الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرومانسية الفتّاكة

الرومانسية الفتّاكة
14 أغسطس 2013 19:46
نعود على الدوام إلى نجم هوليوود الأكثر أناقة ووسامة ورقة في الأداء، الممثل ريتشارد جير (51 عاما)، في واحد من أجمل أفلام الرومانسية بعنوان “الخريف في نيويورك”، إنتاج أغسطس عام 2000، بتوقيع المخرجة جوان تشين، وقاسمته البطولة الممثلة الرقيقة وينونا رايدر (من مواليد 29 أكتوبر عام 1971 في ولاية مينيسوتا، حائزة جائزة الغولدن غلوب عام 1994 كأفضل ممثلة في دور مساند عن فيلم “عصر البراءة” ومعهما أنتوني لاباجيلا. ونحن في الواقع نعود إلى هذا الفيلم الجميل الدافئ الذي ما زلنا نشاهده على الفضائيات من دون انقطاع، وكان آخر عرض له على شاشة قناة (دبي وان)، لأسباب كثيرة: أولها موضوعه الإنساني الذي يحكي قصة ويل كين (ريتشارد جير)، الرجل الثري المسن الذي يملك أحد أشهر المطاعم في مدينة نيويورك وكيف يقع في غرام شابة صغيرة تدعى تشارلوت ذات العشرين ربيعا (وينونا رايدر)، وهي مصابة بمرض خطير في القلب يودي بحياتها في النهاية. وثاني الأسباب أن الفيلم يتمتع بلغة سينمائية رومانسية قلّما تجدها في سينما هوليوود المعاصرة، ويحمل في تفاصيله أداءً فنياً رفيعاً على مستوى الإحساس والصدق والعمق الدرامي. وثالث الأسباب، أنه فيلم مهرجانات وجوائز بكل المقاييس، بعد أن حصد مجموعة كبيرة من الجوائز، فضلاً عن الاهتمام الجماهيري والنقدي المنقطع النظير، في حين يبقى اختيار أماكن التصوير في خريف قاسٍ مضطربٍ، مع سرعة الإيقاع وميزانية محدودة بلغت 65 مليون دولار، وإيرادات عامة وصلت إلى أكثر من 100 مليون دولار في نيويورك وحدها، من أهم مظاهر بناء الصورة السينمائية المتعددة الجوانب في فيلم رومانسي يملك طاقة عاطفية قلما تجدها في سينما هوليوود المعاصرة. لهذا ولأشياء كثيرة جذب “الخريف في نيويورك” ملايين المشاهدين حول العالم، وتمت ترجمته إلى لغات عدة، منها الصينية، العربية، الكرواتية، التشيكية، الفلندية، اليونانية، النرويجية، الرومانية، والصربية، ولغات أخرى أتاحت للمتفرجين متعة مشاهدة الطريق الحلوة والمرّة في العشق. لا يبدو سحر ريتشارد جير في هذا الفيلم من خلال وسامته، ولكن من عقدته تجاه النساء، وقدرته على إبهار النّاس بشرائحهم كافة، وعدم قدرته على الالتزام في حياته تجاه أي علاقة نسائية يخوضها، ولهذه التركيبة مقدرة فائقة على جذب المتفرج، وتحقيق عنصر الإدهاش والمفاجأة في الفيلم، لكن موازين هذه الكيمياء تنقلب رأساً على عقب، حينما يلتقي بتشارلوت الجميلة، ذات العينين البراقتين الدامعتين، والنظرة الواثقة، والوجه الطفولي الناضج بالبراءة، والجاذبية المتدفقة في الشكل والأداء واللغة وطريقة الكلام، ليدرك من النظرة الأولى أنّه متورط في حبها، خاصة بعد أن تبادله النظرات، التي توحي بأنها تبادله الشعور نفسه، لكن الأهم من كل ذلك كيف يصنع الحب كل هذه التضحيات التي تدفع ويل كين للبحث المضني عن علاج ينقذها من الموت، إنه لا يريد أن يفقدها، بعد أن أخبره أطباء نيويورك باستحالة إجراء أي عملية جراحية لها، لخطورة هذا الأمر على حياتها. والعشق المتفاني يدفع إلى أكثر من ذلك عندما ينجح بمساعدة ابنته الباحثة في إيجاد طبيب مغامر في ولاية لوس أنجلوس، يقبل بإجراء العملية لتشارلوت، والتي تنتهي نهاية مأساوية برحيلها، لتسجل أحداث الفيلم أروع وأجمل وأقصر قصص الحب بين رجل يبلغ من العمر 48 عاماً وفتاة شابة لا يزيد عمرها على 22 عاماً، على الرغم من اختلافهما في الثقافة والطباع. وبذلك يعكس الفيلم في أماكن متعددة صورة جميلة للحب المأساوي، ولعلها الصورة الأكثر صعوبة ما بين الحب والغموض، حينما تنجح بطلة الفيلم في تعليم عاشقها قيمة الحب لأول مرة في حياته. في تقديري أن أهم ممكنات نجاح “الخريف في نيويورك”، تعود إلى الأداء الساحر للنجم ريتشارد جير، المملوء بالصدقية والتعبيرية المتقنة. إن تعبيرات الوجه في حالات الحزن والفرح والقلق، تضفي عمقاً لا يمكن إغفاله، وقد بدا ذلك واضحاً في معظم مشاهد الثنائيات بين بطل وبطلة الفيلم، لتجسيد صراع إرادة الحياة بمواجهة الموت المرتقب، ولا ننسى التكوين العام كعنصر بارز في اللغة السينمائية في هذا العمل الذي يكتسب ممكنات درامية من خلال تصاعد أحداثه بسرعة هائلة نحو الذروة. ولعل طبيعة الأمكنة التي تم تصوير الأحداث فيها، ما بين المطاعم والشقق والحدائق والمستشفيات وغرف العمليات، قد ساعد على تحقيق عنصر التشويق، وتحقيق فن (التطهير) في داخل المتفرج الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة متابعاً بشغف وقلق مصير البطلة المعلق على مخاطرة عملية جراحية خارج النص. وعلينا هنا أن نعترف ببراعة المخرجة، وهي في الأصل ممثلة، في صناعة جماليات أخاذة وموظفة لخدمة المضمون والفكرة، كأن تتزامن لحظة رحيل تشارلوت مع تساقط ثلوج أعياد الميلاد، ليتتابع ذلك مع كادر جميل يجمع ويل كين وحفيده في قارب، يجوب البحر، فيعبر ذلك المشهد عن أنه ما زال في حياتنا بريق من أمل، حتى لحظة مواجهة الموت القاسية. وعلينا أيضا أن نعترف بموهبة المخرجة في مقدرتها على استيعاب لغتها السينمائية استيعاباً ديناميكياً خلاقاً، فهي ليست عندها مجرد قواعد حرفية تتكرر ميكانيكياً، بل تكوين وإيقاع يتجددان بتجدد الواقع الذي يعبر عنه بالتطور والعمق، ومن ثم فإنها وهي تحتفي بالتكوين داخل الكادر إنما تعبر به عن مضمون متصل بواقع الإنسان، فتكويناتها تختار من بيئة الحدث أقوى ما فيها من ميكانيزمات تؤثر في إبراز مضمونها للمتفرج أينما كان. إنها في الواقع حرفية وفنانة من الطراز الخاص، نجحت في صناعة وبناء تكنيك بليغ في السرد السينمائي، فهي ببساطة متناهية تضع كل لقطة في مكانها الصحيح، وكل كادر مدروس بتفاصيله، إمعاناً في تحقيق بناء درامي متماسك لفيلم يحظى بجماليات كثيرة من حسن وجمال الإضاءة والموسيقى والمونتاج والتصوير، وغيرها من الملحقات السينمائية التي تكفل نجاح أي فيلم يسعى للجماهيرية. لا يمكن في هذا المقام أن نغفل الأداء الرائع للنجمة الحسناء وينونا رايدر، والتي سمّيت على اسم مسقط رأسها بلدة وينونا في ولاية مينيسوتا، وقد نجحت في فترة قصيرة من تقديم جملة من أهم أفلام هوليوود، مع ألمع مخرجين هما فرانسيس كوبولا: فيلم “دراكولا”، ومارتن سكورسيزي “عصر البراءة”، وقد حققت في “الخريف في نيويورك” نجاحاً استثنائياً على مستوى تشكيل ثنائي مختلف مع ريتشارد جير، كما حققت أبعاداً خاصة لدور العاشقة الصغيرة المريضة التي تصارع الموت بقوة الحب، من خلال أداء صوتي مبهر دافئ، مملوء بالغموض، ومسحة الحزن الدفينة، مما ساهم في نجاحها في تحقيق أعمال سينمائية مدهشة، حققت لها مكانتها الفنية في كل أوساط العالم، إنها متفوقة في أن تأسر كل من يشاهدها على الشاشة الفضية، سواء من خلال سحرها في طريقة الكلام أو معاني نظراتها التي لا حدود لها. في النهاية يبقى “الخريف في نيويورك” واحداً من أجمل أفلام هوليوود في السنوات العشر الأخيرة، ولهذا تتمسك به دور السينما الجادة، وسينما الإنترنت والفضائيات، ولا تنفك من عرضه للمشاهد بين فترة وأخرى. بالطبع لا يمكن أن يكون هذا الفيلم بمستوى “المواطن كين”، أو “العراب”، أو “ذهب مع الريح” مثلاً، ولكنه في الحقيقة نموذج لسينما الرومانسية المعاصرة التي نفتقدها في مقابل سيل أفلام الآكشن والجريمة والعنف وسطوة المال والمافيات، هو فيلم من نوع خاص، فيلم يحترم عقلية المشاهد، بل ويدفعه للدخول في عملية الايهام السينمائي ليبدو لنا كل شيء طبيعياً وليس تمثيلاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©