الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صورة الذات في تحولاتها

صورة الذات في تحولاتها
17 أغسطس 2011 23:10
تعود الروائية السورية سمر يزبك في روايتها الأخيرة “لها مرايا” إلى التاريخ في لعبة تخييل تزواج بين زمنين هما الماضي والحاضر، في لحظة توتر واشتباك بينهما، تحاول فيها ومعها أن تستكشف جانبا مهماً من تاريخ الطائفة التي تنتمي إليها، حيث يحيلنا عنوان الرواية المَُؤلف من جملة اسمية حذف مبتدؤها في بنيته النحوية والقائم على الحذف على ضمير المؤنث الغائب، ما يثير اللبس من خلال انفتاحه على مستويات متعددة من التأويل، تتعدد بتعدد مستويات قراءته ونوع القارئ، إذ يمكن أن يكون هذا الضمير عائدا على شخصية بطلة الرواية ليلى الصاوي الممثلة المعروفة التي تربطها بشخصية بطل الرواية سعيد ضابط الأمن المشهور علاقة حب غريبة، أو على صورة اللحظة الراهنة المأزومة في تقابلها الضدّي مع صورتها القديمة في مرآة الحاضر المأزوم، أو على ما تمثله شخصية ليلى من ضياع ومأساوية وصراع بوصفها تكثيفاً واختزالًا عبر لعبة التخييل السردي لوعي جمعي لا يزال مشتتا وضائعاً في اختياراته ومواقفه. تبدأ الرواية من مشهد جنازة الرئيس الذي يراقبه سعيد على شاشة التلفاز من قصره البعيد بعد أن أحيل على التقاعد، ولم يعد يهتم لأمره أحد، ثم يتحرك زمن الرواية في حركة حلزونية بين زمن الماضي وزمن الحاضر كاشفاً عن مفارقة غريبة، تحاول الرواية من خلالها أن تحاكم مرحلة ورموزا انقلبوا مع التحول الذي طرأ على أوضاعهم من ضحايا إلى جلادين، طال بطشهم وعنفهم حتى أبناء الطائفة نفسها عندما اختلفوا معهم في الموقف والانتماء السياسي. تحولات الشخصيات قبل القراءة في شخصيتي بطلي الرواية ضابط الأمن المتقاعد سعيد وليلى الصاوي، لابد من الإشارة إلى أن أغلب الكتابات التي نشرت عن هذه الرواية انشغلت بمناقشة وقائع التاريخ التي استعادتها الكاتبة، سواء ما يتعلق منها بتاريخ قدوم عائلة بطل الرواية سعيد إلى مناطق الساحل السوري، أو تاريخ الطائفة ما جعل الحوار ينأى بدرجة أو بأخرى عن دراسة بنية السرد الحكائي وشخصيات الرواية وحركة السرد ومدى تماسك تلك البنية وعمق الشخصيات التي قدَّمتها من حيث فاعليتها ودلالاتها ووظيفتها داخل بنية الرواية، خاصة وأنه لا يمكن دراسة تلك الشخصية بمعزل عن عناصر السرد الحكائي الأخرى في الرواية. تبدأ الرواية بحافز تقديم مكاني لمشهد الجنازة الصاخب والمتحرك، يعقبه تقديم لشخصية سعيد الذي يظهر منذ البداية موقف الكاتبة منه، ومحاولة التأثير في المتلقي من خلال وصف الصورة التي يبدو عليها في ذلك المشهد: “كان يصرخ من جوفه المعبأ بالغازات وروائح الشواء من الليلة الفائتة، وحرقة العرق لم تتركه منذ أن تعوّد شربه دون خلطه بالماء مكتفيا بقطعة ثلج صغيرة... تجشأ وشمّ رائحة العرق ثانية”. بعد تقديم شخصية بطل الرواية في عزلته الجبلية يأتي تقديم شخصية البطلة حيث يلعب الوصف دوراً مهماً في الكشف عن الوضع المأساوي الذي انتهت إليه، وإذا كانت شخصية سعيد تتسم باتساقها مع ذاتها على الرغم من حالة الحب التي عاشها مع ليلى، وانسجامها مع وظيفتها ودورها، فإن شخصية ليلى تتسم بأنها شخصية مركبة تعيش تناقضها الأخلافي والاجتماعي الذي ينعكس على سلوكها ويتركها صريعة لمشاعر متناقضة، فهي من جهة تعيش حالة الحب وتستغرق فيها مستمتعة بالرفاهية والحياة الباذخة التي تعيشها مع سعيد، ومن جهة تشعر بتأنيب الضمير والمرارة بسبب استسلامها لهذه العلاقة مع رجل يقوم بتعذيب شقيقها وسجنه لكونه معارضاً سياسياً، لكنها رغم ذلك لا تستطيع التخلص من تلك العلاقة التي يتخلص هو منها بصورة مأساوية، بعد أن تتحول إلى عبء عليه، وتحول دون امتلاكه لها. وعندما يًُزج بها في السجن بتهمة تعاطي المخدرات على الرغم من أنه هو من علمها تعاطيها أثناء لقاءاتهما الحميمية في المنزل الخاص الذي أعده للقاءاتهما، فإنه لا يبادر إلى مساعدتها ويتركها تواجه مصيرها الحزين وحيدة. تعيش شخصية ليلى قلقها وصراعها مع ذاتها وتتسم علاقتها مع سعيد بالانجذاب والنفور في آن معا، فهي من جهة تستغرق في متع تلك الحياة الباذخة التي يوفرّها لها، ومن جهة تشعر بتأنيب الضمير، عندما تتذكر القهر والإذلال الذي مارسه مع شقيقها المعارض، لكن تلك الشخصية عندما تشكل عبئاً عليه ويشبع رغباته منها يطردها، وهو في وضعه الذي انتهى إليه بعد التقاعد لا يختلف عنها كثيرا، إذ أبعد عن كل شيء ولم يعد أحد يهتم لأمره بعد أن انتهى دورها، ولم يبق لها إلا الاستمتاع بالثروة التي حققتها من خلال استغلال موقعها ونفوذها. تنتهي شخصية ليلى بعد تلك التحولات الغريبة التي واجهتها إلى حالة من الضياع والبؤس والوحدة إذ لم يتبق لها سوى صديقتها ماري الفقيرة، في حين ينهي أخوها حياته شنقاً احتجاجا على المصير المأساوي الذي انتهى إليه هو وشقيقته. إن هذه التحولات في مصائر وحياة الشخصيات وعلاقاتها داخل بنية السرد الحكائي هي التي تسهم في تنامي أحداثها وتطورها، وفي الكشف عن طبيعة العلاقات التي تحكم تلك الشخصيات داخل هذا العالم الذي يتمركز حول زعيمه ويقوم على العنف والانتقام والصراع. بنية التناقض سعيد الذي انحاز إلى قائده الجديد وأخلص له متنكراً لرفاقه السابقين، كما فعل قائده الذي انقلب عليهم يعاني من وسواس النظافة والشك حتى فيمن يخدمونه، فيصنع قهوته بنفسه، في عالم يحكم علاقاته الشك والارتياب. وعلى الرغم من مغامرات سعيد المعروفة مع النساء إلا أنه يتعلق بليلى، ثم يتخلى عنها بعد لجأت أخيرا تحت ضغط تبكيت ضميرها لها إلى منعه من امتلاكها فكان لابد من العقاب: “هو رجل عسكري فقط، تأتي النساء وتذهب في حياته، كما تأتي أشياؤه الأخرى، طعامه وملابسه ومعارفه. إنه يكرهها في أعماقه، لا يعرف هل يكرهها إلى الدرجة التي يفكر فيها بالتخلص منها، أم يحبها إلى الدرجة التي يخاف من قربها إلى هذا الحدّ، لقد منعت نفسها عنه وهذا ما لم يحتمله أبدا وهي الآن تنال عقابها. هذه هي الحياة قال بصوت عال. العقاب أحد أهم أسباب نجاح البشر”. كذلك رغم الرهبة والخوف اللذين يبعثهما شخصيته عند الآخرين فإنه يحمل في داخله مشاهد خوف مترسبة من طفولته، توقظها مشاهد خوف جديدة عندما تطوق مكتبه عناصر مسلحة يرسلها الزعيم لإقالته من منصبه، الأمر الذي يكشف عن شخصية مركبة تعيش تناقضها في عالم يظل الخوف يحكم الجميع، طالما أن هناك شخصية واحدة هي التي تحرك خيوط اللعبة وتحدد مصائر الجميع وفق مصالحها ورغباتها بغض النظر حتى عن مدى إخلاص الشخصيات الأخرى لها . إن من حق هذه الشخصيات أن تسرق وأن تجمع الثروة الطائلة والتمتع بها كيفما تشاء مكافأة لها على إخلاصها لزعيمها، لكن ليس لها الحق في الاحتجاج أو الرفض مهما كان موقعها أو الأدوار التي قامت بها، فالزعيم وحده هو من يملك الحق في كل شيء. والغريب أن تلك الشخصية التي تنتهي هذه النهاية الحزينة، يظل حبها وإخلاصها لهذا الزعيم قويا، ولا تستطيع أن ترى نفسها بعيدا عن هذه العلاقة رغم استبعاده لها، الأمر الذي يجعلها تشعر بالنقمة على من حول الزعيم لأنها استبعدته عن المساهمة في التحضير لموكب جنازته. إنها شخصية التابع والسيد التي تربت عليها حيث يتحول السيد إلى طوطم يمارس رهابه على الجميع. تنتهي الرواية بينما سعيد يذهب في اتجاه العاصمة وليلى باتجاه بلدتها يلتقيان في نقطة ما على نفس الطريق دون أن يعلما، إلا أن كلا منهما يمضي باتجاه مختلف، ليلى بحثا عن ملجأ لحياة مهدّمة، وسعيد بحثا دور أصبح من الماضي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©