الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصائد كالناس..

القصائد كالناس..
17 أغسطس 2011 23:10
تمنحنا قراءة ميراث الشاعر السعودي محمد الثبيتي “1952 ـ 2011” فرصة معاينة مقترح حداثي متوازن لا يفرط بالوزن ولوازمه كمحرق إيقاعي، ولا يجافي الحداثة التي كان من أبرز رائديها في السعودية مع جيل من الشعراء الذين كانت تجاربهم ذات سمة كفاحية، لكونها تذبّ عن ثوابت فنية معروفة تصطدم بجدران التقليد الصلدة، وتشق طريقها بكثير من الصعوبة حتى لحظة تقبلها وتنامي كتابتها بتسارع وجرأة. كانت إسهامات الثبيتي المبكرة عبر دواوينه الأولى حتى ما قبل غيابه تندرج في تلك المنازلة مع القديم المحافظ في حِجاج متعدد الجوانب والجبهات، لكنه ارتضى لنفسه ركناً شديد الخصوصية، فاعتمدت قصيدته على استدعاء موروث شعري متراكم ومؤثر، في إطار فني يحتوي الحداثة في المعالجة والمضمون والرؤية، رغم ما تثقل به القصيدة نفسها من لغة يقول الشاعر عنها متسائلاً: “كيف أقرأ هذي الوجوه/ وفي لغتي حجر جاهليّ”. وربما كان الثبيتي بهذا السؤال يستبق ويصادر اعتراضات وتساؤلات قارئي شعره الذي يفترض أنه يعاين الوجوه الماثلة في عصره، بينما يرقد في لغته حجر جاهلي تمثله المفردات التي يصر على استدعائها من قواميسها، ثم اصطفافها مقفاة محبوكة الوزن. لكن قراءة أخرى ستنقل السؤال إلى أفق الاعتراض على الواقع الذي لا يخفي الشاعر مفارقته ومجافاته. وهو الذي أورثه هذه اللغة وحجرها الثقيل القادم من جاهلية لم تبددها الحياة العصرية. وتبقى محصلة المعاينة الأسلوبية مشيرة لإسقاط تعيشه لغة الشاعر، وقصدية واضحة تتجلى في التقنع بلغة القاموس لرفض الفكر المحافظ الذي يريد بدوره التقنع بتلك اللغة وثقافتها مبرراً لرفض الحداثة. الشهد والموس القصيدة كالحياة متلونة المذاق: شهْد على حدّ موس. هكذا كان الثبيتي يلخص رؤيته للكتابة الشعرية، وهي ـ كأية مخاطرة ـ يحفّ بجمالها الألم الذي يمثله الموس مقابل اللذة التي يمنحها الشهد، فهما يتقابلان ويمتزجان ليصنعا صورة حياة الشاعر نفسها، محفوفةً بمعاناة ليس المرض إلا الفصل الأخير منها، وربما كانت الهوة بين الوعي والواقع في انفصالهما وتباعدهما وتناقضهما هي الكِسرة الأكثر تجسيداً لحالة الشهد والموس التي لخص بها الثبيتي رؤيته.. فصار على الإنسان أن يحذر تذوق الشهد لأن حد الموس قد يودي بحياته. هكذا كانت روحه تجد هناءها وسلامها في ذرات الرمل وتضاعيف الصحراء تجسيداً للحرية التي يمنحها نقاء الرمل وفضاء الصحراء؛ ليعثر في قديمه المعتّق على جديده المفقود والمغيّب بفعل التابوات المتضاعفة والمصدّات الصلدة، حيث يعيش الشاعر وهو “مُزمَّلٌ فِي ثِيَابِ النُّورِ مُنْتَبِذٌ”، كما يقول في “بوابة الريح”؛ فنورانيته لم تمنع انتباذه للخارج وعزلته عنه، كما أن العزلة تلك لم تحجب نورانيته ووهج روحه. وكأنه بهذا يكمل دورة حياة سنّها لشعره بدءاً من الحلم الذي تهجاه وهما في ديوانه “تهجيت حلماً.. تهجيت وهماً” مروراً بـ”تضاريس” حياة شعرية معقدة لم تخلُ من صعاب يشخصها هو بانتزاع جرأته التي عرفها شعره الأول، منتهياً عبر ديوانه الأخير “بوابة الريح” التي لا يمكن لأحد أن يوصدها، لكنه ظل محافظاً على حداثة وزنية خرجت شيئاً فشيئاً إلى إشراقية جوانية ومواقف ومخاطبات تبثها الروح، فتركزت أمثولة الشهد القاتل أو اللذة المشوبة بالألم في شعره. أما القاموسية التي تمثلها مفردة الشهد رديفاً للعسل، فهي جزء من تماهٍ عاشه الشاعر مع التراث، وكأنه بذلك ينجز ثأراً من واقع صادم؛ فراح ينشئ لزوميات معاصرة تتكئ على المطابقات والتوافقات اللفظية في ضرب من التهكم الحزين والمجسد في المجانسات التي استراح لها، ووجد في مفارقاتها اللفظية انعكاساً لمفارقات الحياة ذاتها، فكان جمر القصيدة بالجيم كخمرها بالخاء. وهذه ترجمة عملية لثنائية الشهد والموس، واللذة والألم في معاناة كتابة القصيدة، وقراءتها أيضاً، وحياتها بين هذين القوسين اللذين يمثلان ولادتها ومصيرها. هذه الثنائية تكررت في قصائد كثيرة من أشهرها وأكثرها تداولا قوله: “أدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ/ صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ/ يُدِيرُ الرُّؤُوسْ/ وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ/ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ/ واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ المُسْتَطَابَةْ/ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوجَةً بِاللَّظَى/ وقَلِّبْ مواجعنَا فوقَ جَمْرِ الغَضَا/ ثُمَّ هَاتِ الرَّبَابَةَ/ هاتِ الرَّبَابةْ”. الدعوة للغناء تختم الشكوى؛ لأنها تستكمل مزجه الشراب باللظى، والمواجع متقلبة على جمر الغضا، والسقيا بقهوة مرة لكنها مستطابة. وهي مجانسات ستتعاقب في تقديمه لرؤيته للقصيدة؛ فيكون غروب المنى واغتراب الشموس كالمنايا التي تدار في الطرقات، والكؤوس التي تدور في الشرفات، وأيام الناس المتقلبة سعداً وبؤساً. قليلاً ما توقف الشعراء عند كنه وحقيقة القصيدة التي يحمّلونها مواجعهم ويضمّنونها حمولاتهم الفكرية ورؤاهم وعواطفهم. وتكون معاينة القصيدة بكونها كياناً مفرغاً من مضامينه مناسبة لتأمل مكابدة الشاعر في التعامل معها. إن كلا المخلوقين: الشاعر والقصيدة يكلفان بعضهما كثيراً من العناء، هي بعنادها وتأبّيها على التعيّن والملموسية، وهو بارتباكات عواطفه وانفعاله وهيجانه الشعوري. وحين أراد الثبيتي أن يعرفنا على القصيدة كما عرفها، اختارها عنوانا لنصه المعروض للمعاينة “القصيدة” من ديوانه “بوابة الريح”، فكانت “القصيدة” تعيش ما يشبه اللغة الواصفة المتحدثة عن نفسها أثناء اشتغالها. إلا أن الشاعر اختار أن يكون هو السارد الواقف خارج القصيدة كواقعة نصية، ولكن المتحدث عنها. في وصف القصيدة وكان الاستهلال بلفظ “القصيدة” أيضاً يزيد الاهتمام بما سيقدمه النص من تقريب لكيانها ووجودها، فكأنها مبتدأ وما سيلي من أبيات في النص خبر له، القصيدة مخبر عنها بتفصيل يتجه للشاعر نفسه. يخاطبه، ويحكي له عن أحوالها؛ فهو المروي له المبلَّغ بكل ما سيرد من حالاتها. تتوالى الجمل الشعرية الصغرى المتممة لمبتدأ القصيدة بإيقاعية مشددة، تفعيلة فاعلن التي تخب بالمعنى، كما تسوق الألفاظ متسارعة متداعية، والقافية الرائية جمر وخمر، قبل أن تنسحب لترد قافية السين حتى نهاية النص تأكيداً لحضور الموس الذي هو أحد طرفي المعادلة الفكرية ـ رؤية القصيدة، والفنية ـ التقفية بحرف السين، عطفاً صوتياً مضاعفاً لحضور الموس. وهناك التوازن الإيقاعي في توزيع المفردات فالفعل “قبضت” في البيت الثاني يقابل بالتساوي “أذبت” في البيت التالي، ووجود حرفي الجر في البيتين كذلك. لكن الأهم هو تبيُّن بؤرة النص من خلال تقسيمه إلى مقطعين غير مرقمين يتكون كل منهما من عشرة أبيات يزيد عليها في الأول لفظ القصيدة المستقل ببيت منفصل. وتفصل بين المقطعين إشارة طباعية تنبه للانتقال “***”، وتشير لانتهاء الجملة الشعرية الأولى؛ لتفسح لجملة جديدة. الجملة الأولى تعرف بالقصيدة من اتجاه كاتبها، فهي جمر وخمر، ومن حيث تأتيها فهي “شهد على حد موس” لك أن تتذوقه وتلتذ به، وهذا هو الجانب الجمالي أو المتعة في القصيدة، ولكن مع احتمال الأذى والجراح بسبب وجودها على حافة موس سيقطع شفتي متذوق شهدها. وهي إذن كالحياة التي نُقذف إليها فرحين ناسين احتمال خذلاننا في ثناياها. لذا يكون السؤال الفرعي “حتام” المتضمن زمناً أيضاً يتجه بالاستفهام عن الجدوى، جدوى معاشرة القصيدة كأنثى لا تدوم على وصل، وسط آلاف الفاتنات اللواتي ليس بينهن صالحة لعرس، ولا لأحداهن جمال يوسف، ولا أنت بحكمة لقمان لتسوسهن وتفلح في مسعاك. غدت الأنثى/ القصيدة عصية بجانب إمكان الموت بحد الموس وأنت مقبل على اللذة. وليس حذف الحرف الأخير في كلمتي لقمان ويوسف هو ضرورة وزنية أو بهدف التقفية فحسب، بل هو تعبير عن الفشل و”اللاجدوى” أيضاً. الجملة الشعرية الثانية أو المقطع الثاني يستفيد من تقرير ما وصل إليه المعنى في المقطع الأول. وهي تبدأ بالتساؤل: كيف تأتي القصيدة؟ وماذا تقول؟ وهما متوازنتان إيقاعيا تضمان الاستفهام عن المغزى والجدوى. في الأول سؤال الكيفية “كيف” مقذوف في ظرف زمني “بين” يتبعه طرفا الثنائية بمفردات جديدة: ليل كئيب/ ويوم عبوس. أما سؤال المحتوى “ماذا” المتضمن الاستفهام عما تقوله القصيدة، فمتبوع بظرف زمني أيضاً “بعد” مع تنويعين أو تفصيلين هما “غروب المنى/ اغتراب الشموس” الدالتان على الانقضاء والنهاية. يفسح البياض القليل بعد التساؤلين لسرد الإطار المحيط بالنص، وهو الشكوى مما في الحياة ذاتها من مفارقات “كؤوس تدور ومنايا تدار” ـ موت وشراب هما شهد وموس، تفصل بين وجودهما شرفات وطرقات، وإذن خلصنا إلى حقيقة كبرى: القصائد كالناس، لها مالهم في حياتهم من يومين متناقضين: سعادة وبؤس. اكتملت الدائرة بصيرورة القصيدة حياة ـ مؤنثة أيضاً ـ فالقصيدة/ الأنثى/ الحياة متقلبة متناقضة كالناس أنفسهم. توازنت في النص قاموسية المفردات وحداثة الرؤية، وأنتجت نصا يصف القصيدة ولا يبتعد عن حياتها في التداول، وما تحتمل من خطر لم ينج منه الشاعر نفسه، فغالته منية مفاجئة، وهو في ذروة عطائه. إمَّا قَبَضْتَ عَلَى جَمْرِهَا وأذَبْتَ الجَوارحَ فِي خَمرِهَا فَهْيَ شَهدٌ علَى حدِّ مُوسْ فَحَتَّامَ أَنْتَ خلالَ الليَالِي تَجُوسْ وعلامَ تَذودُ الكَرَى وتُقِيمُ الطُّقوسْ وأَلفٌ مِنَ الفَاتِنَاتِ الأنِيقَاتِ يَفْرَحْنَ مَا بينَهُنَّ عرُوسْ ولا أنتَ أوتيتَ حكمة لُقْمَا ولا هُنَّ أوتِينَ فِتنَةَ يُوسْ ? ? ? كيفَ تأتِي القَصِيدةُ ما بينَ ليلٍ كئيبٍ ويومٍ عبوسْ ؟ وماذَا تقولُ القصيدةُ بعدَ غروبِ المُنَى واغتِرَابِ الشُّمُوسْ فَعَلَى الطُّرَقَاتِ تُدَارُ المنايَا وفِي الشُّرفَاتِ تُدورُ الكؤُوسْ والقَصَائدُ كالنَّاسِ تَحْيا لهَا يومُ سعدٍ لها يومُ بُوسْ
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©