الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنطون دوشي: الفقر قلب الحياة

أنطون دوشي: الفقر قلب الحياة
17 أغسطس 2011 23:09
“على مدى سنوات المرحلة الابتدائية، كنت أجمع القش والتبن وروث البغال والبقر والصوف والنحاس من فوق أكوام القمامة، وآخذها جميعاً وأبيعها في المدينة، وأشتري ما نحتاجه للبيت، وفي موسم الحصاد، كنت أمشي خلف الحصادة وألتقط ما يتساقط منها من سنابل مع أمي وإخواني، ثم ندقّها لاحقاً، حتى إذا جمعنا كيساً من القمح نأخذه للطاحون ونخبزه، كانت طفولتي بائسة وكنت محروماً من كل شيء إلا من القهر والذل والحرمان واستبداد الوالد الفظ”. يتحدث أنطون دوشي الشاعر السوري المقيم في الولايات المتحدة، عن طفولته باعتزاز، لأنها أورثته النضج، ويسرد فقره بشموخ لأنه أورثه الغنى، وبين هذا وذاك، يستخدم لغة ساخرة يواجه بها سوداوية الموقف: “منذ فتحت عيني على الدنيا لم أر حذاء في قدمي، وفي مدرسة القرية الابتدائية، كان حذائي في الثلج والمطر والبرد “قبقاب غوار” ومعطفي كان جاكيت أبي الضخم المهشّم، فأنظر إلى ذلي وقهري، وأنا عاشق طازج للمرأة منذ نشوئي. كنت ذكياً جداً لكني لم أحصل على شهادة الابتدائية نتيجة تصغير سني 4 سنوات في السجل المدني، وحتى يا أخي لو حصلت على الشهادة، فلن أتابع الدراسة بسبب الأحوال المادية التي كانت تحت الصفر”. تمكن أنطون من قيادة الجرار في الثانية عشرة من عمره، هامة صغيرة فوق آلة ضخمة، يقودها في الليل والنهار، وفي الوقت الذي كان يحرث الأرض فيه، كان يعاقر تفعيلة ما: “لم أكن أدرك أنها تخص الشعر”، وقاده هذا الصوت الذي ألح عليه كثيرا إلى القراءة، فقرأ أول ما قرأ رواية “عرس الزين” للروائي الراحل الطيب صالح، ثم قرأ في الأدب الروسي والأوروبي وخاصة الفرنسي، وكتب أول قصيدة عندما اغتيل غيفارا، ولم يحتفظ بها: “لم أكن أعلم أي شيء عن الشعر أو الرمز أو اللغة الشعرية، لم أكتب بهدف الاحتراف، ولكن كنت تحت وطأة دافع خفي فطري، وعندما أعاينه الآن أجده رائعاً، كان ذلك في بداية السبعينيات، ولكن قبل نهاية العقد وضعت الشعر في ثلاجة، وأقفلت عليه لأنني أنهيت خدمة العلم وأنا متزوج وعندي أطفال، وساكن مع أهلي، ولا شيء لدي مادياً”. تدعونا حياة الشاعر السوري أنطون دوشي، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2000، إلى جلسة أمام الصحراء القاحلة، لندرك كيف يمكن أن ترش الرمل بالشعر لتنبت الحياة، وإلى مواجهة للبحر لنعلم كيف يدجن شاعر عاصفة الفقر ويستل لؤلؤه من عتمة الأعماق، ويسهر طيلة عمره يهذبها ويصنع قلادة لحكمته التي استلها من البؤس في طفولته، ومن المرض عندما أقبلت عليه الدنيا: “في عام 1987 أصبت بمرض السرطان في شفتي السفلى، وخضعت لعمليتين جراحيتين أدتا إلى قص وبتر 3 سنتمترات من شفتي، لكن المرض اللئيم عاد مجدداً، وانتشر في الرقبة، وهنا الطامة الكبرى، فاضطررت للذهاب إلى بيروت في عام 1988 تحت قصف ونيران الحرب الأهلية، وخضعت لعملية جراحية استمرت 12 ساعة: تجريف العنق، وبعدها خضعت للحرق بالطب النووي، 30 جلسة، ومن حينها حتى الآن، اختفى المرض تماما، لكني كنت رابط الجأش قوياً، وعدت إلى عملي بعد خمسة أيام من انتهاء علاجي”. هل تخاف الموت؟ يجيب: “طالما لا يوجد هناك حتى الآن إكسير للحياة، يبقى الموت عدالة مؤقتة لأنه يحل أزمة السكن والمياه والغذاء، ولولاه لما اتسع الكوكب لجميع ركابه وأيضاً لنفسح المجال لغيرنا أن يأتوا. الموت: إنه الجواب الوقح لسؤال بديع، والقوافي الخبيثة لقصيدة بريئة، إنه الامتلاء بلا انتهاء إنه غول في السماء، باختصار: إنه قاتل بلا إدانة”. الفقر قلب الحياة خسر هذا الشاعر كثيراً، وربح كثيراً، لكنه لا يزال أسير حياته الأولى التي شكلته، يؤدي لها التحية منتصراً، وفي عينيه تتحرك دمعة ولا تسقط. إنها دمعة الفقر.. ورغم ذلك، يمجد الحالة التي عذبته في طفولته ويصفها بأنها أعظم مدرسة في الحياة يؤكد: “إن أي مبدع لم يزره الفقر يبقى إبداعه فقيراً، همست مرة في أذن الفقر وقلت له: إنك غبي وعبقري؛ غبي لأنك لا تجيد جمع المال، وعبقري لأنك تجيده، الفقر قلب الحياة الذي يضخ فيها حركة التغيير، عشت حياة فقر مدقع، ليس كما يجب، ولا أقل مما يجب، بل أسوأ مما يجب”. كابوس لذيذ عشق الشاعر أنطون دوشي فتاة غنية خسرها بسبب حالته المادية التعيسة، لا تزال حتى اليوم تزهر في قلبه ككابوس لذيذ كما يقول، ولكنه يعترف: “كنت فاشلا في الحب، لم أكن ألتفت أبداً لألاعيب أقراني الذين كانوا يمارسونها في اصطياد الفتيات، ولم أؤمن يوما بأساليبهم الدونية والمنحطة، كان حبي عذرياً حتى أقصاه، وكنت إذا مررت بقرب فتاة، أمشي مزهواً كالأمير، حتى تكتبني هي وليس أنا، ولم أمر بعلاقات جنسية إلا يوم تزوجت، نعم سيدي حصل هذا معي في الثلث الأخير من القرن العشرين، صدق أو لا تصدق، كانت فترة شبابي كلها قراءة، وحتى الآن لم تنطفئ من قلبي جذوة الحب الأول، الذي خسرت فيه حبيبتي الأولى، وبقيت تلازمني وتجلس في أعماقي حتى اللحظة، وهذا ما جعلني تعيساً حتى اليوم، ولم تدعني أحب أي امرأة سواها حتى زوجتي. إنه كابوس لذيذ يا صديقي”. أنا المدفأة التي تبحث عن حطب الحياة كي لا تموت النار في جوف الجسد أنا التائه الذي يحوم حول أعمدة المعبد لا يحمل في جيبه أوراق الصلاة ولا بهي الأناشيد أنا الأبله الذي تراكم فوقه صدأ العشق من تخوم الشهوة الأولى منح الشاعر دوشي للحياة ستة دواوين شعرية: “صراخ بلا صوت”، “من وجع الجذور”، “لماذا محوتم آثار أقدامي”، “بكاء من مقام التفوّق”، “سباحة في الأنا”، و”حيدة ترحل القناديل”، وكتب سلسلة “وهج” ويقول عنها إنها عبارة عن رؤى فلسفية في الحياة، كتبها في عام 2009 بأسلوب مختلف عن الشعر والسرد، رغم أنها تقترب أحيانا من الشعر، وأصدرها في سبعة أجزاء تحت عنوان “وهج” وهي: إشراقات بلا وقت، تحريض العقل، عاصفة فوق السكون، مغامرة الوعي، من وحي المنطق، تأمل أكثر تأملاً، ونضوج القلق. يقول عن الشعر: “لولاه لحدث اختلال في توازن الحياة، إنه الحياة التي تموت كل يوم، والموت الذي يحيا كل يوم. ولولاه لما عصفت رياح الثورات في العالم، ولا رأينا مشاعل الحرية ولا أنوار الفلسفة ولا ميزان العدالة ولا روائع الفن والآداب”. ويقول عن الوطن: “ويل لمن لا وطن له، هو الرحم الذي يحتضنك إذا طردك العالم كله. وهو جواز السفر الذي تضعه في جيبك وتدور به العالم كله، وهو مواصفاتك الشخصية والأخلاقية، ويوما قلت في الوطن من غربتي: وطني، المقاصل فيك لا تخيفني.. لأني سأموت فيك، ما يخيفني هو: أن أحب يوما ما وطنا آخر أكثر منك”. وعن الغربة يقول: “موجعة ومؤلمة ومذلة، كل شيء فيها سلبي للغاية، ولكن تسجل لها نقطة إيجابية واحدة وهي: أنها تسوطك وتشدك من أذنك وتقول: “تذكّر وطنك”، بفضلها عرفنا قيمة الوطن أكثر ومحبته أكثر والموت في سبيله أكثر، الغربة صفير الريح التي تقرصنا حد البكاء..”. وعن أمنياته يقول: “كنت أتمنى أن أحب امرأة لوحدها من بين كل النساء، وأن تحبني امرأة لوحدي من بين كل الرجال، ستقول لي: هذه أمنية بسيطة، لكن وعلى الرغم من بساطتها، فهي صعبة التحقيق. ليس لي، بل لكل رجال ونساء العالم، فانظر كم من فقير سعيد وكم من غني تعيس”. أنا الثائر الصامت خلف الصوت أنا الصوت الذي غنى لحنا لا يشبه لحن الآخرين لحناً رخيماً طائراً صوب المعذبين كالسارقين والقاتلين والمثليين والساجدين والحاكمين. معذبون !! حاكمهم العقل منذ مراهقته البدائية نسيهم في أعمالهم الشاقة/ منبوذين/ دون أن يناقش الأرض والبذور كيف تولد الجريمة والمجانين. ? ? همست مرة في أذن الفقر وقلت له: إنك غبي وعبقري غبي لأنك لا تجيد جمع المال وعبقري لأنك تجيده ? ?ويل لمن لا وطن له هو الرحم الذي يحتضنك إذا طردك العالم كله وهو جواز السفر الذي تضعه في جيبك وتدور به العالم كله
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©