الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيدريكو فيليني يكشف حقائق ورؤى جديدة عن «الفن السابع»

فيدريكو فيليني يكشف حقائق ورؤى جديدة عن «الفن السابع»
13 نوفمبر 2010 19:44
فن السينما من أهم المؤثرات في الاتجاهات الفكرية والثقافية الحاصلة في أرجاء المعمورة، بما يمتلكه من عناصر إبهار وإثارة، وقدرة على إيصال رسائل متعددة عبر تقنيات وأساليب مدهشة وفيوضات من الصور يُلقى بها على شاشات دور العرض في كل مكان، ولذا صارت صناعة السينما واحدة من الصناعات الحيوية في العالم، ويضخ بها مليارات الدولارات، ويعمل فيها وفي الصناعات القائمة عليها ملايين الأشخاص. ومن هنا عندما يضع قطب من أقطاب السينما في العالم كتاباً عن كيفية صنع فيلم سينمائي، لابد وأن يُنتبه جيداً لما يسرد في الكتاب، خاصة إذا كان مؤلفه المخرج الإيطالي ذا التاريخ والحضور القوي في السينما العالمية فيدريكو فيليني. يعود فيليني في كتابه "كيف تصنع فيلماً" إلى بواكير دخوله عالم السينما ويصف ذلك قائلاً: عند وصولي من مدينتي الصغيرة ريميني الواقعة على البحر الأدرياتيكي إلى روما، شاهدت أفلاماً أميركية كثيرة يتمتع بها الصحفيون بسحر خاص، لا أذكر العناوين، فقد مرت سنوات عديدة لكني انبهرت دون شك بأسلوب عيش هؤلاء الصحفيين، فقررت أن أصبح صحفياً مثلهم، فقد عملت صحفياً وكان مدير الجريدة خياطاً، يمسك دائماً بين أسنانه بالإبر حين يتكلم، وأراد إجراء إحدى اللقاءات الصحفية هناك، فكانت المرة الأولى التي أدخل فيها "مدينة السينما" في روما.? ينقل لنا فيليني انطباعاته حينها.. وبقيت تحت أشعة الشمس أنظر مشدوهاً إلى الأبراج والمدرجات والخيول والأزياء الغريبة، والفرسان المدرعين بالحديد، والمروحيات التي كانت تنثر في كل مكان سحباً هائلة من الغبار، كانت تعلو نداءات وصيحات وصفارات، أحياناً ينطلق ضجيج عجلة ضخمة في حركة سريعة، أو رنيناً لأسهم وسيوف، كان أوسفالدو فالينتي واقفاً على عربة تبرز من عجلاتها قضبان حادة، وسط صيحات رعب عدد كبير من الكومبارس، فوضى مخيفة، وخانقة، وعلاوة على هذه الفوضى أحياناً يوجه صوتاً قوياً معدنياً راعداً، تبدو أوامره أحكاماً قضائية: مع الضوء الأحمر تهجم المجموعة "أ" نحو اليسار، ومع الضوء الأبيض يتراجع البرابرة فارين، مع إشعال الضوء الأخضر يستعد الفرسان والفيالة للهجوم، سحق المجموعة "ج" والمجموعة "د"... فوراً. افتقاد السلطة كان رنين الصوت عبر المكبر، وما كان ينطق به بتركيز على مخارج الحروف، يوحي بأننا في محطة قطارات أو مطار، خلال وقوع كارثة كبيرة، لم أتمكن من اكتشاف مصدر الصوت، شعرت بقلق وكان قلبي يخفق بقوة، وبشكل مباغت، في صمت مفاجئ بدأت ذراع رافعة طويلة بالارتفاع إلى الأعلى، إلى الأعلى، فوق التركيبات الهندسية وفوق الاستديوهات، فوق الأشجار والأبراج، بل وتمادت في الارتفاع نحو السحاب، إلى أن توقفت معلّقة في وهج غروب يكتظ بأشعة الشمس، أعارني أحدهم منظاراً فرأيت على ارتفاع يزيد عن ألف متر، فوق مقعد "فراو"، مثبت بقوة على منصة الرافعة. رجلاً يرتدي بنطالاً من الجلد، يلتف حول رقبته وشاح من الحرير الهندي، وخوذة على الرأس، وثلاثة مكبرات صوت وأربعة ميكروفونات وحوالي عشرين صفارة معلقة على رقبته، ها هو، كان هذا المخرج بلاسيتي. ?هنا يلفت فليني إلى أنه شعر آنذاك بأنه غير مؤهل لممارسة الإخراج لافتقاده ميزات الحزم، الجَلد، الدقة الشديدة، الاستعداد لإرهاق نفسه وأشياء أخرى كثيرة، ولكن في المقام الأول للسلطة، وهي صفات لا وجود لها في شخصيته،حسبما يقول. فقد كان طفلاً منغلقاً إلى حد كبير، يعشق العزلة، يسهل الاعتداء عليه، معرّض للهجوم، ولا يزال على عكس ما يعتقد الجميع، شديد الخجل، كيف لهذه الصفات أن تتماشى مع الحذاء الطويل، مكبر الصوت، الصراخ، أسلحة السينما التقليدية؟ لا يختلف إخراج فيلم عن سيطرة كريستوفر كولومبوس على بحارته الراغبين في العودة، فأنت محاط بوجوه عمال الكهرباء وسؤالهم الصامت: أسننتهي من العمل في ساعة متأخرة هذه الليلة أيضاً يا أستاذ؟ ودون القليل من السلطة لا يتورعون عن دفعك بمودة، إلى خارج الأستوديو. روسليني معلماً ويوضح بعد ذلك دخوله للسينما عبر كتابة السيناريو، فيذكر توجهه إلى أماكن التصوير لتغيير بعض المواقف أو جُمل الحوار، واندهاشه من قدرة المخرج على الاحتفاظ بعلاقات غير حميمة مع الممثلات، و صعوبة عليّ كتابة الحوار في مثل هذه الفوضى، فيقول: يزعجني العمل الجماعي، حيث يشترك الجميع في إنجاز شيء واحد، متحدثين بصوت مرتفع، انتهى الأمر في المقابل بعدم قدرته على العمل بشكل جيد سوى في أجواء فوضوية، شأن ما كان يفعل خلال عمله الصحفي، حين كان يكتب المقالات في اللحظات الأخيرة وسط فوضى هيئة التحرير. ويبين أنه كان يشعر براحة أكبر خلال تصوير المشاهد الخارجية، وكان هناك معلمه الحقيقي روسليني، و كيف مثلت بالنسبة له تجربة العمل مع روسليني ورحلة فيلم "بايسا" اكتشافاً لإيطاليا. ويفصل فليني علاقته بروسليني،"أعتقد أنني تعلّمت من روسليني درساً لم يُترجم أبداً إلى كلمات، ولم يصرّح به، ولم يتحوّل إلى منهج ألا وهو الحفاظ على التوازن وسط أكثر الظروف سوءاً وإعاقة، وفي الوقت نفسه القدرة الطبيعية على استغلال هذه المشاكل لصالحي وتحويلها إلى شعور، إلى قيم عاطفية، إلى وجهة نظر، هذا ما كان يفعل روسليني، يعيش أجواء الفيلم وكأنها مغامرة رائعة، عليه خوضها وسردها في الوقت نفسه، مكّنه التصاقه بالواقع من انتباه وتيقظ ووعي، واختياره مكاناً واضحاً ومحدداً ما بين لا مبالاة الانفصال وحُمق الارتباط، مكنه هذا من الإمساك بالواقع ورؤيته من جوانبه كافة، من رؤية الأشياء من الداخل والخارج في آن معاً، من التقاط صورة للأجواء المحيطة بالأشياء، وإيقاظ ما في الحياة من أمور لا يمكن الإمساك بها، غامضة وساحرة، أليست الواقعية الجديدة، كل هذه الأمور مجتمعة؟ عندما يدور الحديث عن الواقعية الجديدة، يكون روسليني المرجع الوحيد، فالآخرون قدموا أعمالاً تتميز بالواقعية أو نقلت الحقيقة، أو حاولوا التعبير عن موهبة ورسالة في مجرد معادلة وصفة". الشيخ الأبيض ثم يحدثنا فيليني عن تجربته الأولى مع عالم الإخراج، وأول المشاهد التي قام بتصويرها حين تصدى لإخراج فيلم "الشيخ الأبيض". وصلت مدينة فرجيني في العاشرة إلا ربعاً، بينما كان الموعد في الثامنة والنصف، كان الجميع قد صعدوا على متن مركب، ابتعد قرابة كيلومتر في مياه البحر، بدوا لي بعيدين جداً لا يمكن بلوغهم، لما أقلني زورق آخر للحاق بهم، صدني شعاع الشمس عن متابعتهم، لم يكن اللحاق بهم مستحيلاً فقط، بل ما عدت أتمكن من رؤيتهم، تساءلت ما الذي يمكن عمله الآن، لم أتذكر قصة الفيلم، لم أتذكر أي شيء، تمنيت فقط الفرار والنسيان، وفجأة زال كل شيء ما إن وضعت قدمي على سلم من الحبال، تسللت داخل فريق التصوير، تملكني الفضول لمعرفة كيف ستسير الأمور، كان عليّ، أنا مساعد المخرج والمخرج الثاني، الذي لم يسبق له أن نظر من عدسة الكاميرا، أن أخرج في ذلك اليوم الأول مشهداً كان سيثير مخاوف حتى كيروساوا: التصوير في البحر، أي تصوير شيء يتحرك باستمرار يختلف عن الوضع الذي صورت فيه من قبل، لم تكن هناك حاجة للمحاولة، ولم أحاول بالفعل، لم أصوّر أي شيء في يومي الأول، وأخذ وكلاء الإنتاج ينظرون إليّ بأعين ملؤها الاحتقار والتهديد، بدا لي أمراً مرهقاً جداً، إن لم يكن مستحيلاً، إدخال كل شيء في ثقب كاميرا التصوير، حاولت تذكّر ما كان يقوم به المخرجون الذين عملت معهم في كتابة السيناريو، فكنت أتذكّر دائماً تقريباً روسليني فقط، الذي لا يضاهيه أحد. مخرج مستبد باختصار استعدت السيطرة على فيلمي، ومنذ تلك اللحظة وجدت نفسي دون أن أعرف شيئاً عن العدسات، ودون أن أعرف أي شيء، قد أصبحت مخرجاً مستبداً، يصر على ما يريد، ملح المطالب، دقيق، ومتعدد النزوات، يتمتع بكل رذائل وفضائل المخرجين الحقيقيين، التي كنت أكرهها أو أحسدهم عليها. ويعرّج فيليني إلى الحديث عن كيفية نشأة فكرة أي فيلم، ومن أين تأتي الفكرة، وما هي المسارات المتقطعة والمستترة التي على أي مخرج المرور بها، مسترجعاً تجربته مع تصوير فيلمه "الطريق" بعد مرور 25 عاماً عليها، موضحاً أن الفيلم قد ينشأ من شذرة صغيرة غير مهمة، مثل ما يتركه لون من انطباع، أو ذكرى نظرة، أو لحن موسيقي تعيده الذاكرة بإلحاح على الآذان لأيام كاملة.?ويتساءل فيليني: لماذا أخرجت هذا الفيلم تحديداً بدلاً من غيره؟ لا أرغب في معرفة ذلك، فالأسباب غامضة، لا يمكن اكتشافها،و فهي مشوشة، السبب الوحيد الذي يمكن الإعلان عنه بنزاهة هو توقيع عقد: أوقّع، أحصل على مقدم مالي، وبما أني لا أرغب في إرجاع هذا المال فأنا مجبر على إخــراج الفيلم وأقوم بهذا بالشكل الذي يرغب الفيلم برأيي في أن ينفذ به.?انطلق فيلم الطريق من مجرد شعور غير واضح، قضية معلقة كانت تسبب لي حنيناً يصعب تحديد معالمه للماضي، شعور بالذنب يتمدد كالظل، غامض ومؤلم، مفعم بالذكريات والحدس، شعور كان يلح عليّ بفكرة رحلة شخصين، جمعهما القدر دون معرفة السبب، نشأت القصة بسهولة شديدة، واتضحت لي الشخصيات بشكل تلقائي، وجرت شخصيات أخرى، وكأن الفيلم كان مُعداً منذ فترة وكان ينتظر العثور عليه فقط، وكيف عثرتُ عليه؟ أعتقد أن جوليتا منذ زمن كنت أرغب في كتابة فيلم لها. أعتبرها ممثلة قديرة وبشكل فريد على التعبير بصورة فورية على الدهشة، والفزع، والسعادة العارمة، والحزن الكوميدي للمهرجين، جوليتا ممثلة مهرجة، فهي فعلاً مهرجة حقيقية، يُغضب تعريفي هذا، الذي أعتبره نبيلاً، الممثلين لشكهم في كونه يعكس نوعاً من التقليل من الشأن، عدم الاحترام، لكنهم مخطئون، فتمتع الممثل بموهبة المهرج أهم صفاته ودليل على استعداد أرستقراطي لممارسة فنون العرض. رأيت هكذا شخصية جيلسومينا، مهرجاً، ثم رأيت على الفور إلى جانبها في تناقض واضح كتلة ضخمة ومعتمة، زامبانو، وبالطبع "الطريق" وهو السيرك بأقمشته المهترئة الملوّنة، موسيقاه الموحية بالخطر والمثيرة للحزن، أجواء الحكايات الشرسة، لقد تحدثت كثيراً عن السيرك، يُفترض لهذا أن يحد من رغبتي الجامحة في الحديث عنه مجدداً. روح المسؤولية يؤكد فليني على أنه لا مكان للصدفة في السينما، ويفصل ذلك :أعلم أن هناك علم جماليات سينمائية يقدم نظريات حول دور الصدفة، إلا أن السينما تستغل برأيي جهل من يتوجه لمشاهدة الأفلام، إذا اجتمع مصور جيد، ومصمم ديكور جيد وممثل جيد فسينتج عن ذلك دون شك شيء ما، لكنه شبيه بما يخرج من ورشة حياكة، بما يمكن للصدفة أن تبلغ، وهناك نموذج من صانعي السينما المضاربين بكل هذه الأمور، وكلما ازداد تواضع هؤلاء كلما ازدادت ورشات الحياكة، الصدفة، كرماً تجاههم.?يستهويني أسلوب عمل مختلف، حيث يجب التعامل بصرامة مع مزيج الأفكار المبهم هذا، غير الواضح، الفيلم بشكله المختزن في المخيلة، يقوم عمل من يؤمن بقدرته على تجسيد الظلال والأشكال والأضواء على الصرامة والمرونة معاً، عليك أن تكون حازماً، ألا تتساهل، ولكن أن تكون مرناً أيضاً، حريصاً على استشعار المقاومة، الاختلاف وكذلك الأخطاء بروح مسؤولية يقظة، ليست المفاجآت دائماً وفقط عوائق، بل غالباً ما تكون عاملاً مساعداً، وكل ما يحدث منذ أن تراودك فكرة الفيلم، ثم خلال الإعداد والتصوير أو المونتاج مفيد في النهاية، ليست هناك أحداث أو ظروف أو عوامل يمكن اعتبارها غريبة تماماً عن الفيلم، كل شيء جزء من الفيلم. ومروراً بالعديد من تفصيلات صناعة الفيلم الواردة عبر صفحات الكتاب، يكشف لنا فيليني حقائق ورؤى قد لا تتبين للكثيرين من المهتمين بالسينما سواء من الجمهور العادي، أو من أهل الفن السابع وهو ما يستلزم القراءة المتروية لما بين دفتيه.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©