلب المعنى تماماً في الآية الكريمة (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، «سورة الرعد: الآية 11» ونرى أن الآية دعوة إلى تغيير المنكر أو الثورة أو التمرد، والمعنى مناقض تماماً لما يدعون. فالآية تعني دعوة إلى عدم إفساد أمرنا، لأن الله تعالى لا يفسد ما بقوم حتى يفسدوا ما بأنفسهم، فالتغيير في اللغة يعني الإفساد أو الإزالة، فالله تعالى لا يفسد نعمة ولا يزيلها إلا إذا أفسدها أو أزالها العباد.. والآية الأخرى توضح المعنى المقصود تماماً «وما كان الله مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، أي أن الله تعالى لا يزيل ولا يفسد نعمة أنعمها علينا إلا إذا أفسدناها نحن وأزلناها. وتقول العرب: «طالتها يد الغِيَر» بكسر الغين وفتح الياء، أي يد الإزالة والفساد.. والغيرة فساد الطبع وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، يعني إزالة المنكر وإفساده، والمشكلة بل المأساة أن علماء ودعاة يقعون في هذا الخلط المسف. ويُخضِعون النص القرآني، أو نص الحديث لمصطلحات حديثه أو انطباعات أو أهواء.. وتلك مصيبة كبرى. وأما الأمر الآخر فهو إخضاع مصطلح بني إسرائيل في القرآن لما فعلته إسرائيل بتسمية دولتها هذا الاسم «إسرائيل». وكلنا وقعنا في المصيدة حتى العلماء والدعاة، وأصبح من بديهياتنا أن بني إسرائيل هم اليهود. ولا أحد يتطوع ويشرح لنا: لماذا ذُكر بنو إسرائيل في مواضع، واليهود في مواضع أخرى بالقرآن الكريم. وعبثاً نقول للناس: يا ناس: ليس كل بني إسرائيل يهوداً، وليس كل اليهود بني إسرائيل، حتى عندما تقرأ قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ينصرف ذهننا إلى اليهود، وأن الله تعالى صدق قولهم بأنهم شعب الله المختار، فتباً للسطحية والتفاهة والضحالة. والأمر الأهم والأخطر، الذي كان سبباً في شيوع الإرهاب والتكفير والتطرف والمذابح في أمتنا التعيسة هو «قول الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».. وهذا التفسير والتأويل الأحمق والغبي للآية الكريمة هو الذي أنتج المبدأ السقيم المسمى «الحاكمية»، الذي وضع فيه الأغبياء والإرهابيون كتباً ومجلدات وعلى أساسه كفروا الحاكم والمجتمع. لقد أخضعوا النص القرآني أيضاً لمصطلح حديث وهو «الحاكم».. وهو مصطلح لما يرد في القرآن أبداً بمعنى الرئيس أو الزعيم أو الملك أو الوزير أو السلطان، ولكنه ورد بمعنى القاضي أو الحكم أو الحكيم.. والدليل القاطع أن الله عز وجل قال: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. تأملوا جيداً. وإذا حكمتم بين الناس. ولم يقل وإذا حكمتم الناس، والذي يحكم بين الناس حكم وليس حاكماً، ولا رئيساً ولا سلطاناً. الأمر الآخر أن الله تعالى قال: ومن لم يحكم بما أنزل الله. «ومن» هنا للتعميم لا للتخصيص. للكل لا للبعض. تماماً مثلما ورد في القرآن: ومن يوق شح نفسه، من يطع الرسول فقد أطاع الله، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، «من» لنا جميعاً. والحكم بما أنزل الله تكليف لنا جميعاً. وهو أوسع بكثير من الحدود الشرعية. كحد السرقة وحد الزنى. ولو كان الأمر حدوداً شرعية فقط ما كلف الله بها الجميع، لأن الحكم بما أنزل الله يشملنا جميعاً. الحكم ما أنزل الله، ورد في قوله تعالى (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)، «سورة النساء: الآية 4»، هناك إذن حكمان لا حاكمان. والمطلوب أن يحكما بما أنزل الله. والمرء أيضاً يحكم على نفسه بما أنزل الله. يحرم عليها ما حرم الله، ويحل لها ما أحل الله، «وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، فالرجل يحكم في أهله وأسرته ومع زوجته بما أنزل الله. والمرأة تحكم بما أنزل الله. والقاضي يحكم بما أنزل الله. وحتى تعامل المرء مع الحيوان، ومع البيئة ومع الشجر والحجر يكون بما أنزل الله. لقد أهدرنا الدين بفهمنا له وإخضاع نصوصه لأهوائنا وانطباعاتنا وغبائنا أيضاً. ولو تدبرنا النصوص الدينية، لوجدنا أن الحرام والحلال لا يتعدى عشرة في المئة والتسعون في المئة المتبقية (إتيكيت وبروتوكول وذوق). ودعوة إلى السلوك المتحضر. وعندما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم مثلاً: «وكل مما يليك»، فإن هذا ليس فيه حرام ولا حلال، فإذا لم تأكل مما يليك، فإنك لم ترتكب حراماً لكنك «قليل الذوق». وكذلك في القرآن من وصايا لقمان: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ»، فإن لم تفعل فإنك لم ترتكب حراماً. لكنك ارتكبت ما يخالف الذوق والتحضر. كذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر»، فإذا تناجيا لم يرتكبا حراماً، لكنها دعوة إلى الذوق والخلق الحسن، حتى لا يظن الثالث أنهما يتناجيان ضده. ديننا عظيم، بل أعظم مما نتصور، وهو يشبه، بل فعلاً هو الكنز الذي بددناه بالغباء والحماقة والإرهاب. وحبسناه في جزء قليل منه. الحرام والحلال والحدود، والحاكمية التي أوردتنا المهالك وجعلت فريقاً من الأغبياء والإرهابيين يكفرون الحاكم والمجتمع ويضيقون واسعاً حتى ضاقت صدور كثيرين منا بالدين نفسه. عندما فهموه كما فهمه الإرهابيون عابساً متجهماً دموياً فظاً غليظاً، قاتلاً.. مكفراً للحاكم وللكل.. لقد ظلمونا وظلموا أنفسهم وظلموا الدين.. فاللهم اهدهم أو هدهم! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©