الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميراث الدم!!

ميراث الدم!!
15 أغسطس 2013 20:46
أحمد محمد (القاهرة) - منذ توفي الأب والصراع بين الأبناء على أشده، فلم يمض سوى ثلاثة أشهر بعد رحيله حتى أعلنوا جميعاً موقفهم بضرورة الافتراق وتقسيم الميراث، وهو عبارة عن أراض زراعية ومبان، وجميعهم يعملون مزارعين وهذا هو مصدر رزقهم الوحيد، كلهم يتعجلون الاستقلال عن الحياة الجماعية والتخلص من الخضوع لسلطة الأب التي كانوا متضررين منها بشكل مباشر، فرغم أنهم تزوجوا وأنجبوا، لكن لا أحد يملك المشاركة في أي قرار ولا يجوز له إلا أن يسمع ويطيع ويعمل ويأكل هو وزوجته وأبناؤه، ويتولى الأب تدبير شؤون كل أفراد العائلة من أبنائه وأحفاده على طريقته القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد لها قيمة مع تغير الدنيا وهو يعتقد أنه يحسن صنعاً بالحفاظ على وحدة الأسرة. قد يكون الرجل محقاً في وجهة نظره لأنه يتصرف حسب مفاهيمه وثقافته وما اعتاده الناس في زمانه وفي الماضي السحيق ولم يدرك تطورات الحياة من حوله وأن الأولاد الصغار كبروا وجاء بعدهم الأحفاد، حتى مفردات كلماته عفا عليها الزمن، كثيرون الآن من الشباب لا يفهمونها، ما زال يعمل على وحدة وكثرة عدد الأبناء الذين يكونون سنداً له وقوة، فظل على تلك الشاكلة ولم يتفهم تأفف أبنائه من ذلك وهم لا يستطيعون مواجهته لأنهم يهابونه ويوقرونه، حتى من تخطى الخمسين منهم لا يستطيع أن يدخن سيجارة في حضوره أو يجلس بجواره ملاصقاً له أو في مستواه. زوجات أبنائه الخمسة يرفضن منذ زمن هذه المعيشة التي كان بعضهن يشبهنها بالأسر والسخرة، مع عدم الحرية، فكل شيء في البيت الكبير مشترك من الشراب والطعام والملابس وكل الاحتياجات، لا خصوصية إلا عند النوم الذي يكون بمواعيد وإن كانت غير محددة، لكنها مرتبطة بالأعمال المنزلية التي لا تنتهي، لا يستطيع الأزواج تلبية مطلب لهن فلا يملك الرجال شيئاً، وهناك أشياء واحتياجات لا تقال ولا تطلب إلا من الزوج مهما كانت تافهة فهو المتكفل بكل التزاماتها. احتقان عائلي هذه الأوضاع تسببت في الاحتقان العائلي والنفسي والكثير من المشاكل بين زوجات الأبناء، فكل واحدة ترى أنها الأكثر تعرضاً للظلم، رغم أن كل الأفراد يلقون معاملة واحدة، لكن الإحساس بعدم الارتياح يجعل التوتر هو سيد الموقف، فتظهر مشاكل ومشاجرات بلا سبب أو لأسباب تافهة قد تكون انسياقاً وراء خلافات الأطفال وتنحاز كل واحدة لولدها حتى لو كان على خطأ، وأدى ذلك كله إلى الاحتقان بين الجميع، كان مثل البركان في باطن #الأرض يغلي من دون أن يظهر، لكن لا بد يوماً أن ينفجر وتخرج منه الحمم فتصيب وتحرق كل ما في طريقها وما تصل إليه. الآن وبعد أن توفي الرجل «الكبير» الذي كان يمسك بزمام الأمور ويقف حاجزاً أمام رغبات الجميع في الاستقلال، بينما كان يعتبرها تفككا، لم تعد هناك محاذير للحديث صراحة عن ضرورة تقسيم الميراث ليعيش كل واحد بأسرته، كما يحلو له ويستريحوا كلهم من هذه المهاترات والخلافات والتي عساها أن تزول وتتبدل إلى المحبة الطبيعية بين الإخوة، وترجع مشاعر الدم والرحم بينهم، وتعالت الأصوات جهرا بعد أن كانت همساً وسراً، فأصبح المطلب جماعيا، وإن كانت «الأم» ما زالت على خطى زوجها الراحل وبنفس تفكيره، تود لو أن جميع أبنائها استمروا في هذا الالتحام معاً يعيشون في بيت واحد ويكونون يداً واحدة في الحياة، مع أنها ترى ما يحدث بين زوجات أبنائها من خلاف ومشاكل، غير أنها تتمنى لو بقوا معها في البيت الكبير الذي شهد طفولتهم وشبابهم وزواجهم وإنجاب أطفالهم الذين شهدت مولدهم جميعاً على يديها، وإن كانوا الآن مع كثرتهم تخطئ في أسمائهم، فيتندر الأحفاد عليها ويضحكون من أخطائها التي يعتبرونها ساذجة، وفي النهاية لم تستطع الأم أن تجهر صراحة برغبتها واكتفت بالتعبير عنها ضمناً وسط دموعها. تم الاتفاق على حصر التركة، وهي معروفة، لكن التقسيم كان غاية في الصعوبة فالميراث كله عبارة عن أراض في مواقع مختلفة، تتباين في القيمة والمميزات والأسعار، لذلك فلا يمكن التقسيم على أساس التساوي في المساحات، ولكن لا بد أن يكون حسب القيمة المالية، وهذا يحتاج إلى عملية تقييم ثم يتم التقسيم علاوة على أن هناك مساحات مؤجرة وأخرى مزروعة ويجب الانتظار إلى أن تنتهي مدة الإيجار وحصاد المحاصيل، وهذا يستغرق عدة أشهر ولا بديل عنه حتى لا يقع ظلم على أحد. توجه «فتحي» الأخ الأوسط لمناقشة إخوته في هذه التفاصيل وبحضور أمه، لكن ظهرت مستجدات لم تكن في الحسبان، خرج ما في النفوس، فهذا طامع في قطع بعينها لارتفاع ثمنها، وذاك يرى أنه يجب أن يتم تمييزه لأنه كان الأكثر عملاً وجهداً في البيت، وثالث يرى أنه يجب ألا تأخذ الأخوات شيئا من الميراث فلا يجوز أن تذهب أرضهم إلى غيرهم من الغرباء، ويرى الأخ الأكبر أنه أحق بنصيب الأسد، كما يحدث في جميع العائلات في البلاد التي من حولهم، اختفى صوت العقل والحكمة، لم يسمعوا لمن حاولوا أن يتدخلوا لإنهاء هذه الأزمة التي انفجرت وتكاد تعصف ولا تبقي ولا تذر بعد أن اشتد الخلاف وارتفعت الأصوات ولم يعد أحد يسمع كلهم يتكلمون في وقت واحد. نقطة الصفر لم يغب دور الزوجات في هذا المشهد، فقد أدلت كل واحدة بدلوها الذي لم يكن أبداً في سبيل التهدئة، ولا الحفاظ على الروابط الأسرية وإنما تؤيد شطط زوجها، بل وتدفعه دفعا ليصر على موقفه الخاطئ وربما تزيد عليه، كل واحد وأسرته الصغيرة أصبح حزباً وحده في مواجهة الآخرين، يقدم أدلته التي يحاول أن يزينها ويصبغها بصبغة الحق والعدل، وقد يبدو الباطل فيها ظاهراً والمغالطات واضحة ويغمض عينيه عن هذا كله، أو ربما يكون لا يرى الحقيقة. العقلاء طالبوهم بضبط النفس والاحتكام إلى الشرع وأن يأخذ كل واحد حقه، بلا ظلم لغيره وهذا يريح الجميع، وما أن يستجيبوا لذلك حتى يعودوا إلى أطماعهم التي تهدم ما يتم الاتفاق عليه من قبل، يعودون إلى نقطة الصفر، ولا يؤدي تأخير الحسم إلا إلى المزيد من الشقاق، فمع العجلة هناك إصرار على الظلم، وهذا التفاوت يمنع الوصول إلى التراضي، ولاحت في الأفق لغة العنف والتهديد، ظهرت القوة والمبالغة في الوعيد، واختفت المودة ولم تجد لها مكاناً وسط هذا الجو الملبد بالعنف ولا يعترف بلغة العقل والواقع ولا ينظرون إلى النتائج لتلك التصرفات التي يقدمون عليها بسرعة والتي تؤكد كلها الاتجاه نحو الهاوية بسرعة شديدة. هدأت العاصفة قليلاً عندما صرخت الأم في الجميع بدموعها تطالبهم بأن يتذكروا أنهم كلهم من بطن واحدة ولا يجوز أن يفعلوا ذلك ويجب أن يراعوا شيخوختها وهي تقترب من السبعين من عمرها، وكما قالت إنها على حافة القبر، لكن هذا الهدوء كان وقتيا ولم يستمر أثره كثيراً، حيث عادت الأطماع لتفرض نفسها من جديد وكان هوى النفس أقوى من تلك العواطف والمشاعر، وتجددت الخلافات بشكل أكبر، ينامون ويستيقظون عند نفس النقاط الخلافية لا تراجع ولا استسلام، فهذا يعني الهزيمة والعار، وهذه هي المفاهيم التي كانت تملأ رؤوسهم، وتناسوا أنهم إخوة أشقاء، وتغلب عرض الدنيا على مشاعر الأخوة. تشابك ووقع المحذور وحدث ما لا بد منه، فقد اجتمعوا في البيت الكبير لمواصلة النقاش الحاد الذي كان أقرب إلى العراك، وكعادتهم يتكلمون بلهجة حادة ولا يسمعون، وبدأ التشابك بالأيدي وارتفعت الأصوات واختلط الحابل بالنابل، فهي بالفعل كانت مثل معركة في العصور البدائية يستخدمون ما يقع تحت أيديهم، وكما يحدث في كل خلاف وعراك تدخل المقربون والجيران وتمكنوا من فض الاشتباك وحثهم على الحل السلمي، ورغم أن كل واحد مضى إلى غايته، فإن نيران التوتر لم تخمد، بل ازدادت اشتعالاً بعد أن خرجت من تحت السطح لتظهر وتلتهم أي شيء في طريقها. مازال «فتحي» مملوءاً بالغيظ لأنه لم يتلق رداً على مطالبه ولم يحصل على حقه وتوقفت الحلول وطالب مبدئياً بحقه في عائد وريع الأراضي إلى أن يتم الانتهاء من التقسيم، ولكنهم في ظل هذا التوتر تقاتلوا مرة أخرى، وكسروا ذراعه، وأصيب كثيرون بجروح وكدمات وسالت دماء الإخوة بأيديهم، ففقد فتحي عقله وأصابه الجنون، وخرج مهرولاً إلى بيته وحمل سلاحه الآلي الذي يحتفظ به منذ سنين ويطلق منه الرصاص في الهواء ليثير الذعر في النفوس، ولكن هذه المرة لم تكن للتهديد والتخويف، بل نحو أجساد إخوته وأبنائهم. خرجت الرصاصات عشوائية يستهدف بها من أمامه، فقتلت ثلاثة من إخوته واثنين من أبنائهم وأصاب سبعة آخرين، سالت الدماء غزيرة على الأرض تحت وفوق الجثث، المشهد يبدو كأنه انتقام أو حرب إبادة عائلية أو هو بالفعل كذلك، وضاع الميراث، بقي ميراث الدم وغرست العداوة بدلاً من المحبة والالتحام التي كان الأب الأكبر يريد أن تستمر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©