السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود يوسف.. عندما يكون الصحفي صحفياً بحق!

محمود يوسف.. عندما يكون الصحفي صحفياً بحق!
4 سبتمبر 2014 00:59
ما من سبب للكتابة عن الإعلامي الراحل محمود يوسف بعد هذا الزمن. . إلا كونه محمود يوسف، العاشق الذي يكتب بالنار محترقاً بها. . مكتوياً. . ملسوعاً. . بالوجع لا بالحبر يكتب. . لهذا، كان من الصعب الاكتفاء بكتابة نبذة صغيرة عنه، تتطرق إلى مولده ونشأته والتفاصيل المشابهة، رغم أن هذه أيضاً ليست متوفرة. صحيح أن الكثيرين كتبوا عن رحيله. . عن عمله بينهم في صحيفة “الاتحاد”. . عن ابتسامته الدائمة، وجدّه وإخلاصه، وحماسته، ومتابعته الدؤوبة للعمل. . عن ذكرياتهم معه. . وعن مواقفه المختلفة. . وشخصيته بشكل عام. . كتبوا بعد رحيله، ثم في ذكرى رحيله الأول، ثم لا شيء. . باستثناء صديقه الروحي الروائي والإعلامي علي أبو الريش الذي ظل يستعيده ويكتب عنه. هذه سيرة لا تطمح أن تلمّ بحياة صاحبها بقدر ما تحاول أن ترفع ثقل النسيان عنه، وإحضاره على جناح الذاكرة الحية لإنعاش ذاكرة دخلت منذ زمن طويل في غرفة الإنعاش. . أقول هذا وليس في ذهني أن أتحدث عن رجل منح حياته للكتابة عما كان يسمى (قضايا كبرى)، وباتت الآن من القضايا الصغرى، بل وأصغر من أن يحكى فيها. . وإنما، في البال فقط، نموذج أو أمثولة يمكن لاستذكارها أن يوضح الخيط الرفيع بين الصحفي ومدّعي الصحافة. . من دون أن أسقط في فخ الحكي عن قضايا كبرى أو أسقط في فخ المديح سواء أكان عالياً أو منخفضاً (بعض المديح لشدة فجاجته يصبح مذموماً وواطئاً). . هكذا، بعيداً عن الاثنين وقريباً جداً من العادي، والبسيط، يمكن للمرء أن يسرد بارتياح كبير سيرة صاحب عمود “بين السطور” و”حديث الأسبوع” والمقالات الكثيرة في “واحة الاتحاد”. هنا سيرة لصحفي (صحفي) يستحق هذا اللقب، لأنه أدرك معناه، وعرف ما يترتب عليه، فمنح نفسه بالكامل لقضايا الناس ممتطياً ظهر الكلمات ومستعيناً بما تمتلكه صاحبة الجلالة من سلطة، أو بما كان لها من سلطة باتت الآن في عداد البوائد والدّوارس إلا في استثناءات قليلة. وقبل البدء في استذكار تجربة محمود يوسف الإعلامية والثقافية، لا بد من شكر مستحق لزوجته الوفية (أم عبد الله)، هذا الكائن الجميل الذي يقطر وفاء واهتماماً، والتي حرصت على الاحتفاظ بجميع أوراقه وكتاباته وما كتبه الآخرون عنه يحدوها الأمل في أن تسنح لها سانحة تمكنها من طباعتها ونشرها في كتاب. ولادة وموت هنا رأس الخيمة. . لا. . هنا معيريض. . هنا أبصرت عينا محمود يوسف النور. . هنا سقط الرأس مرتين: مرة عند الولادة (1955) ومرة عند الموت (21 فبراير 1989). ما بين الولادة والموت لم تكن رأس الخيمة مجرد مسقط رأسه. . كانت حبيبته التي يحملها معه أينما ذهب. في اليمن، من أعلى نقطة فيها، حين ذهب يبحث عن جدّنا الأول، عن أول عربي، أول إنسان نطق باللغة العربية الذي يقال إنه (يعرب بن قحطان)، كما أورد في مقالته الموسومة بـ “اليمن . . في عيون أبنائها”، لم ينس رأس الخيمة. . ذكرته جبال اليمن بجبال (الرأس) التي تسكن رأسه، فكتب: “كان التعب قد أنهكني كثيراً عندما قال مرافقي: ها هي اليمن أمامك الآن واضحة. . بيوتها، جبالها، مزارعها، عيونها. لا شك أن كل هذه الأشياء ستوحي لك بالكثير، وأدرك أنني منهك القوى، وقال: نحن دائماً نصعد إلى الجبال عندما نشعر بأن الأرض لا تسعنا أو عندما نشعر بالغربة وسط الناس، وتذكرت جبال رأس الخيمة خاصة منطقة (خت) كثيراً ما تسلقت تلك الجبال عندما كنت صغيراً”. لكن هذا الوله لم يكن مقتصراً على رأس الخيمة فقط. . بل اتسع للإمارات كلها. . للوطن الذي ملك جماع روحه. . الذي عنه، وله، ومن أجله كتب، وأثار القضية تلو القضية، ودافع، ونافح، وأوضح، وفسر، واضعاً “قلمه” دائماً على الجرح. لم ينتهج العاشق منهجاً رومانسياً في حبه مكتفياً بكلمات الغزل على عادة المحبين والعشاق، لاسيما من أهل الكلام، بل ذهب في العشق إلى مدى أبعد من الكلمات، فمارس دوره كمثقف عضوي ملتحم بالناس، عارفاً بهمومهم وأحلامهم، من دون أن يقلل هذا الكلام من أهمية ما كتبه في سطوره من معان ومضامين يمكن لمتابعتها الكرونولوجية أن تلقي الضوء على التمرحل التاريخي الذي شهدته بعض القضايا الوطنية والعربية المهمة، التي كان يحب محمود يوسف أن يسميها (مصيرية)، ويحذر باستمرار من الانشغال عنها في قضايا جانبية أو ثانوية. لم يجلس محمود في برجه العاجي. كان قريباً من الناس، يتحسس أوجاعهم ومراراتهم ويكتب عنها. يتلمس ما يحزنهم وما يفرحهم ويترجمه إلى كلمات من يقرؤها اليوم يندهش من كمّ الصراحة، والخوف على الوطن، وهويته وعروبته من مخاطر العمالة الآسيوية، وتفشي نزعة الاستهلاك، وبعض مظاهر التغريب، وانشغال المثقفين في أمور وقضايا جانبية وتركهم للقضايا المهمة، وحمى التقليد التي تنتشر بين الشباب، وبعض الممارسات التي تهدد الثقافة المحلية وتبعدها عن الحضور في الزمان والمكان لتبقى رهينة الماضي، حبيسة الاهتمام الفردي من قبل المهمومين بها. يقول: “قضية العمالة الوافدة الأجنبية هي القضية الرئيسية والأولى، في هذا المجتمع، ولن نتوقف عن الحديث عنها، لأننا ندرك مخاطرها المستقبلية على أمن واستقرار هذا المجتمع. وأقول ذلك رداً على بعض الفئات التي تدعي الوطنية، والتي ترى أننا لا بد أن نتوقف عن الحديث عن العمالة الأجنبية، هذه الفئة التي لا تشكل أغلبية في المجتمع هي السبب المباشر الذي أدى إلى وجود هذا الحشد العمالي المخيف، وهي تنطلق في مطالبتها من منطلق الحفاظ على مصالحها الذاتية. هذه الفئة لم تضع لهذا المجتمع أي اعتبار لا لأمنه ولا لاستقراره ولا لأبنائه”. مع ذلك، لم تكن مقالاته كلها من هذا النوع، أحياناً كان يلفت إلى الإيجابيات التي يراها هنا وهناك. . ويطالب بتعزيزها وترسيخها، غير أنه بشكل عام كان مثقفاً نقدياً، وكانت له عين مبصرة، تقرأ ما خلف الأشياء ومطموراتها اللامرئية. بهذا المعنى، كان محمود يوسف درساً عملياً في كيف يكون حب الوطن، بالفعل لا بالشعارات ولا بالكلام الفضفاض. جرأة وشجاعة كان للإمارات النصيب الوافر من كتابات محمود من دون أن ينسى القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي عكست مقالاته عنها نزعته العروبية، وانتماءه القومي المتوهج، ووعيه الإعلامي، وسعة ثقافته خاصة في الشأن السياسي. يكتب محمود عن فلسطين كفلسطيني، من الداخل وليس من الخارج، وهو يعتبرها قضيته الشخصية وقضية الأمة التي كثيراً ما لامها على صمتها تجاه ما يجري في فلسطين من مآس وما يتعرض له الفلسطينيون من مجازر ومعاناة، وما أكثر ما ختم مقالاته بنداء إلى الأمة لكي تنهض، وترى الخطر المحدق بها، وتستخدم إمكانياتها المادية في نصرة الحق الفلسطيني. يقول في مقال له عن يوم الأرض: “. . . وإذا كانت الأرض بالأمس قد بكت كثيراً على صمت أبناء الأمة العربية إلا أن بكاءها كان بحراً من الدماء فجّره شيوخ ونساء وأطفال الأرض، فالجماهير الفلسطينية خرجت إلى الشوارع في مظاهرات عارمة”. كان محمود يوسف على صلة بنبض الشارع الفلسطيني، يرصد حراكه ويلقي الضوء على ما يجري فيه، يفرز، يغربل، وينتصر لما يراه حقاً. كانت بوصلة محمود واضحة، تشير في اتجاه واحد فقط: مصلحة الأمة العربية، ولهذا كان حاسماً، واضحاً، في إعلان موقفه الرافض لأي حرب بين الدول العربية، أو بين الأشقاء العرب والمسلمين، معتبراً أن الحرب هي بين العرب وإسرائيل، ومراراً شجب ورفض وأدان الاقتتال بين الفلسطينيين مذكراً بأن السلاح يجب أن يوجه إلى العدو فقط، وهو الموقف نفسه من الحرب اللبنانية الأهلية التي بحّ صوته وهو يطالب بإيقاف محرقتها الدائرة في ذلك الوقت. يكتب محمود يوسف عن السنوات العربية القاحلة، وما يختفي وراء الأعوام العربية ومراراتها التي تترى، داعياً الإنسان العربي إلى إعادة النظر في مواقفه، لعله يلتقي بنفسه. . ومع إيمانه بدور الجماهير وقدرتها على التغيير، كثيراً ما بدا في كتاباته مندهشاَ ومستغرباً من ركونها إلى الصمت، وعدم قيامها بدورها المأمول منها، من دون أن يغفل الضغوطات والهموم اليومية التي يرزح الإنسان العربي تحت ضغطها. وتبرز كتاباته الأسباب الحقيقية وراء الظواهر التي يعالجها، وإن ألمح إليها أحياناً بالسؤال سعياً لنقل حالة التساؤل إلى القارئ وزجّه في السؤال، حاثاً إياه على التحليل، والتعمق، وبعد النظر بخصوص ما يجري في العالم العربي على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وما أكثر المقالات التي كتبها عن التغيير وضرورة الإصلاح. وهو لا ينسى الحديث عن الطفيليين والانتهازيين الذين يمتطون الثورات ليحققوا مكاسبهم الشخصية حتى في تحليله لفيلم سينمائي أو مسلسل، وكأنه يحكي عن حاضرنا الراهن. كان محمود يوسف، في ما يخص فلسطين، ثائراً حقيقياً. يمكنك أن تلمس ثورته في الكلمات التي تتدفق حارة، طازجة، صارخة، تستصرخ الضمير العربي والإنساني تجاه الأحداث المؤلمة التي عاشها الفلسطينيون في صبرا وشاتيلا، مثلاً. لم يكن يكتب بقلمه بل بروحه وأعصابه. يمكنك أن تمسك بمشاعره الملتهبة تضج بين السطور. . إنه يشرّح الموقف العربي الرسمي المتقاعس عن نصرة الشعبين اللبناني والفلسطيني خلال اجتياح بيروت بجرأة فائضة، جرأة تذكرك بلوحات ناجي العلي وعلي فرزات الكاريكاتيرية المعبرة، وفي كل مرة يعيد السؤال باللوعة ذاتها عن سرّ الصمت الذي يتكرر في كل مرة يتم فيها الاعتداء من إسرائيل على شعب عربي، محذراً من عواقبه الوخيمة. يقول في تناوله لمذبحة صبرا وشاتيلا والاجتياح الإسرائيلي للبنان: “. . . ولا تزال قوات العدو تواصل مذبحتها في لبنان، وما زال المقاتل الفلسطيني صامداً يتلقى بصدره الضربات، وما زالت بيروت تضرب أروع الأمثلة في الكفاح والنضال. . ولا تزال قواتنا العربية ومدرعاتنا وطائراتنا و. . . قابعة في مكانها تنفض عن نفسها الصدأ الذي تكاثر على جوانبها”. بالطبع هذا غيض من فيض، ولو شاء المرء أن يسترسل لفتح جروحاً كثيرة في هذا التاريخ العربي الممتد. . لكن الحرّ تكفيه الإشارة. ففي حضرة الإعلام الحالي، تبدو مواقف محمود يوسف وكتاباته أشبه بالخيال، أما حديثه عن النخوة والكرامة وإغاثة الملهوف التي اشتهر بها العربي وتساءل عنها مراراً وتكراراً في أعمدته فتبدو أقرب إلى المستحاثات. في كل ما كتب، يبدو محمود يوسف باحثاً عن موطئ روح له في المكان. . كان يجتاح بياض الورقة مدججاً بالفكرة. . مضرجاً بها. . يسكبها على البياض دفقة واحدة، حارة، طازجة، ضاجة بالانفعال، لا تنحني لنسق. لم يكن من الذين يراودون الفكرة عن نفسها، بل يحضرها إلى مساحة الكلام لتبوح بغرضها بوضوح تام، وهي واحدة من الأهداف الأساسية لكاتب عمود يريد أن يصل إلى جمهور عريض من القراء على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم. حضور الغائب في السادس من مايو 1986 نشرت صحيفة “الاتحاد” مكان العمود اليومي “بين السطور” العبارة التالية: “يعتذر الزميل محمود يوسف عن عدم كتابة “بين السطور”، وذلك لوعكة صحية ألمت به”. . مذّاك غاب العمود لكن كاتبه لم يغب أبداً عن المعنيين بالتجربة الإعلامية في الإمارات. . صحيح أنه لا يحضر في كل مرّة تنفتح فيها سيرة الصحافة المحلية أو يكرّم روادها، لكن لا أحد يمكنه أن ينسى أنه من الرواد ومن أوائل المواطنين الذين عملوا في الحقل الصحفي، وليس هذا وحسب، بل هو أيضاً من الذين قدموا نموذجاً، صحفياً، ملتزماً وجريئاً ومثقفاً. غاب العمود إذن، وطال غياب صاحبه الذي كان يصارع المرض اللعين الذي وجّه ضربته القاسية إلى دماغه. . كأن المرض كان يدرك أن سرّ هذا الرجل في دماغه أو لعلّ هذه النوعية من البشر تحمّل عقلها أكثر مما يحتمل، فيتمرّد أو يحتجّ عليها بـ “المرض”. بكل ما أوتيت روحه من قوة قارع محمود المرض. . لم يكف عن العمل والعطاء، وظل يمارس دوره من مكتبه في رأس الخيمة التي رأته فرجانها طفلاً يلهو بالأحلام ويرسم على الرمل بيوت الأمل، ثم تابعته بعينيها الحانيتين وهو يركض في دروب الصبا، يجول بين حناياها. . يكتب ويقرأ ويسأل و. . . يحلم. كبر اليافع الذي شبّ على حبها ورضعه مع الصباحات التي لطالما انغزلت على “سيف” البحر وغرقت في ذهب المساء. . غرق في حبها حتى استوى على قلبها كما يليق بعاشق مدنف. . توغلت فيه، شربها ماء وحليباً وتمراً وعسلاً. . تناولها كاملة ذات قيلولة. . نمَتْ. . فأورقتْ. . فتكرستْ فيه. . ثم تجذّرتْ حتى صارتْهُ. . ربما، لكل هذا العشق، وبسببه أيضاً، تعجّل الرحيل لكي يدخل في قلبها، ويغفو تلك الإغفاءة الطويلة في سكينة ترابها. في عناقه لها، حمل إرثاً من الانتماء والإسهام في العمل التطوعي والاجتماعي والشبابي متمثلاً في نشاطه الشبابي في نادي ابن ظاهر الثقافي، فضلاً عن العمل الإعلامي الذي امتد على مدى ستة عشر عاماً منها سبع سنوات في قسم الأخبار بإذاعة رأس الخيمة، وتسع سنوات في صحيفة “الاتحاد”. لكن. . هل مات محمود يوسف؟ أظن أن المبدع لا يموت إلا بجسده. . فروحه تبقى تحفّ بالمكان. . تزوره كلما حرضها الشوق وقرصتها لوعة الوجد. . تطوف به لتطمئن على أشيائها التي تركَتْ. . هل يموت المبدع؟ نعم. . عندما ينساه من أحبهم، وكتب لهم، وعاش من أجل قضاياهم. . عندما يعتقد المعنيون بالأمر أن المبدع مرّ من هنا. . وينسون أنه ترك أنفاسه وأحلامه في كومة ورق عتيقة. . . ! أنا لم ألتق محمود يوسف في حياته. . تابعته مثل غيري من القراء عبر كتاباته، لكنني أصدقكم القول: وأنا أنهي هذا المقال، شعرت بعينيّ محمود يوسف ترمقانني من البعيد النائي. . ولمحت طيف ابتسامته يعبر المكان. . .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©