الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تاريخ في مستوقدات الفول

تاريخ في مستوقدات الفول
17 أغسطس 2011 23:12
صدرت الطبعة الأولى من كتاب “مجموعة الوثائق الفاطمية” قبل أكثر من نصف قرن، ويطرح فيه صاحبه قضية لم يتم الالتفات إليها جيدا، وتتعلق بغياب الوثائق عن التاريخ الإسلامي، مما يجعل آراء وأحكام المؤرخين متشابهة، ذلك أن المؤرخين يعتمدون على بعض المصادر، ينقلون منها حرفيا، وهذه المصادر قد تكون كتب أدبية أو تاريخية، وأصحاب هذه المصادر، غالبا، تأثروا بعلاقاتهم بمن يؤرخون لهم من خلفاء وملوك وأمراء، سواء كانت علاقة ود وصداقة أو عداء وكراهية، ولنا في ذلك نموذج بهاء الدين قراقوش، فقد كان وزيرا ناجحا وله آثار إيجابية، ولكن لأنه لم يكن ودودا مع ابن مماتي، هجاه الأخير هجاء قاسيا التصق به الى اليوم، لدينا كذلك كافور الأخشيدي، وكان حاكما مصريا قويا وأقام دولة مهمة في التاريخ هي دولة الاخشيد، لكن تعرض كافور لهجوم حاد من المتنبي في عدة أبيات، بقيت في التاريخ عنوانا على كافور ولو أن هناك وثائق يتم تناول التاريخ والشخصيات الإسلامية من خلالها لاختلف الأمر بالنسبة لكثير من أحداث التاريخ الإسلامي. ديوان الإنشاء وقد عرفت الدولة الاسلامية “ديوان الإنشاء” وكان هناك كتاب الإنشاء، وكان هذا الديوان يهتم بحفظ المكاتبات التي تصدر عن الخلفاء والأمراء، سواء لغيرهم من المسؤولين في الدولة أو للحكام الأجانب، فضلا عن الرسائل التي تصلهم كذلك من الحكام أو من كبار المسؤولين في الدولة، وكانت هذه الرسائل ترتب وتوضع في سياق يحفظ تسلسلها التاريخي، ويتيح للباحث لو درسها معا ان يخرج بنتائج مهمة، لكن المشكلة ان هذا الديوان كان يتعرض للتلف وربما للإحراق مع صراعات الحكام وسقوط الدولة، لذا تبددت كنوز من وثائق الدولة الإسلامية والعربية وضعف التناول التاريخي لها، ولذا يبدو التاريخ الإسلامي في بعض الكتب الحديثة أقل كثيرا من حقيقته، كما انه ضعيف ومكرر حينا وباهت حينا آخر، وتخرج أحكام المؤرخين صادمة ومجافية للوقائع أحيانا اخرى. ينطبق هذا على الدولة الفاطمية، ذلك ان صلاح الدين الأيوبي حين تولى حكم مصر وأسقط بذلك نهائيا الدولة الفاطمية أحرق التراث الفاطمي من وثائق وكتب ومكتبات، ويذكر بعض المؤرخين ان الأوراق الفاطمية التي حملت الى مستوقدات الفول المدمس بالقاهرة ظلت سنوات توقد بها، وكان صلاح الدين يريد إعادة بناء الدولة وفق المذهب السني لذا تخلص من كل أوراق ووثائق دولة الفاطميين، وبقي الدارسون والمؤرخون لهذه الدولة يعتمدون على انطباعات وكلام مرسل لبعض الرحالة أو بعض كتب المؤرخين الذين عاصروا تلك الحقبة، وذاكرة المؤرخ لن تستوعب كل شيء ولن تلم بكافة جوانب الصورة، فضلا عن أن الوثائق تحمل غالبا أمورا قد لا يعلم عنها المؤرخ شيئا مع الكثير من التفاصيل الدقيقة والأسرار والخفايا التي لا يحب الحكام الإعلان عنها أو ذكرها للمقربين منهم. وقد أتيح للمؤرخ الراحل د. جمال الدين الشيالي أستاذ التاريخ الاسلامي بجامعة الاسكندرية، أن يعثر على ثلاث وثائق أصلية تعود الى العصر الفاطمي محفوظة بمكتبة دير سانت كاترين الواقع في شبه جزيرة سيناء حاليا في محافظة جنوب سيناء وهي وثائق أمانات، أي إنها صدرت لتأمين رهبان دير سانت كاترين على أرواحهم وممتلكاتهم وديرهم وأوقافهم وممارسة صلواتهم وعلاقاتهم بالبدو في المنطقة وبالدولة. وأقدم هذه الوثائق صادرة عن ولي عهد المسلمين عبدالمجيد، وهو الذي تولى الخلافة والإمامة فيما بعد وتسمى باسم الحافظ وتعود الى ذي القعدة سنة 524 هجرية ـ أكتوبر 1130 ميلادية. الثانية بعد الأولى بحوالي 26 سنة وهي صادرة عن الخليفة الفاطمي الفائز والثالثة كانت صادرة عن الخليفة العاضد في مارس 1169 ميلادية (564 هجرية) وعلى هذا النحو سار د. الشيالي في البحث حتى أمكنه العثور على 110 وثائق كلها من العصر الفاطمي وتلقي أضواء مهمة على تاريخ تلك الدولة ودورها في حياة مصر وبلاد المنطقة خاصة بلاد الشام التي اهتم الفاطميون بإرسال دعاتهم إليها للتبشير بدولتهم، ومذهبهم وأفكارهم وغني عن القول إن الدولة الفاطمية كانت تدين بالمذهب الشيعي الإسماعيلي. مقتل الوزير ومن أندر هذه الوثائق وثيقة من زمن الحاكم بأمر الله، ولا أظن ان هناك وثيقة مثلها فهي تثبت ان الحاكم بأمر الله قتل وزيره برجوان ويشرح لماذا قتله، وهذا الوزير هناك حارة باسمه الى اليوم تقع في القاهرة الإسلامية، وكان الحاكم قد ولي الخلافة بعد موت والده العزيز بالله في رمضان سنة 386 هجرية، وكان عمر الحاكم وقتها إحدى عشرة سنة وخمسة اشهر وستة أيام، وقام بتعيين ابن عمار وزيرا له وما لبث ان أقاله الحاكم بعد أقل من عام (حوالي 11 شهرا)، فقد اختلف عليه رجال الدولة، وبعده أقام في الوزارة أبا الفتوح برجوان الصقلي وكان برجوان خصيا أبيض تام الخلقة ربي في دار الخليفة العزيز بالله. وكان برجوان ممن عملوا على إفساد الأمور على سلفه ابن عمار، فقد كان قويا في القصر وله علاقات واسعة بالجند، وارتقت به الأحوال واستبد في منصبه ولم يعد يأبه بالحاكم ولا يهتم به. يقول المقريزي في كتابه “اتعاظ الحنفا”: “بلغ النهاية فقصر عن الخدمة واشتغل بملذاته وأقبل على سماع الغناء، وكان كثير الطرب شديد الشغف به، فكان يجمع المغنين من الرجال والنساء بداره، فيكون معهم كأحدهم ولا يخرج من داره حتى يمضي صدر النهار ويتزاحم الناس على بابه، فيركب الى القصر ولا يمضي الا ما يختار من غير مشاورة”. وكان ان عمل الحاكم على قتله وقتل، ويذكر المقريزي ان برجوان كان من استبداده يكثر من التكبر على الحاكم فحقد عليه أمورا منها انه قال بعد قتله “انه كان سيء الأدب جدا، والله إني لأذكر وقد استدعيته يوما ونحن ركبان فصار اليَّ ورجله على عنق دابته وبطن خفه قبالة وجهي فشاغلته بالحديث ولم أذكر له ذلك”. قتل برجوان على يد الحاكم، وفي اليوم التالي توجه الى القصر كثير من رجال برجوان ومحبيه، كانوا غاضبين فطلع عليهم الحاكم ليخاطبهم “ان برجوان عبدي استخدمته فنصح، فأحسنت اليه، ثم أساء في اشياء عملها فقتلته”. ذهب الحاكم بأمر الله الى أبعد من هذا فأمر بكتابة سجل اي وثيقة كي تلقى على المقابر أمام المصلين في مساجد القاهرة وغيرها من المساجد الكبرى في مصر، وقام بكتابته كاتب الإنشاء ابو منصور سورين وجاء في هذا السجل “ان برجوان كان فيما مضى عبدا ناصحا، أوصى أمير المؤمنين حينا فاستخدمه كما يشاء، فيما يشاء، وفعل به ما يشاء” وفيه أيضا “لقد كان أمير المؤمنين ملكه فلما أساء البسه الفقم”. ترى هل يمكن لمؤسسة أو جامعة ان تتولى التنقيب والبحث في وثائق الدولة الإسلامية بمختلف عصورها ومحاولة جمعها ودراستها حتى لا يبقى التاريخ الإسلامي نهبا لأحكام انطباعية أو عنصرية تصدر هنا وهناك؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©