الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وعي الذات بالآخَر..

وعي الذات بالآخَر..
14 أغسطس 2013 19:46
تعدّ فاطمة المزروعي إحدى أبرز النساء المثقّفات والجامعيّات الإماراتيّات، ومن أكثرهِنّ تمثيلاً للثقافة الإماراتيّة المعاصرة في أعلى مستوياتها، وأرقى تجلِّيَاتها. ولعلّها أن تكون من أوائل النساء اللواتي تبوّأن كرسيّاً للتدريس في الجامعة بعد أن حصلت على المؤهّلات الجامعيّة العليا. كما أنّ الدكتورة فاطمة المزروعي تتبوّأ منصباً سياسيّاً عالياً في دولة الإمارات العربيّة المتحدة، وهو عضويّتها في المجلس الوطنيّ الاتّحاديّ. ولقد كنت سمعت في بعض الحديث مع بعض الصديق وأنا بالجزائر، بكتاب فاطمة المزروعيّ، وعن جِدّة الفكرة التي طرحتْها الكاتبة فيه، وعن طريقة المعالجة التي اتّبعتها في كتابته، فتطلّعتُ إلى الاطّلاع عليه، ومن ثَمّ الكتابة عنه فصْلاً يمثّل رأيي في قراءته، بعد إن لم نعد لا نكاد نقرأ شيئاً من الكتب إلاّ كتبنا عنه، بحكم أنّنا نحترف القراءة المنتجة، لا القراءة المستهلكة لمجرّد الاستهلاك. نقد أم لا شيء؟ ولقد قرأت كتاب فاطمة المزروعيّ: “تمثيلات الآخر في أدب قبل الإسلام” بنهَم شديد، وتابعت مادّته بشغف كبير، وقد شدّني إليه ما عالجتْه المؤلّفة من إشكاليّة طريفة، من بين الإشكاليّات الحضارية والثقافيّة المعقّدة التي عالجتْها ضمن دراستها، وهي التي لم تبرح في العِقد الأخير، أو ما قبله بقليل، تثير المساءلة العلميّة، وتحمل على القلق المعرفيّ بعرامة وحَيرة معاً، وهي المساءلة عن وضع النقد الأدبيّ، راهناً، من بين العلوم الإنسانيّة الأخرى: وهل نُطْلق على هذا الشكل من المعرفة النقديّة الجديدة: “الدراسات الثقافيّة” كما ذهبتْ إلى ذلك صاحبة الكتاب، الدكتورة فاطمة المزروعي؟ أم الثقافة العامّة المرتبطة بالكتابة الأدبيّة، أي ما يمكن أن نطلق عليه نحن “الثقافة الأدبيّة”؟ أم “النّقد الثقافي”، وهو أسوأ الإطلاقات وأرذلُها، وأعْلقُها بالغموض، وألصقُها بالإشكال، في تمثّلنا نحن على الأقلّ؟ تقول فاطمة المزروعي عن هذه المسألة: “يجدر الحديث عن العلاقة بين النقد الأدبيّ والدراسات الثقافية التي استفادت من شتى العلوم الإنسانية بما فيها النقد الأدبيّ، إلاّ أنّ هناك من يرى أنّ هذه الدراسات الثقافيّة قد تشكّل تهديداً للنقد الأدبيّ، ومن ثَمّ تتحوّل هذه الدراسات إلى كائن متوحش جاحد يبتلع من كان سبباً في وجوده. وهنا أتساءل هل انبثاق نقد جديد يقضي بالضرورة على ما سبقه من نقد؟ وهل ماتت أنواع النقد السابقة؟ أم أنّها صرعة ثقافيّة تأخذ وقتها لتتحوّل إلى نوع قديم من النقد إن ظهر اتّجاه جديد؟ (...) فما العلاقة التي تربط النقد الأدبيّ بالدراسات الثقافيّة؟ وأيهما يشمل الآخر؟ وهل ستقضي الدراسات الثقافيّة على النقد الأدبيّ؟ لقد تصدّى جوناثان كلر [Jonathan Culler] لهذه الأسئلة فرأى أنّ الدراسات الثقافيّة تحتوي الدراسات الأدبيّة وتطوّقها، فتمتحن الأدب بوصفه ممارسة ثقافيّة. لكن ما نوع الاحتواء؟ يوجد هنا قدر كبير من الجدل. وهل الدراسات الثقافيّة مشروع متسع حيث يتسنّى فيها للدراسات الأدبية أن تكسب قوّة جديدة وبصيرة؟ أم أنّ الدراسات الثقافية ستبتلع الدراسات الأدبية وتدمّر الأدب”. (فاطمة المزروعي، تمثيلات الآخر في أدب قبل الإسلام، ص. 25). نهاية النقد؟ ونودّ أن نتوقّف لدى بعض هذه الأسئلة التي أثارتها الكاتبة عن هذه المسألة لنناقشها ونحلّلها بعض التحليل، فهي جديرة بالعناية، وقمينة بالتأمّل، بعد أن بدأت أصوات ناشزة تنبعث، من هنا وهناك، مناديةً بنهاية النقد، بل موته، ليحلّ محلّه الفوضى، والبساطة، والترهّل الفكريّ، واللاّشيء. 1. «هل انبثاق نقد جديد يقضي بالضرورة على ما سبقه من نقد»؟ إنّ من الواضح أنّ السؤال هنا إنكاريّ، والقصد منه نفْيُ مضمونه، لا البحث عن إجابة عنه. فهذا النقد الثقافيّ المزعومُ وجودُهُ لا يستطيع أن يخترق النصَّ الأدبيّ، ولا أن يفسر جماله، ولا أن يحدّد خصائصه الفنية، ولا أن يهتدِيَ السبيلَ إلى مراميه العميقةِ والبعيدة، فيجتزئ بفوضى الكلام، وبساطة الاستنتاجات، واللّهاث وراء انفتاحات من المعرفة لا تنتهي، إذْ كانت الثقافة تشمل كلّ شيء في الحياة: من كيفيّة الأكل واللباس إلى السلوك مع الناس في الشارع، فكيف نجرُؤ على إلزاق النقد الذي غايته تحليل الظاهرة الأدبيّة وحدها بهذه الأمشاج من القيم المتناثرة في المجتمع والتاريخّ؟ وإذن، فإنّا لا نعتقد أنّ هذا الشيء الذي يقال له النقد الثقافيّ يستطيع أن يلغيَ النقد بأسسه ونظرياته وتقاليده الموروثة منذ قريب من خمسة وعشرين قرناً. وعن هذه المسألة يتحدّث محمد عبدالمطّلب في محاضرة له بالقاهرة، فيقول: «حين ينتقل النص من ثقافة إلى أخرى، ليس لها دراية بالثقافة التي يحملها النصّ، أو قد تكون على دراية بها، لكنها رافضة لها، وتصل مخاطر القراءة الثقافيّة إلى ذروة الخلط المنهجيّ عند ما تبدأ قراءتها من أنساق الثقافة، لتصلَ منها إلى النص فتحمله بما لا يحتمل، وتقوده إلى مسارات لا صلة له بها إلاّ على التوهّم». (من محاضرة ألقاها في مؤتمر النقد الدوليّ الأوّل، القاهرة، يونيو 2008). إنّ المناداة بالنقد الثقافي بديلاً للنقد الأدبيّ، دعوة إلى طمْس المعالم الكبرى التي تميّز مسار النقد ومكانته في الفكر الإنسانيّ الخلاّق، ذلك بأنّ الثقافة بمقدار ما تتّسم بالخصوصيّة لدى الشعوب فتجعل النقد منتمياً إلى خصوصيّات محلّيّة، بمقدار ما تتسم هذه الثقافة بالعموميّة التي تمزّق للنقد أوصاله فيتيه في آفاق الفكر البشريّ فيضلّ سبيله إلى جمال الحقيقة فلا يستطيع استكشافها، وتُعمّى عليه معالم الطريق فلا يهتدي السبيل إليها. وعلينا أن نذكر أنّ النقد تغيّر في نفسه، فألغَى جوانب من تقاليده وقيمه التي كان نشأ عليها عند الإغريق فكان لا يزيد على كونه «فنّاً للحكم» (Art de juger)، وعند العرب فكان قُصاراهُ تمييز الجيد من الرديء بحكم أصل الاشتقاق. 2. «هل ماتت أنواع النقد السابقة»؟ إنّ من الواضح أيضاً أنّ الكاتبة لا تريد هنا بسؤالها إلى طلب التصديق، كما يقول النحاة عن خاصيّة «هل»، ولكنّها تريد إلى سؤال العارف الذي ينفي بالسؤال، أي أنّ هذه المدارس لم تمتْ، وإنّما الذي وُلِد ميتاً هذا الشيء الذي يقال له «النقد الثقافيّ» بحيث يراد إحلال شيء ميت محلّ شيء حيّ، وفي أحسن الأحوال: شيء مجهول، محلّ شيء معلوم. كان يمكن إنشاء نظريّة جديدة في إطار الخصوصيّات المنهجيّة والمعرفيّة والفلسفيّة للنقد، لا البحث عن بديل أجنبيّ عن الأدب هو الثقافة العائمة الهائمة. 3. «ما العلاقة التي تربط النقد الأدبيّ بالدراسات الثقافيّة؟ وأيهما يشمل الآخر؟ وهل ستقضي الدراسات الثقافيّة على النقد الأدبيّ»؟ إنّ من الواضح أنّ الثقافة بحكم عموميّة أشكالها، وتغلغلها في التقاليد البشريّة منذ الأزمنة الموغلة في القدم قد تتحكّم في كثير من الأشياء، ولكنّها لا تكون وجهاً كاملاً لها، وإنما تُسهم في مثولها في أذهان الناس، ولذلك فقد تكون علاقة نقديّة ما بالدراسات الثقافيّة من حيث هي خامَةٌ مزروعة في العادات والتقاليد والقيم الإنسانيّة، فالمذاهب النقديّة التي ظهرتْ في فرنسا تترَى لم تكن لِترَأَ من مكوّنات الثقافة الفرنسيّة العامّة التي طبعت المجتمع الفرنسي بطابَعٍ خاصّ، غير أنّا لم تستطع أن تجاوزَ ذلك قطّ فظلّت بعض ظلالها ماثلة في المكوّنات النقديّة الجماليّة والمنهجيّة دون أن ترقَى إلى مستوى القدرة على إلغاء المذاهب النقديّة فتحلّ محلّها بديلاً، لأنّ كلّ شيءٍ ميسّر لِما خُلق له فلا يستطيع أن يعدُوَه ولو خرق خرق السماءَ أو بلغ الجبالَ طولاً. 4. «هل الدراسات الثقافيّة مشروع متسع حيث يتسنّى فيها للدراسات الأدبية أن تكسب قوّة جديدة وبصيرة؟ أم أنّ الدراسات الثقافية ستبتلع الدراسات الأدبية وتدمّر الأدب»؟ إنّ مصطلح “الدراسات الثقافيّة” يظلّ مجرّدَ مفهوم مقترح ليكون ضرْباً من الوسطيّة بين النقد والنقد الثقافيّ، ولذلك فنحن نعتقد أنّ الحسْم في هذا الأمر قد يكون أمثلَ من مناقشة طويلة وعقيمة لا ينشأ عنها في الحياة عملٌ، فالدراسات الثقافيّة قد تكون مثل النقد الثقافيّ بحيث لا يساويان أكثر من “بريكولاج”، كما يقول الفرنسيّون. وهل يجوز، من الوِجهتين النظريّة والمعرفيّة معاً، الفَزَعُ إلى سلوك “البريكولاج” وترْكِ معالم التخصّص الواضحة المقنَّنة المدقَّقة، إلى حدّ كبير، في مذاهبها النقديّة المتعاقبة؟ قلق غربي إنّ ما يراه الصديق الدكتور عبداللّه الغذاميّ بأنّ النقد الأدبيّ غيرُ مؤهّلٍ للنهوض بما شُرِع له أن ينهض به منذ الأزل حين يقول: “بما أنّ النقد الأدبيّ غيرُ مؤهّلٍ لكشْف هذا الخلل الثقافيّ، فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبيّ، وإحلال النقد الثقافيّ مكانه”، فإنّا نرى أنّه لا شيء أدعَى إلى الحزن والخيبة من أن يأتيَ مثقّف كبير كالغذاميّ فيُعلن موتَ شيءٍ لم يقتُلْه قطّ، لأنّه لا يملك وسائل إماتته، لا هو ولا سَواؤُهُ، فيكون إعلانُه مجرّد قولٍ جميل بدا له أنّه يحمل شيئاً من الحقيقة المعرفيّة. وقد علّقتْ فاطمة المزروعيّ على إعلان الغذاميّ العجيب قائلة: “(...) أجد أنّ القلق الذي ساد في الغرب منطقيّ، لأنّ بعض نقّادهم اهتمّ بمجلاّت المراهقين والأدب الإباحيّ، مما عكس حالة القلق من موت الأدب الرفيع”. والحقّ أنّ إعلانات موت النقد، وإعلان موت الأدب، بعد إعلان موت المؤلف في الغرب، كما تلاحظ ذلك فاطمة المزروعيّ، تكاثرت وتعاقبتْ دون أن تُؤْتِيَ أُكْلاً هنيئاً. وتذكّرني هذه الإعلانات التي ينهض بصياغتها بعض النقاد في الغرب والشرق بإعلانات نوح لقومه الذي ظلّ يعلنها لهم على مدى قريبٍ من عشرة قرون دون أن يسمعَها أحدٌ من قومه. فلنستحلْ إلى كافرين بهذه الإعلانات غير المسؤولة، والتي لا تعدو أن تشبه ما يكون في اللغة الإعلاميّة المثيرة، وننبِذَها نبْذاً، إلى أن يُثبت لنا معلنوها أنّهم، فعلاً وحقّاً، قادرون على أن يأتوا بما لم تأتِ به الأوائل، وأنّ النقد الإنسانيّ لم يكن إلاّ أكذوبةً من الأكاذيب أنَى للفكر الإنسانيّ أن يتنكّر لها فيتخلّص من وهمها... بل إنّ النقد الأدبيّ ظلّ نقداً أدبيّاً طوال خمسةٍ وعشرين قرناً من عمره، أي منذ أرسطو إلى أمبرتو إيكو إذا انصرف الوهم إلى مسارات النقد الفكري الغربيّ، ومنذ ابن سلاّم إلى طه حسين، إذا انصرف الوهم إلى مسارات النقد الفكريّ العربيّ: لا يضِلّ ولا يشقى؛ فأَن يجيءَ رجال من الناس، في نهاية القرن العشرين، لِيَعْزُوا هذا النقدَ، على العمر الطويل، إلى الثقافة التي تتعدّد بتعدّد الأمم والشعوب، فهي، إذن، ذات مفهومٍ فضفاض، مُزِيحين إيّاه من مكانته المجيدة التليدة معاً، إلى مكانة مُرتابٍ في أمرها؛ فإذا هو يُلاَصُ على أن يُقحَمَ فيها إقحاماً، فذلك شأنٌ ليس كمِثْله شيءٌ في التباس المفاهيم، ولا في اختلاط التصوّرات. ولذلك نحن نجنح إلى تبنّي مصطلح “الدراسات الثقافيّة” الذي تبنّتْه الدكتورة فاطمة المزروعيّ بوعي معرفيّ رصين، وانطلاقاً من كتابات كتّاب أمريكيّين كبار، على الرغم من أنّ مصطلح “الدراسات الثقافيّة” نفسَه قد يكون، هو أيضاً، في رأينا نحن على الأقلّ، مفهوماً فضفاضاً يَشِـُطُّ معناه إلى بعيد. ذلك بأنّ أيّ مصطلح علميّ يجب أن يُنْحَت بدقّة متناهية من حيث مبناه ومعناه، وذلك على نحو لا يفتقر معه إلى الوصف أو الإضافة ما أمكن ذلك، وإلاّ اغتدى المصطلح مجرّدَ مشروعٍ لمصطلحٍ لا يزال يبحث عن نفسه، ويلتمس له مكانة بين المفاهيم النقديّة الجديدة. إنّ المصطلح العلميّ المثاليّ هو ما يُنحَتُ من معنييْن اثنين أو أكثر، ثمّ يُقَدَّم في لفظ واحد، وهو ما يجيئه أهل الغرب حين ينحتون مصطلحاتهم من الجذور الإغريقيّة أو اللاّتينيّة فيأتون للمصطلح بسابقة تتصدّره، وأصل يتوسّطه، ولاحقة تختمه، ولكن أين العربيّة المعاصرة من كلّ ذلك وهي التي لا تزال تلهث وراء آلاف المفاهيم المستجِدّة كلّ يوم، فلا تكاد تُلفي لها إلاّ مقابلاتٍ شاحبةً مضطربةً تقترحها لها على عجَل وخجَل، في كثير منها، فإذا لا هي تَشْفي غليلَ طالبِ المعرفة، ولا هي تُقنع العالِمَ المحترف فتحمله على شيء من الاطمئنان وإن كان ذلك لا يُقنعه ولا يُرضيه؟ في المصطلح ونحن نخشى ألا يكون مصطلح “النقد الثقافيّ” حاملاً لمعنىً كبيرٍ دقيق، ذلك بأنّ وصف النقد بالثقافة وإلْزاقِه بها، وجعْلِه منتمياً إليها، يعني أنّ هذه الثقافة هي ذات مذهب محدّد في المفهوم والدلالة والشكل والاتّجاه سلَفاً، والحال أنّ الثقافة نفسَها لم يتّفق النّاس، إلى اليوم، على تعريف جامع صارمٍ لها، بحيث لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح من حوله عَنزان؛ فكيف، غذن، والحالُ ما هي، أن ننسبَ النقد الذي يتمتّع بدقّة مقبولة في دلالته إلى حقلٍ فضفاضٍ يختلف الناس في الاتّفاق على تعريفه؟ إنّ إخراج النقد من دائرته المستقرّ فيها منذ دهور سحيقة إلى دائرة غير معروفة العوالم، ولا محقّقة النتائج قد لا يكون من السعي العلميّ المثمر، إذْ حينئذ علينا أن نغيّر مواقع العلوم والفنون الأخرى فيستحيل كلُّ شيء إلى أيّ شيء آخر، فيقع الاضطرابُ في المفاهيم، ولا نأمن وقوع الفوضى في تصوّراتنا للأشياء. ولذلك، فما دام هذا المفهوم لا يبرح يتلجلج في الاستعمال، ولم يستقرّ، بعدُ، على اِسْمٍ متّفَق عليه، ولا موقِعٍ يأوِي إليه، فإنّا نجدُنا في حِلّ من أن نقترح أن يُطلَق عليه، من باب توسعة النقاش، وتعميق الجدال، على الأقلّ: “الثقافة الأدبيّة”، إن كان ولا بدّ، أي بعكس الإطلاق، على الرغم من عدم تحمّسنا كثيراً لذلك، لأنّ للنّقد، كما سلفَتِ الإيماءةُ إلى ذلك، أصولاً يُعرَف بها، وأسُساً ينهض عليها، وتمثّلاتٍ ينطلق منها، وإجراءاتٍ يصطنعها في معالجته للنصوص، وتحليلِه إيّاها، وإصدارِ الأحكام من حولها: لها، أو عليها (ولو أنّ إصدارَ الأحكامِ النقديّة وتقريرَِها لم يعُدْ أمراً مشكوراًً في مسار النقد الجديد). فليس من اليسير، إذن، تحويلُ مسار النقد الأدبيّ عمّا قام عليه منذ قرون طِوالٍ، ليغتديَ شيئاً آخرَ، يبحث عن شيء آخَرَ لَمّا يوجدْ، وعلى حين غِرّة من عين الدهر؛ أي أنّ هذا الشيء المبحوثَ عنه في طيّات العدم ليس في ملامحه إلاّ الغموضُ، وربما الهُزال والشّحوب! إنّ تعرّض فاطمة المزروعي لمناقشة هذه المسألة مناقشة منهجيّة رصينةً أمرٌ على غاية من الأهمّيّة، لأنّ بمثل هذه المساءلات القلقة الجريئة، والمناقشات العلميّة الرزينة، يمكن أن نضيف إلى المعرفة العليا إضافات جادّة، ونُخْصبَها بذلك إخصاباً؛ لأنّ التسليم لأيٍّ منّا بما يقرّر ليس معناه إلاّ فتْحَ جدالٍ بيزنطيّ قد لا يفيد العلم والمعرفة شيئاً ذا بال. وليس يعني الاعتراض على مفهوم من المفاهيم نقصاً من قيمة الناقد الذي أثار ما أثار، بل سيظلّ الفضل له محفوظاً قائماً، لأنّه بفضل جرأته طرح شيئاً جديداً لم يوافقْه عليه النّاس، كلُّهم أو جلّهم أو بعضهم. فذلك، إذن، ذلك. هذا، ويشتمل كتاب فاطمة المزروعي على خمسة فصول مركزيّة، هي بإجمال: الذاتُ والآخر من منظور الدراسات الثقافيّة، والهويّة والاختلاف، وتمثيلات العجم والفرس لدى العرب، والروم والحبشة والهند، والذوات المتأرجحة وقراءة الآخر. والكتاب، كما نرى من خلال عرْض الخطوط الكبرى، والملامح العامّة الواردة فيه، يسعى إلى تناوُل إشكاليّات على غاية من الإثارة والخطَر، إذ يعالجها معالجةً حضاريّة اجتماعيّة فكريّة أدبيّة معاً. وهي سيرة ليست باليسيرة على كلّ أحدٍ أن يَسِيرَها: تخيُّلاَ، ثمّ تمثّلاً، ثم إشكالاً مطروحاً، ثمّ إنجازاً مكتوباً. والحقّ أنّي أفدت فائدة ما كان لي لأُنكرها من هذا الكتاب الجليل، فقد ناقشتِ الكاتبة، فاطمة المزروعيّ، مفهوم الدراسات الثقافيّة في الشرق والغرب، نقاشاً رصيناً معمّقاً، كانت لا تزال تحيل من خلاله على مشاهير الكتّاب في التراث العربيّ الإسلاميّ، وعلى مشاهير المنظّرين من أولي الصِّيت العالميّ في الغرب. ولقد أفضى ذلك إلى استحضار عدد ضخم، وذي شأن، من المصادر والمراجع. ومما أُعجِبتُ به في كتاب الدكتورة فاطمة المزروعيّ كلَفُها الشديد بمتابعة مفهوم “الدراسات الثقافيّة” الذي لا يبرح جديداً في الاستعمال، ومن ثَمَّ لا يبرح مرِجاً في التمثّل والاستحضار. ولقد كان الصديق الدكتور عبداللّه الغذامي أهداني كتابه “النقد الثقافيّ”، يوم صدر له منذ زهاء سبع سنوات، فقرأته وكتبت عنه مقالتين اثنتين على الأقلّ، وإنْ فاتني يومئذ أن أقرأه قراءة نقديّة معمّقة لموانع كانت ملانعة، ومنها ضيق الوقت، وتزاحم الالتزامات، حتّى جاء كتاب فاطمة المزروعي فقدّم لكتاب الغذاميّ قراءة نقديّة منهجيّة، مستفيضة وجادّة، فأفدْت، نتيجة لذلك، من العملين الاثنين الكبيرين معاً. ومما أفدت منه أيضاً أنّ فاطمة المزروعي تعترض على استعمال مصطلح «النقد الثقافيّ»، ولو من طرْف خفيّ، وأنّ أغلب المعاجم الأجنبيّة لا تكاد تميّز بين مفهومي «النقد الثقافي، والدراسات الثقافيّة. وبعضها يُدرِج النقد الثقافيّ تحت الدراسات الثقافيّة، بما أنّ الكتب التي تتحدث عن النقد الثقافي تستخدم في مراجعها كتب الدراسات الثقافيّة أيضاً. والفارق بينهما دقيق، وتحرص على إيضاحه الكتب الأمريكيّة، في حين أنّ المصطلحين غالباً ما يُستخدَمان مترادفَين في الكتب البريطانيّة. ويعدّ مصطلح “الدراسات الثقافيّة” الأكثر استخداماً”. (فاطمة المزروعي، م. س.، ص. 17). معالجة جاحظية والحقّ أنّ الثقافة الأدبيّة، أو الدراسات الثقافيّة، عالجها العرب منذ نهضتهم الأولى، فنجد أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابيه البيان والتبيين، والحيوان يكاد يلتهم كلّ شيء من الثقافة والمعرفة فيعالجه فيهما، ويسوق عنه الحديث من خلالهما. ولا يقال إلاّ نحو ذلك عن ابن خلدون في مقدّمته العجيبة، إذْ لم يكد يغادر مسألة من الثقافة والحضارة والعلم والأدب إلاّ أتى عليها ذِكْراً. ونجد أطرافاً من ذلك في كتابات النُّويريّ والقَلْقَشنديّ وغيرهما في التراث العربيّ الإسلاميّ. وبعض ذلك ما لَحِنَتْ له الدكتورة فاطمة فأحالت عليه، وأفادت منه في وعي معرفيّ بادٍ. ولذلك لا يَهِيدَنَّنا، نحن، ما يُورِده علماء الغرب عن بعض القضايا التي كان آباؤنا وأجدادنا عالجوها منذ عهود موغِلة في القِدم، من قريب أو بعيد؛ وكلُّ ما ينقص الفكْر العربيّ المعاصر أنّه: هل يُقرّ بعظمة تراث الأجداد فينبشَ فيه، ويستخرجَ منه الدُّرَر والجواهر، أو يظلّ مفتوناً بحضارة الغرب الخَيْتَعُور فينسَى ما للأجداد من فضل على الإنسانيّة جمعاء فيُمسي من العاقّين؟ إنّ عمل الدكتورة فاطمة المزروعي يحاول قراءة هذا التراث العربيّ الإسلاميّ، قراءة جديدة، برجوعها إلى مصادرَ منه كثيرةٍ، لتستنتج منه النتائج، وتستخلص من خلاله الأحكام، وهو شأن لا نحسبها سُبِقت إليه وهي تعالج هذا الموضوع التّليد الطريفَ معاً: فأمّا التُّلُودةُ فتأتي إليه من مادّته المبثوثة في بطون الأسفار منذ القرون الأولى لنهضة العرب، وأمّا الطّرافة فتعلَق به من حيث المنهجُ الصارم الذي اصطنعتْه الكاتبة في تقديم مادّتها، وتمثُّلها، وتحليلها بأدوات معرفيّة تبدو شديدة التحكّم فيها. ويبدو أنّ كلّ فصْل في هذا الكتاب هو من الأهمّيّة بحيث لا يستطيع أن يعلُوَ على صِنوه، فكأنّ كلّ فصْل فيه هو أساس لسَوائه، وامتداد له، وإفضاء إلى ما يأتي بعده في الوقت نفسه، فالحشو في هذا الكتاب غيرُ موجود، والكثافة العلميّة الرصينة هي السائدة الماثلة، وهي التي تطبع تقديمَ مأَدَّتِه إلى القرّاء. غير أنّ من أمتع فصول هذا الكتاب قراءةً، وأعمقها تناوُلاً، ما عالجتْ فيه مفهوم الآخر، فهو من أحدث الموضوعات تناوُلاً وتصوّراً في الدراسات الاجتماعيّة المعاصرة بعد أن كان تناول هذا الموضوع بعمق واستفاضة الطّاهر لبيب في كتابه “صورة العربيّ ناظراً ومنظوراً إليه”، وهو الكتاب الذي ناقشته فاطمة المزروعيّ وأضافت إليه. وقد كنّا نحن كتبنا فصلاً بعنوان: “الآخر ونحن” وأدرجناه في كتابنا “الإسلام والقضايا المعاصرة”؛ ذلك بأنّ صورة الآخر تبدو، بكلّ حزن، هي المهيمنة على الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة في العهد الراهن، مما حملَنا على أن يكون عنوان فصْلنا، نحن، مبدوءاً بالآخر قبل نحن... يبقى أن نلاحظ أنّ مصطلح “تمثيل” على صحّته اللّغويّة فإنّه يبدو مشتملاً على شيء من القلق في الاستعمال، ونحن شخصيّا نصطنع مصطلح “الاستحضار”، أو “التّمثّل”، وليس “التمثيل”، لأنّ اللّفظ الأجنبيّ «Représentation» لا يعني بالضرورة ذلك، وأولى له أن يترجم على أساس معنى التمثّل، أو التصوّر، حتّى لا ينصرفَ وهَمُ القارئ إلى التمثيل المسرحيّ، أو تمثيل دولة لدى دولة، أو تمثيل هيئة لدى هيئة أخرى؛ ذلك بأنّ تمثُّل العربيّ للعجميّ، أو تمثّل العجميّ للعربيّ، هو، في الحقيقة، تصوّره في الذهن، أو هو تخيُّلُه له في الوهم، ثم خَيْلُولَتُه في الواقع، حتّى كأنّ أحَدَهما يرى الآخَر على الهيئة التي رسمها له في ذهنه. كما أنّ الكاتبة تباطأت، على نحو ما، في شرْح معنى المصطلح الذي اتّخذتْه عنواناً لكتابها، وأقصد به “التمثيلات” فلم تحفِل به إلاّ في الصفحة الخامسة والأربعين من الكتاب، وقبل ذلك لم يعرف القارئ ما معنى “التمثيل” الذي هو مصطلح مركزيّ في استعمالها المعرفيّ، وجديد لَمّا يستقرّ عليه الإجماع، أو يجنح له التّغليب، على الأقلّ، في الاستعمال. وعلى أنّ ما يشفع للباحثة في اصطناع هذا المصطلح أنّها تبنّتْه بوعي معرفيّ، وانطلاقاً من كتابات أمريكيّة اقتنعتْ بها، ولم تتّخذْه فطيراً فِجّاً. (ينظر فاطمة المزروعي، م. س. ص. 45 وما بعدها). غير أنّنا لا نريد أن نتّخذ من هذه المسألة قضيّة اعتراض وجدال، ولكنّنا نطرح ذلك، فقط، من باب إثراء جهد الدكتورة فاطمة المزروعي، وحمْل الباحثين على تأمّل ذلك فيما سيستقبل من الكتابات عن هذا الموضوع الجديد الجميل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©