الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السيرة الناطقة .. الساكتة

السيرة الناطقة .. الساكتة
14 أغسطس 2013 19:51
مؤلف هذا الكتاب هو المنجي الكعلي (83 عاماً) وهو رجل سياسة شغل مناصب عليا في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، وتولى حقائب وزارية ودبلوماسية عديدة، فقد عمل سفيراً في إسبانيا أيّام حكم فرانكو وكان آخر منصب له هو سفير تونس في براغ عام 1986، وقبل ذلك كان مديراً للأمن الوطني ثم في فترة لاحقة مديراً للحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي) في الثمانينات، ووزيراً للصحة، وكاتب دولة للشؤون الخارجية، وكان أيضاً بالموازاة مع مسؤولياته الحكومية ممثلا شخصياً للرئيس الحبيب بورقيبة. وعلى غرار العديد من السياسيين الذين عملوا في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة والذين أصدروا مذكراتهم بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فإن المنجي الكعلي الذي كان صامتاً طيلة فترة حكم بن علي، أصدر هو أيضاً هذه المذكرات بعنوان: “في خدمة الجمهوريّة تحت إشراف بورقيبة” Au service de la République, sous l’égide de Bourguiba. والملفت أن أكثر الشخصيات السياسية التونسية المشار إليها أصدرت مذكراتها باللغة الفرنسية، رغم أنهم من “ذوي اللسانين”، ولكنهم يفضلون اللغة الفرنسية، ولعلهم يجدون أكثر يسراً في التحرير بها، علماً وأن أكثرهم يكلفون في مرحلة ثانية من يتولى ترجمة مذكراتهم الى اللغة العربية! وتحدث المنجي الكعلي في مذكّراته عن طفولته ويتمه المبكر بعد وفاة والده وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، كما أطنب في وصف مختلف مراحل تعليمه الابتدائي والثانوي والعالي، مبرزاً تفوقه وسفره الى باريس ودراسته للحقوق، فهو يروي مسيرته الشخصيّة والنضاليّة منذ أن كان شاباً يافعاً في مدينة “قصر هلال” الساحليّة الى أن أصبح تلميذاً بالمدرسة “الصادقيّة” بتونس العاصمة ثم طالباً في باريس عام 1954 حيث تعرّف على الزّعيم الحبيب بورقيبة فبقي ملازماً له عاملا تحت إمرته منذ ذلك التاريخ الى عام 1987، تاريخ إطاحة زين العابدين بن علي ببورقيبة فيما أصبح يعرف بـ”الانقلاب الصحي” عندما شهد 7 أطباء وبطلب من بن علي ـ وكان وزيراً أول (رئيس وزراء) ـ بأن بورقيبة طالت شيخوخته وهرم وأصبح عاجزاً صحياً عن القيام بمهامه على رأس الدولة التونسية، وبالتالي فإن الدستور يخول لبن علي أن يصبح بشكل قانوني رئيساً للبلاد. علماً وأن الدكتور عمر الشاذلي الطبيب الخاص لبورقيبة أصدر هو الآخر مذكراته في كتاب باللغة الفرنسية عنوانه “بورقيبة كما عرفته” أكّد فيه أن الأطباء الذين شهدوا بأن بورقيبة أصبح عاجزاً أدلوا بشهادتهم زوراً وأن أكثرهم لم يفحصوا بورقيبة منذ أعوام طويلة ولا علم ولا دراية لهم بالوضع الصحي الحقيقي له. والمؤلف المنجي الكعلي يؤكّد في مقدّمة مذكّراته قائلا: “لست مؤرخاً ولا أدّعي أنني قادر على كتابة تاريخ العقود الماضية من تاريخ تونس، وسأكتفي في هذه الشهادة بسرد الأحداث التي عشتها شخصيّاً” معترفاً بأنه مهما كان موقع رجل السياسة فلن يكون بإمكانه أن يكون على علم بكل ما يدور في هياكل الدولة وأجهزتها. والمؤلف يدافع عن بورقيبة دفاعاً مستميتاً، والحقيقة أن الكتاب صدر في فترة يشعر التونسيون فيها بالضياع والخوف من المستقبل وهم يبحثون عن “الأب”، و أن الكثيرين منهم وجدوا في شخصية الحبيب بورقيبة الأب وحصل شبه إجماع لدى شريحة كبرى من التونسيين بأن التفكير البورقيبي البراجماتي والحداثي هو المرجع الواجب العودة إليه في هذه الفترة التي اختلطت فيها السبل وكثرت فيها التجاذبات. تولى المنجي الكعلي منصب “كاتب دولة للشؤون الخارجية” وبذلك كان الشخصية الثانية المسؤولة بعد الوزير، ويروي المؤلف بعض الأحداث التي عاشها من موقعه ذاك ويكشف عن بعض الأسرار والمواقف من ذلك مثلا الحادثة التالية. يقول: “كان مقرّراً أن تعقد الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدّة اجتماعاً بنيويورك للنظر في مشكل حصل وقتها بين كوريا الشماليّة وكوريا الجنوبيّة ومناقشة خلاف بين البلدين المتنازعين، وكانت التوصيات الصادرة عن رئيس الجمهوريّة الحبيب بورقيبة بخصوص الموقف الواجب أن تتّخذه تونس خلال عمليّة التصويت هو الاحتفاظ بصوتها، ولأنّ وزير الخارجيّة التونسي كان غائباً وقتها فإنّ سفير الولايات المتحدّة الأميركية بتونس طلب مقابلتي لأمر عاجل، وفعلا قابلته في مكتبي وأعلمني أنّ حكومة بلاده تولي التصويت في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدّة حول الخلاف الكوري أهميّة كبرى وأنّ الولايات المتّحدة ستعيد النظر في مساعداتها لبعض الدول وفق تصويتها خلال الاجتماع المشار إليه، وطلب السفير في لغة الأمر: أنّه مطلوب إبلاغ هذا الموقف إلى الحكومة والرئيس، وكانت لهجة السفير لهجة صارمة وحادّة وتتضمّن تهديداً واضحاً”. ويضيف المنجي الكعلي، انه لما نقل الرسالة الشفوية من سفير الولايات المتحدة الى الرئيس بورقيبة وأحاطه علماً بلهجة السفير الحادّة كان جواب الرئيس التونسي: “إنّ بورقيبة ليس الرجل الذي يقبل التهديد”، بل أكثر من ذلك فقد طلب من المنجي الكعلي أن يبلغ ممثل تونس لدى منظمة الأمم المتّحدة بأن يصوّت لفائدة كوريا الشمالية! ومعروف أنّ الرئيس بورقيبة كان دائماً مواليا في مواقفه للغرب وللولايات المتحدّة الأميركية، وأنّه يكنّ كرها شديداً للشيوعية وللمعسكر الشرقي في فترة الحرب الباردة، إلاّ أنّ المؤلف ذكر أنّ بورقيبة كان حريصاً في سياسته الخارجية على التوازن بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولذلك ـ ووفق ما جاء في المذكرات ـ طلب من منجي الكعلي إعداد زيارة له للاتّحاد السوفييتي بالتنسيق والتشاور مع سفير موسكو في تونس، وفعلا حلّ بتونس مسؤول سوفييتي كبير للإعداد لهذه الزيارة المرتقبة، وقد استقبله المنجي الكعلي مرحباً وشرعا في تحديد برنامج الزيارة، الا أن مؤلف هذه المذكرات لاحظ أن البرنامج المقترح من السوفييت لا يتضمن استقبال ليونيد بريجنيف (الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي) لبورقيبة في المطار عند وصوله الى موسكو في بداية الزيارة، علماً وأن البروتوكول السوفييتي لا يلزم بريجنيف بأن يستقبل في المطار رؤساء الدول الذين يقومون بزيارات رسمية الى موسكو، وأن مراسم الاستقبال الرسمية تتم في قصر “الكرملين” ولكن ـ ومثلما جاء في الكتاب ـ حصلت استثناءات قليلة عند استقبال ليونيد بريجنيف لكلّ من الرئيس الجزائري هواري بومدين والرئيس السوري حافظ الأسد، ولا شك أن بورقيبة وهو معروف بنرجسيته لم يكن يرى نفسه أقل قيمة من هؤلاء، ولمّا استفسر المنجي الكعلي المسؤول السوفييتي عن مقاييس الاستثناء في البروتوكول كان ردّه أنّ بريجنيف لا ينتقل للمطار الا لاستقبال رؤساء الدول الشقيقة والصديقة! والحقيقة المعلومة التي تغافل الكاتب عن ذكرها سهواً أو قصداً والتي أوردتها مصادر أخرى هي أنّ الرئيس الحبيب بورقيبة لم تكن له أبداً الرغبة في زيارة الاتحاد السوفييتي، الا أن الراحل محمود المستيري سفير تونس لدى موسكو وقتها حاول إقناعه بالقيام بتلك الزيارة شارحاً له المصالح الاقتصادية التي قد تجنيها تونس من تلك الزيارة، فقبل بورقيبة على مضض.. ولما علم أن بريجنيف لن يستقبله في المطار على غرار استقباله للهواري بومدين وحافظ الأسد، قرّر بمفرده إلغاء الزيارة، بل أن بورقيبة وطيلة فترة حكمه التي تواصلت 30 عاماً لم يزر الاتحاد السوفييتي أبدا. ويروي الراحل محمود المستيري أن بورقيبة تكهّن بتفتّت الاتحاد السوفييتي قبل سنوات طويله من تفككه. إلاّ أنّ كاتب المذكرات يقدّم نفسه على أنّه هو صاحب القرار وأنّه أعلم المسؤول السوفييتي أنّ بورقيبة لن تطأ قدماه أرض الاتّحاد السوفييتي! وعلى غرار هذا المثال فالمؤلف يلمّع من صورته كثيراً في هذا الكتاب على غرار جل كتاب المذكرات فلا وجود لنقد ذاتي أو الإشارة الى أخطاء. والمؤلف يذكّر القراء بموقف بورقيبة بعد قصف إسرائيل لـ”حمام الشط” عام 1985 والذي أسفر عن سقوط 68 ضحيّة بين تونسيين وفلسطنيين وأكثر من 100 من الجرحى، وقد تقدّمت تونس إثر هذا الاعتداء الغاشم بشكوى إلى مجلس الأمن، وقد قرّر بورقيبة ـ المعروف بصداقته لأميركا ـ أنّه إن استعملت الولايات المتحدّة الأميركيّة حقّ “الفيتو” فإنّه سيقطع العلاقات معها، وعندما استقبل بورقيبة سفير الولايات المتحدة الأميركية في تونس كان حادّا معه ولم يدعه حتّى إلى الجلوس عند استقباله له في مكتبه بقصر قرطاج بل خاطبه واقفاً، وطلب منه وبلهجة حادّة جداً أنّ عليه أن يعلم رئيسه رونالد ريجان أنّ بورقيبة سيقطع علاقات تونس بواشنطن إذا تمّ استعمال حق “الفيتو”، وأثناء عرض الشكوى ولأوّل مرّة وآخر مرّة، لم تستعمل أميركا حقّ الفيتو لفائدة إسرائيل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©