الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحلام حتى الموت

أحلام حتى الموت
18 أغسطس 2011 22:31
الثراء هو نقطة الضعف الشديدة التي لم تستطع «هاجر» أن تتغلب عليها ولم تتمكن من مقاومتها طوال حياتها لانها دائما تتخيل نفسها وقد خرجت من هذا الحي الشعبي العتيق الذي نشأت وتربت وتزوجت فيه، وفي كل تلك المراحل تغوص في الفقر المدقع، اقتربت من الثلاثين ولم تصل بعد الى نقطة الصفر لتبدأ منها الحياة مثل الآخرين الذين تسمع عنهم وتشاهدهم أو تقرأ عنهم، تريد أن تكسب جائزة اليانصيب الكبرى التي تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات من دون ان تعرف ما هي الجائزة ولا قواعدها، كل معلوماتها عنها انها ثروة مفاجئة تهبط من السماء. وتعيش «هاجر « أيضاً مع أحلام اليقظة، وهي تنتظر محامي جدها الخامس عشر وهو يطرق بابها ليبلغها بالنبأ السعيد الذي ربما يتوقف قلبها عند سماعه، بأن جدها مات منذ سنوات في بلاد المهجر وترك إرثا من حقها هي وحدها باعتبارها الوريث الوحيد، وانه عثر عليها أخيرا وسوف يسلمها قائمة بالممتلكات التي آلت إليها وهي عبارة عن ملايين العملات والأراضي الزراعية الشاسعة والفنادق والشركات والمصانع والقصور. جاراتها امللن كلامها المستمر عن النقود وسخطها على زوجها وحياتها حتى أنها لا تتورع عن ان تبدي استعدادها لتركه هو وأبنائها لتتزوج رجلا غنيا حتى لو كان في السبعين والمهم أمواله وليس شبابه، لا تكف عن تكرار هذا الكلام وهي تمصمص شفتيها وتندب حظها وتلعن نصيبها من الدنيا، وعيناها على كل من حولها وما عندهم من مشرب ومأكل وملبس رغم انهم ليسوا أفضل حالا منها. لم تتوقف أحلام «هاجر» في النوم واليقظة حتى أثرت على حياتها الزوجية وجعلت زوجها نفسه يكره تلك المعيشة ويهرب من البيت غالبا إلى المقهى، فهي لا تكف عن المطالب كما تعيره بحاله وضيق ذات اليد وعجزه عن تحقيق أحلامها المستحيلة وهي تعرف أنها غير طبيعية وبعيدة عن الواقع، لكنها لا تعترف بأنها الآن أحسن حالا مما كانت عليه في بيت أبيها، فهو يملك بيتا تقيم فيه ويعمل في حرفة تدر عليه دخلا لا بأس به، ومع هذا لم تتوقف ولم تجعل لنفسها رادعا ولم تتعظ ولم تدرك أن السعادة ليست في المال وحده، ولم تعترف بان القناعة كنز لا يفنى. وجن جنون «هاجر» بعدما سمعت أن بعض المنازل القديمة مبنية على كنوز أثرية وتكفي قطعة واحدة بحجم كف اليد لان تحقق كل أمنياتها وتنتشلها من الفقر وتدفع بها إلى طبقة الأغنياء وأبناء الذوات وعلية القوم، لكن لا تدري ان كان بيت زوجها من تلك البيوت ام لا، وللوقوف على الحقيقة يجب ان يتولى أهل الاختصاص الامر وهم اصحاب القول الفصل، وللاسف فان المختصين عند هؤلاء ليس خبراء الآثار وانما الدجالون والمشعوذون، الذين يدعون انهم على علم وهم يتخفون تحت اللحى الطويلة الكثة والخرق البالية والبخور الرديء. وسمعت «هاجر» عن قصص كثيرة حول أناس أثروا من خلال تجارة الأثار والتنقيب عنها، وتناهت الى مسامعها حكايات هي أقرب الى الأساطير او هي كذلك في معظمها، لم تعرف أي حقيقة وانما كلها روايات يتناقلها الناس عن بعضهم ويزيدون عليها ويبالغون فيها ويضيفون عليها الأكاذيب ثم يصدقونها، بينما هي تتعامل معها على انها مسلمات وحقائق وتفقد عقلها كل يوم مئات المرات وهي تبحث عن وسيلة سريعة لتصبح هي بدورها واحدة من هذه القصص وتنتقل الى فئة بعيدة عنها تتوق لان تكون منها. تحولت المرأة التي لم تكن يوما وديعة، الى نمرة شرسة كل همها أن تصل الى واحد من هؤلاء المدعين الذين لا تعرف حقيقتهم، كي يؤكد لها ان كانت هناك قطع أثرية تحت بيتها ام لا وراحت تجوب كل مكان وتسأل كل شخص وتطرق كل باب لتتعرف على اي منهم، الى ان كان لها ما أرادت، ووجدت من يدلها على أحدهم، رحب بها وسمع ما جعلها تأتي إليه، وهو يدعي انه عالم ببواطن الأمور ويستطيع ان يقدم لها ما يطمئن قلبها. قرأ الرجل بخبرته في عيني المرأة الجالسة أمامه نهما للمال وتعطشا للثراء ولا بد له ان يستغل تلك الرغبة الجامحة لديها والتي تعد حالة فريدة، فان الناس جميعا يحبون المال حبا جما وكلهم يريدونه ولكن ليس بهذا الاندفاع وبشتى السبل أيا كانت، وهي على اتم الاستعداد لفعل أي شيء يطلب منها مقابل الوصول الى هدفها، لذلك أمسك بأول الخيط الذي يجعله هو الآخر يستفيد منها فهي ضحية وصيد ألقى بنفسه بين يديه فألقى في نفسها الأمل ولمح أثر ذلك في عينيها اذ انفرجت أساريرها وحدقت فيه وهي تتابع ما يقول، فراح يلقي عليها بالبشارات وهو يتمتم بعبارات وكلمات غير مفهومة أحيانا ليوهمها بأنه يستمد معلومات من أشخاص أو مخلوقات خفية وهي في الغالب من الجان ليؤكد لها أن معلوماته صحيحة ولتستجيب لمطالبه وتعليماته بلا نقاش. توجيهات ومطالب الرجل تركزت أيضاً في إشباع بطنه وابتزازها ماليا قبل ان تربح فلسا واحدا وإنما يمنيها بالملايين من العملات الصعبة والتي لا تعرفها ولكن تعرف انها يمكن ان تحقق لها ما تصبو إليه، وهي تستجيب وتطيع طاعة عمياء، لا تناقش ولا تجادل انما تستعجل الوصفة السحرية التي سوف توصلها إلى مأربها، وانتقل إلى البيت الذي سيشهد مسرح العمليات فيجب ان يفحصه على الطبيعة ويقدم الوصفة النهائية الشافية. أكد لها أن بيتها بالفعل مبني على كنز أثري يرجع الى العصر الفرعوني وقد يضم مومياوات وقطعا ذهبية ومنحوتات ومجوهرات وأشياء ثمينة لا تقدر بأموال، وهي وحدها التي تستطيع بعد ذلك ان تحدد الأسعار وتتحكم فيها كما تريد ولن يساوم أحد في المبالغ التي ستطلبها فهذه تحف مطلوبة في العالم كله ويتسابق عليها أصحاب المعارض والمتاحف العالمية الكبرى فالسوق حامية والطلب يفوق العرض، حدد لها أن الخبيئة تقبع على بعد عدة أمتار تحت الأرض ويجب ان يتم الحفر للوصول إليها، وهو يؤكد لها ان تجاربه السابقة كثيرة وثبت نجاحها وحققت نتائج مبهرة. تهللت أساريرها وهي تستعد لأعمال الحفر وتمني نفسها بان تصل الى هدفها باسرع ما يمكن، ومع اتخاذ الحيطة والحذر والسرية التامة وخاصة لانها لا تريد أن يشاركها احد في تلك الثروة التي توشك ان تخرج من الأرض على عكس الثروات التي تهبط من السماء، لم تسمح إلا لزوجها وزوج شقيقتها وأبنائها بالمشاركة في الحفر حتى تضمن سرية العملية، ويتم العمل ليلا حتى لا يتسرب اي خبر يمكن ان يؤدي الى فشل كل الجهود، وتحول ليلهم الى نهار وهم يحفرون بهمة ودأب وكلما احتك الفأس بحجر اثناء الحفر تعتقد انها وصلت الى أول الغيث، وسرعان ما تضيع الأحلام عندما تكتشف انه مجرد حجر لا قيمة له. ليلة بعد ليلة، والحفرة تزداد عمقا واتساعا حتى وصلت الى خمسة عشر مترا خلال أسبوع، ومع كل سنتيمتر يخفق قلبها وتزداد ضرباته وهي تتمنى الوصول الى الكنز، لكن يخيب أملها، والليلة شعرت بالتعب مقرونا بخيبة الأمل لان المياه بدأت تخرج بغزارة من الحفرة وتعوق العمل ولا يستطيعون مواجهتها، لكنها لم تفقد الأمل وواصلت العمل وهي تتحدى نفسها والظروف من حولها حتى انها نزلت الى أعماق الحفرة بنفسها، الا انها بعد لحظات شعرت بإعياء وضيق في التنفس، وسقطت مغشيا عليها، وبصعوبة بالغة انتشلوها وكانت فاقدة الوعي تماما، ثم ماتت وفارقت الحياة بالفعل، ودفعت حياتها ثمنا لأحلام غير مشروعة وكلها شطط. وجد من حولها أنفسهم في ورطة ومتهمين في جريمة ضد انفسهم والمخالفة للقوانين، فقرروا ان يفلتوا من هذا كله وحملوا الجثة إلى بيت شقيقتها، وتوجه زوجها لاستخراج تصريح بالدفن، وانتقل طبيب الصحة للكشف على المتوفاة، بعد ان أخبروه بانها كانت في زيارة لشقيقتها ولفظت أنفاسها بسبب تسرب الغاز أي أنها توفيت باسفكسيا الاختناق، لكن الطبيب وجد أن هذا كله غير صحيح، وأن هناك شبهة جنائية في وفاتها، فقام بإبلاغ النيابة التي انتقلت وانتدبت الطبيب لشرعي ليكشف عن السبب الحقيقي للوفاة، ولكن قبل ان يعد تقريره جاءت اعترافات الزوج وشقيقتها وزوجها لتؤكد الحقيقة الغائبة التي فشلوا في إخفائها. لم يتوقف الامر عند هذا الحد بل ان الأفكار الهدامة امتدت الى البيت والبيوت المجاورة فقبل ان تنتهي النيابة من التحقيقات في اليوم نفسه إنهار البيت كله وتهاوت جدرانه وسقطت البيوت الثلاثة المجاورة وتحولت كلها الى ركام، لتضاف اليهم اتهامات جديدة وجرائم تعد النيابة فيها قرار الاتهام لتحيلهم الى الجنايات بقائمة طويلة من الاتهامات.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©