الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوهم.. عدّة الممثل الخلاّقة

الوهم.. عدّة الممثل الخلاّقة
14 أغسطس 2013 19:45
في دراسة سابقة تناولنا مفهوم الانتباه المسرحي لدى الممثل، وتأثير ذلك في تحديد شخصيته وعلاقته بالجمهور، ومن هنا كان ثراء الشخصية الفني الذي يتكامل إذا أضيف إليه واحدا من أخطر العناصر في تحقيق أداء فني وتقمص عالي القيمة في تشكيل العناصر الأساسية في العرض المسرحي وهي: النّص، الممثل، الجمهور، الفضاء المسرحي ألا وهو فن استخدام الخيال. علينا أن نعرف أن نشاط خيال الممثل مرتبط مع انتباهه، وينسب الممثل إلى كل ما يراه على المنصة من أشياء حقيقية وإلى كل ما يسمع ويشمّ ويتحسس صفات مختلفة، ويقيم علاقات متباينة مع هذه المواضيع القابلة للإدراك بصورة واقعية. إنّ نشاط خيال الممثل الإبداعي يكمن في ذلك. يرى الممثل حبلا “مرميا” على الأرض، لكنه ينسب إليه ذهنياً صفات من صنع خياله، لا يمتلكها الحبل في حدّ ذاته، وعندما يضفي على الحبل صفات الحيّة، فإنه يجد في داخله علاقة نفسية مناسبة لها، تجد لنفسها مباشرة تعبيراً ظاهراً في سلوكه، وفي أفعاله، وفي تصرفاته، وفي تعامله مع الحبل كما لو كان حيّة تتحرك وتؤذي وتقتل. إن نشاط الخيال التمثيلي شكل خاص من أشكال التفكير الإنساني، وعندما تحدثنا عن التركيز الإيجابي، أشرنا إلى أنه مرتبط دائما بعملية التفكير، فالإنسان عندما يستقبل موضوعاً معيناً يخرج بمساعدة التفكير على وجه التحديد خارج حدود المضمون الذي يصله عن طريق الإدراك الحسّي المباشر. ويوسّع الإنسان من خلال التفكير موضوع انتباهه واضعا إياه ذهنيا في مختلف المواقف الجديدة، لكن الإنسان عادة أثناء التركيز الإيجابي مباشرة يبقي فكره في حدود الموجود واقعياً، أو الممكن موضوعياً، وعندما يستقبل موضوعاً معيناً يفكر في تلك الصفات التي يمتلكها الموضوع طبيعياً، ويمكن أن تظهر في ظروف مؤاتية بالرغم من أن هذه الصفات غير ظاهرة الآن. هكذا وفي الجانب التقني نربط ذهنياً مع سيارة متوقفة في مكانها صورة الحركة كصفة واقعية من صفاتها، وعندما ندخل ذهنياً موضوعاً معيناً في مواقف غير معطاة مباشرة، فإننا نفكر عادة بتلك المواقف الممكنة موضوعياً فقط، وهذا يصبح بشكل خاص على شكل التفكير المسمّى بالتفكير العلمي، فمهندس ما عندما يرى جزءا من آلة، فإنه يفكر أولا بتلك العملية الإنتاجية الحقيقية التي أنتجت هذا الجزء، ويفكر ثانيا بالآلة الحقيقية أيضا التي صنع الجزء من أجلها، لكن تفكيره لا يعود علمياً صارماً إذا بدأ وهو لا يعرف وظيفة هذا الجزء بالتخيّل، فصنع ذهنياً تلك الآلة التي يزعم أن هذا الجزء مخصص لها. الحقيقة والاكسسوار لكن نشاط الخيال الإبداعي للممثل يكمن في أنه ينسب ذهنياً إلى مواضيع يستقبلها واقعياً، صفات لا تمتلكها هذه المواضيع في الواقع، ويضعها بقوّة تفكيره الإبداعي في حالات لم تكن فيها ولن تكون، فمثلاً يقرأ الممثل الذي يؤدي دور حاكم المدينة في مسرحية “المفتش العام” للكاتب نيكولاي جوجول (1808 ـ 1852) رسالة “أندري أفانوفش شميخوف” وهو ينسب ذهنياً إلى هذه الرسالة صفة الصدق الذي لا نمتلكه في الواقع (لأنها ليست سوى ثمرة خيال المؤلف الإبداعي، وكل ما هو مكتوب فيها خيال محض)، ويربط الممثل في الوقت نفسه هذه الرسالة بعدد من الأوضاع المتخيلة ومع شخصية (شميخوف) الذي لا وجود له في الواقع أصلا، ولا يظهر على المنصة أبدا، فإنه يعيش في خيال الممثل الذي يعرف جيدا أن (شميخوف) غير موجود في الواقع المعاش، وأن الرسالة التي يزعم أن الأخير كتبها قد هيأها في واقع الأمر مسؤول (الاكسسوار) في المسرح. إنّ انتباه الممثل المسرحي يتميز بصفة جوهرية هي أن الإنسان هنا لا يهدف إلى التمعن الموضوعي في الشيء كما هو الحال في التفكير العلمي أو الحياتي، بل يهدف إلى تغييره وإلى تحويله إلى شيء يختلف عمّا هو في الواقع، لهذا فإن عملية الانتباه المسرحي توسّع المحتوى البصري للإدراك الحسّي في وعي الممثل، أكثر بكثير مما هو عليه الحال عند النظر إلى الشيء بطريقة علمية أو بالطريقة الحياتية، باعتبار أن نشاط خيال الممثل، شكل خاص للتفكير، ويتميز بميزة ثانية واضحة، ذلك أن الممثل ينسب من تلقاء نفسه صفات ومزايا للموضوع، لا يمتلكها الموضوع في حد ذاته، وهكذا نرى في المسرح المعاصر أهمية استخدام الخيال الخلاّق الجميل في بلورة وتطوير المضمون الفكري للنص المسرحي ومن ثم الشخصية المسرحية. هذه الصفات والمزايا تعيش في وعي الممثل الذاتي فقط، لكن علينا أن نلاحظ أن كل الصفات والمزايا التي ينسبها الممثل إلى الموضوع، وكل هذه الحالات المتخيلة التي يضع فيها المضمون ذهنيا بواسطة خياله، كل هذا مجتمعا يولّد في وعي الممثل نتيجة تأثير الواقع الموضوعي، لكن ليس الواقع الموضوعي الذي يتعامل الممثل معه الآن، أثناء وجوده على المنصة، بل ذلك الواقع الذي أثّر عليه سابقاً في الحياة الحقيقية. لنعد الآن الى مثال سابق تمّ تناوله، يتعرض الممثل على المنصة لتأثير (قطعة حبل)، فينسب لهذه القطعة خواص الحيّة، قطعة الحبل في حد ذاتها، أي موضوعيا لا تمتلك هذه الخواص، هي موجودة في هذه اللحظة في وعي الممثل الذاتي فقط، لكن الحيّة تمتلك هذه الخواص موضوعيا، ولهذا السبب وحده استطاعت أن تنعكس في وعي الممثل الذاتي. لقد أثبتت هناك تعبيراً عن الواقع الموضوعي الذي أثّر على الممثل قبل دخوله المنصة، وبتعبير آخر يستطيع الممثل أن ينسب للحبل صفات الحيّة فقط لأنه يعرف الحيّة وماهية خواصها. لنتذكر معاً أن المعاناة المسرحية للممثل ما هي إلا إحياء لآثار التأثيرات التي مرّ بها كثيراً في الحياة الحقيقية، وأنه يحيي في داخله آثار هذه التأثيرات، ويربط ما ينتج عن ذلك مع موضوع مسرحي لا يستطيع في حد ذاته أن يستدعي هذه المعاناة، لكن يجب على الممثل أن يبدأ باستقبال الموضوع في شكله المعطى كما هو إذا أراد أن يصل إلى جوهر المعاناة المسرحية كاملة. يقول قسطنطين ستانسلافسكي في هذا السياق “الانتباه دليل المشاعر”. فبفعل الانتباه منذ لحظة التركيز الإيجابي (الإرادي) تبدأ عند الممثل عملية الإبداع أثناء التمثيل، فعيون الممثل وأذناه وكل أعضاء حواسه يجب أن تعيش على خشبة المسرح، كما تعيش في الحياة الحقيقية، ويجب أن نراها ونحسّها ونلمس تأثيراتها على الحالة المسرحية، وفي هذه الحالة فقط سيستقبل المتفرج الحياة المسرحية كأنها حقيقة، وهذا ما نعرفه اصطلاحا بتحقيق عملية الإيهام المسرحي التي تجعل الجمهور يصدّق تماما أن كل ما يراه على المسرح هو حقيقة بالفعل وهو إصطلاحا عملية السيطرة على شعور المتفرج عن طريق المجاهدة في جعله يحس أثناء وجوده في المسرح، أو اثناء قراءته لنص درامي، بأن ما يراه فوق خشبة التمثيل هو حقيقي وواقعي وصادق إلى درجة تدفعه إلى الاندماج في الأحداث والشخصيات، وكذلك تحقيق الحضور المسرحي للممثل، والحضور كما عرّفه اصطلاحا الدكتور إبراهيم حمادة في كتابه “معجم المصطلحات الدرامية” على أنه تلك الطاقة المعنوية الشخصية للممثل القادرة على اجتذاب الجمهور. من أمثلة ذلك عندما أقول على المنصة (أسمع صوت أقدام) في حين لا يوجد في الواقع اية أقدام، عليّ أن أسمع بصدق (لا أتسمع فقط، بل أسمع أيضاً) تلك الأصوات التي تنبعث حقيقة في هذه اللحظة من خارج الكواليس، فإذا لم تكن هناك أية أصوات، فعلي أن أسمع الصمت، أسمعه بحيث أسمع أي صوت ينبعث مهما كان خافتاً، هذا هو جمال وروعة استخدام الخيال الذي يسهم في تربية ذوق الممثل، وفي هذه الحالة فقط يصدّق الجمهور بأنه فعلاً يسمع صوت أقدام آتية إلى خشبة المسرح. حول فاعلية الانتباه لقد وضح لنا أن الانتباه المسرحي يكمن في أن الممثل يحوّل الموضوع إبداعياً وهو يركز عليه ويحوّله بوساطة خياله إلى ما تتطلبه حياة الشخصية التي يتقمصها، إذن فكل موضوع بالنسبة للممثل هو ما هو عليه في الحقيقة، وما يجب أن يكونه بالنسبة له بصفته الشخصية في آن واحد، أنه ما هو عليه بالنسبة للممثل المبدع، وما يجب أن يكونه بالنسبة للممثل/ الشخصية. وبهذا فإن الممثل يركز على كل موضوع بوصفه ممثلا/ مبدعا وممثلا/ شخصية، إذن ففاعل الانتباه المسرحي هو الممثل في كل التفاصيل السابقة. هناك، إذن، وحدة جدلية، تفاعل وتداخل بين الممثل المبدع وبين الممثل الشخصية، لكن ما هو صحيح بالنسبة لفعل كل سلوك مسرحي للممثل؟ الصحيح هو الخيال المتدفق الجميل، والتركيز الايجابي على لحظة وموضوع معين، ونستطيع هنا في فعل التركيز أن نجد وحدة عمليتين تتأثران وتتداخلان فيما بينها: عملية حياة الممثل الداخلية بوصفه مبدعاً، وعملية حياته الداخلية بصفته الشخصية المسرحية، وهذه الثنائية الفنية هنا تشكل وحدة لا تنفصم، ويغدو من المستحيل تقريبا الجزم أين ينتهي الممثل المبدع في فعل الانتباه المسرحي، وأين يبدأ الممثل الشخصية المسرحية. نادراً ما يلوم الممثل نفسه لشدة اندماجه في الموضوع المسرحي، بل غالباً ما يتكدّر لأن انتباهه نحو الموضوع سطحي جداً وشكلي، وفي أحيان كثيرة ينظر وهو على المنصة، لكنه لا يرى، يتسمّع لكنه لا يسمع، وبتعبير آخر إنه يتصنع الرؤية والسمع ويتظاهر بالتركيز، يحاكي الانتباه ويكرر علاماته الخارجية، في حين أنه لا يركز على المواضيع المطلوبة، عندما يكون الممثل مركزاً حقيقة على الموضوع المطوب فقط، تستطيع أنّاته الإبداعية الإيجابية أن تقوده إلى إنجاز المهمات الموجودة في المخطط النفسي للدور أو في مجال التكنيك الخارجي لفن التمثيل، على أمل أن يتم إنجازها جيدا، أي بحيوية وإقناع، وبتعبير آخر لكي ينفذ الممثل أية مهمة فكرية نفسية أو تكتيكية، يجب عليه أن يبدأ بالتنفيذ بعد أن يكون قد ركّز على الموضوع المطلوب باعتباره شخصية، وبعد أن يكون قد تقمص أفكار الشخصية وعاش تطلعاتها وإلا فإنه سينفذ المهمة شكليا بدون إقناع. بين الممثل والمتفرج لقد أشرنا إلى أن عملية الانتباه المسرحي يجب أن تتصف بكل صفات الفكرة المسيطرة، لكي تتصدى بنجاح لقوة التوتر الإبداعي المسيطرة السلبية، وهذا يعني أن على عملية الانتباه المسرحي أن تبتلع تأثيرات المحيط الخارجي كافة، فعندما تكون قوة الانتباه المسرحي المسيطرة موجودة، فإن كل المحفزات الجانبية ذات القوة المعتدلة لا تضعف عملية الانتباه المسرحي، بل على العكس من ذلك تقوّيها، ومن بين المحفزات الجانبية التي تنشط تركيز الممثل، يأتي المتفرج بالدرجة الأولى عند التركيز الشديد على مواضيع جديدة على المنصة، لا يعود الممثل يشعر بقاعة المتفرجين عائقاً ما، بل على النقيض يشعر بقاعة العرض أمرا ضروريا للتركيز المسرحي. إن المتفرج ضروري جداً للممثل كضرورة الهواء للإنسان الذي يتنفس وكأنه لا يلاحظ الهواء الذي يتنفسه، وكذلك الممثل على المنصة كأنه لا يلاحظ الجمهور في الصالة. جرّبوا أن تحرموا الإنسان من الهواء وسيلاحظ غيابه فورا، وأجبروا الممثل على أداء دور جاهز في قاعة خالية تماما وسيبدأ فورا بالاختناق الإبداعي، وسينطفئ انتباهه المسرحي إثر حرمانه من التأثير المنشط لردود أفعال قاعة المتفرجين. نشير هنا إلى أنه حتى تأثيرات صالة المتفرجين غير المستحبة مثل الضوضاء الخفيفة، السّعال، بكاء الأطفال من بعيد، إذا كانت ضمن حدود معينة، لا تقوّض تركيز انتباه الممثل الذي يعيش حالة تركيز كاملة، بل على العكس من ذلك تنشطه لأن الممثل بسبب هذه التأثيرات يعوّض بانتباهه بقوة على الموضوع المطلوب، وبذلك يتغلّب على قلق وتشتت وعدم انتباه قاعة المتفرجين، أما ردود أفعالهم الإيجابية مثل (الضحك حين أداء المقاطع الكوميدية، الخوف والقلق على مصير البطل في التراجيديا، الصمت المتوتر في لحظات تردد البطل في اتخاذ القرار الصائب، مثل مسرحية “الأم شجاعة” لبرتولد بريخت، وأخيرا التصفيق الذي يصدر من الجمهور تقديرا لأداء الممثل) فلا داعي للحديث عنها لأنها تفرح الممثل وتزيد من حيوية حياته الإبداعية وتنشط تركيزه الايجابي، لكن يجب أن لا ننسى أن المحفزات المعتدلة القوة وحدها التي تتمتع بإمكانية تعضيد القوة المسيطرة، فالمحفزات القوية يمكن أن تهدم القوة المسيطرة، وكلما كانت المحفزات أقل ثباتا سهل ذلك عليها، ونحن نعرف أن النتيجة الحتمية لتصدع قوة التركيز الإيجابي (المسيطرة) هي ظهور القوة السلبية مع كل مرافقيها الدائميين (التوتر العضلي، والمبالغة، والنمطية في الأداء)، لهذا يجب أن نربي لدى الممثل القدرة على خلق قوة تركيز إيجابي، ذات ثبات أقصى، فالممثل الذي يمتلك هذه القدرة يستطيع أن يستعيد بسرعة قوة الانتباه المسرحي المسيطرة، حتما عندما يقوّضها رد فعل قاعة المتفرجين. وهكذا فإن المتفرج باعتباره محفزا جانبيا أثناء سيطرة قوة التركيز المسرحي لا يعدّ ـ في المحصلة النهائية ـ عائقا أو كابحا، بل على العكس من ذلك يعدّ مكثفا فعل تركيز الانتباه وشرطا ضروريا من شروط الإبداع. في الحياة والتمثيل في الحياة عندما لا نكون مشغولين بعمل محدد فإننا في الغالب لا نعير انتباهنا هذا الموضوع أو ذاك، بل المواضيع ذاتها تجذب بانتباهنا إليها، وعندما نرى شيئا ممتعا فإن انتباهنا يرتبط به من تلقاء نفسه، ثمة تأثير عرضي يحرّك قدراتنا أحيانا على التفكير، فنركّز على هذا السؤال أو ذاك أو على هذه المشكلة أو تلك أو بتعبير آخر إن انتباهنا في الحياة غالبا ما يكون لا إراديا، إن اللحظات التي نربط فيها بالقوة انتباهنا بهذا الموضوع أو ذاك تشكل جزءا لا أهمية له في حياتنا، ويحدث هذا عندما نقوم بعمل صعب ومعقد لم يصبح موضوع ولعنا بعد. نجبر أنفسنا أحيانا على قراءة كتاب صعب الفهم، أو على تحضير درس غير ممتع أو سماع محاضرة لا تجذب انتباهنا من تلقاء نفسها وما إلى ذلك. إن الوسط المحيط بنا باستثناء هذه الحالات غالباً ما يوجّه انتباهنا نحو هذه الجهة أو تلك بتأثيراته الخاصة، ويخلق لدينا اهتماما معينا بمواضيع معينة. أما الحالة على المنصة فعلى عكس ذلك تماماً، فكل موضوع من مواضيع الانتباه المسرحي، في حد ذاته، لا يشكّل للممثل أية أهمية، بخاصة إذا كان الممثل يؤدي الدور المعين للمرة العاشرة أو الخامسة عشرة أوالمائة، أن تكون كل مواضيع الانتباه وكل ما يحيط بنا بالمنصة، معروفة تماما للممثل، سبق أن درسها بكل تفاصيلها، ولم تعد فيها أية مفاجأة أو متعة بالنسبة له، في كل الحالات يجب على الممثل أن ينظر إلى الموضوع نفسه ويسمع الكلمات عينها ويتأمل وجه شريكه الذي درسه حتى أدق التفاصيل، وكثيرا ما يضطر الممثل أن يقرأ على المنصة رسالة ما وهو يمسك بيديه ورقة بيضاء، أي أن يتعامل مع موضوع لا يمتلك في ذاته أي شيء ممتع، بل قد يكون ببساطة لا معنى له، وهكذا فالوسط المسرحي يختلف عن الوسط الذي يحيط بالإنسان في الحياة الحقيقية، لكونه لا يمتلك القدرة على جذب انتباه الممثل، وهكذا يأتي الاستنتاج من جراء نفسه. الملل الداخلي الذي تستره طبقة خفيفة من الوسائل الخارجية مرض شائع مع الأسف، ولا يوجد أبشع من هذا المرض أنّه سوط حقيقي بالنسبة للفن الحقيقي، ونلاحظ أحيانا مع الأسف كيف يؤدي الممثل العروض الأولى بحماسة وإلهام، ثم “تخور قواه” عند العرض العشرين، ويبدأ بالشعور بالملل على المنصة، مكرراً بآلية مخطط الدّور بدون حرارة التفاعل الداخلي والتمارين. كم من الأحيان تخبو اهتمامات الممثلين بالتفاصيل التي يجدونها أثناء التمارين الأولى، ثم تذبل وتختفي نهائيا، متحوّلة إلى مجرد جثث محنّطة وقوالب وكليشهات تمثيلية يابسة، باردة تثير التقزز في نفس الممثل، لهذا يجب على الممثل أن يضع في نفسه مطلباً خاصاً هو (تعلّم كيفية استثارة انتباهه هو)، فعلى الممثل أن يعرف كيف يحوّل أي موضوع إلى موضوع ممتع ومشوّق لنفسه، وكيف يحّول موضوعا يعرفه جيدا إلى موضوع يجهله، كيف يحوّل المعلوم إلى مجهول. إذا استطاع الممثل أن يربي في نفسه هذه القدرة، ويقوم بكل تمرين من التمارين بحماسة، فيستطيع أن يؤدي كل عرض من العروض بشغف وإلهام، فما هو المؤهل المطلوب يستطيع الممثل أن يجذب انتباهه إلى موضوع غير ممتع بالنسبة له؟ إنه في الواقع ما يعرف بـ”الخيال الخلاّق الدائم”. فكلما عمل خيال الممثل بفاعلية أشد كان تمسّك انتباهه بالموضوع المطلوب أكثر وأقوى، مثال ذلك: ليجرّب الممثلون تركيز انتباههم على “منفضة سجائر” موجودة عادة على المنضدة، أمام أعينكم، إنكم تعرفونها جيدا وترونها كل يوم حتى مللتموها، من المشكوك فيه أن تستطيعوا في هذه الحالة التمعن فيها طويلا بإستمتاع، لكن جرّبوا تحديد لونها، والتفرّس في شكلها جيدا، عيوبها، الخدوش والبقع الموجودة عليها، تبّتوا كل خواصها، بالتأكيد ستنتهون من ذلك بسرعة، وسيغلب السأم عليكم بسرعة كذلك، لكن استمروا، أدخلوا تفكيركم في عملية الانتباه، وإجعلوا هذه العملية إيجابية الى أقصى حدّ، عندما تصورتم أنكم درستم المنفضة جيدا وعرفتم بكل تفاصيلها، لم يكن ذلك إلا تصورا، لكن جرّبوا أن تجدوا في المنفضة شيئا جديدا، ستكتشفون بالتأكيد أشياء عديدة تنبّه تفكيركم وخيالكم، مثل أن تسألوا ما هي المادة التي صنعت منها المنفضة؟ وكيف صنعت؟ من أين جاءت المادة؟ هنا عليكم الاستعانة فورا بخيالكم، ولن تلاحظوا كيف أنكم ستندمجون مع المنفضة، وسيصبح انتباهكم إيجابيا وإبداعيا، وتتجمع حول المنفضة المملة الجامدة أشياء ممتعة كثيرة، يقدّمها تفكيركم الابداعي وتصوراتكم وخيالكم التمثيلي، ستحيا المنفضة بالنسبة لكم حياة جديدة من صنعكم، وسيصعب عليكم في النهاية أن تنقلوا انتباهكم عن المنفضة، مع أنها في هذا التمرين بقيت منفضة طوال الوقت، قد توسّع موضوع إنتباهكم بمساعدة خيالكم. هذا التحوّل الجميل في مجال استخدامات الخيال، حاولوا تحقيقه في موضع آخر، كأن نفترض أن أمامكم الآن “قنبلة”، لا منفضة سجائر، فإذا تعاملتم مع هذا الافتراض بجدّية، فإن علاقتكم بالموضوع ستختلف جذريا وسيزداد إهتمامكم به، يقول ستانسلافسكي في هذا الشأن: “مثل هذا الموضوع المتحوّل يخلق رد فعل جوانيا عاطفيا داخليا، ومثل هذا الانتباه لا ينشغل بالموضوع فقط، بل ويجرّ كل جهاز إبداع الممثل إلى العمل ويستمر معه في النشاط الإبداعي”. وهنا أيضا ستتمعنون بالشيء نفسه، وستعيدون قراءة ما سبق أن قرأتموه، اسم المصنع الذي صنع هذه القنبلة، كما ستحاولون فهم تركيبها، وكيفية التعامل معها. بين الشكلي والإبداعي نستطيع الآن وبدون جهد كبير فهم الفرق بين الانتباه الشكلي والانتباه الابداعي، فالأول هو ذلك الانتباه الذي يجعل الممثل يدرك الموضوع حسّيا بدون أن يستطيع هذا الموضوع أن يستدعي إلى ذاته أي قدر من الاهتمام، وبتعبير آخر فإن الانتباه الشكلي هو انتباه يتم بدون مشاركة الخيال، وهو تقريبا لا يختلف في الجوهر عن الانتباه الحياتي عندما يكون الأخير موجها إلى موضوع غير ممتع. أما الثاني فهو ذلك الانتباه الذي يكون الممثل أثناءه قادراً بمساعدة خياله على جعل الموضوع المطلوب ضروريا بالنسبة له مطلوباً مهماً ممتعاً، ويصعب عليه أن يرفع عنه نظره. من هنا يجب التأكيد على الممثل بأن يجعل انتباهه على المنصة إبداعياً، وعليه وهو يؤدي الدور للمرة العاشرة أو العشرين أو حتى المائة أن يسمع الحوار الذي يعرفه جيداً باهتمام ومتعة حقيقية، وينتظر الحوار باهتمام، ويقيّمه باهتمام أكبر، وأن يبحث عن الكلمات اللازمة للجواب عن أي سؤال يتضمنه الحوار، وبهذه الطريقة وحدها سيكون باستطاعة الممثل أن ينطق مائة مرة ومرّة بكلمات حوار المؤلف الذي يحفظه عن ظهر قلب بطريقة توحي بأن هذه الكلمات وهذه الجمل كلماته هو، وقد ولدت لا إراديا وتوّا في هذا المكان المسمى خشبة المسرح أمام جمهور سيستوعب كل حرف، وكل كلمة ولفتة وهمسة إذا كانت صادقة فأساس النص المسرحي هي جملة الحوار الدرامي وطريقة نطقها وتشكيلها في إطار فنّي. الانتباه الإبداعي هو مصدر أفراح إبداعية كبيرة جدا بالنسبة للممثل، فالجلوس على المنصة بهدوء وثبات، وقراءة جريدة مثلاً أو كتاب، متعة كبيرة، فإذا استطاع الممثل أن يقرأ الجريدة على المنصة بحضور مئات المتفرجين مثلما يقرأها عندما يكون وحده في غرفته الخاصة في منزله، وبالشعور نفسه، وبالحرية والهدوء والإيقاع ذاته، وبدرجة الاهتمام والأفكار والمشاعر والتّداعيات عينها، فإنّه سيكون قد حقق نصراً كبيراً على طريق التّمكن من (التكنيك الداخلي) لفن التمثيل، وتتلخص طريق الوصول إلى هذه الحالة في جملة من الإرشادات والمهمات المسرحية على النحو التالي: في البداية تنظرون إلى الجريدة وترونها (من المعلوم أنه يمكن أن تنظر دون أن ترى وكثيراً ما يحدث ذلك مع الممثلين على المنصة)، فما معنى أنكم ترون الجريدة؟ إنه يعني أن عيونكم تدرك حسّيا الورقة البيضاء الموجودة أمامكم مع علاماتها السوداء. المرحلة الثانية في هذا المثال أنكم تبدأون فهم معنى كل كلمة فهما حقيقياً، وأخيرا تبدأون إدراك معنى ما تقرأون، لكن هذا في الواقع لا يكفي، لأن انتباهكم لا يزال يحمل السّمة الشكلية، عليكم إذن أن تصلوا إلى درجة الاهتمام إلى حد الولع الحقيقي، كل جملة تقرأونها يجب أن تستدعي في وعيكم ذلك المركّب من الأفكار والتداعيات الذي تستدعيه قراءتكم الجديدة في الحياة الحقيقية. المراجع: * د. إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية ـ دار الشعب، القاهرة ط1 1971 * سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر ـ عالم المعرفة، عدد 19 مطابع اليقظة، الكويت 1979 * جلال العشري، المسرح أبو الفنون في النقد التطبيقي ـ دار نافع للطباعة والنشر، القاهرة 1973 * د. سمير سرحان، تجارب جديدة في الفن المسرحي ـ دار المعرفة، القاهرة 1970 * د. نبيل راغب، المذاهب الأدبية من الكلاسيكية الى العبثية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1977 j.l.stayan. drama. Stageand audience.cambridge university press.u.s.a ـ 1975 ـ Adex – vern- theater scenecraft – Kentucky – 1956 قواعد ذهبية لخيال الممثل في ما يلي جملة من الاستنتاجات من هذه الدراسة، والتي تشكل قواعد ذهبية لخيال الممثل: ? على الممثل أن يعرف كيف يصارع كل مظاهر القوة المسيطرة السلبية وذلك بمواجهتها بقوة التركيز الإيجابي المسيطرة الثابتة، كذلك استخدام خياله بفاعلية فنية. ? على الممثل أن يركّز إيجابيا طوال وجوده على المنصة على المواضيع المطلوبة ضمن ما يحيط به على المنصة، في هذه الجهة من الأضواء الأمامية لا في تلك المنصة الجامدة. ? على الممثل أن لا يتحكم في انتباهه الخارجي فقط مثل (النظر، السمع، اللمس، الشّم، التذوق) بل في انتباهه الداخلي أيضا (القدرة على التحكم بتفكيره وتوجيهه إلى الجهة المطلوبة وربطه بموضوع معين متفق عليه سلفا). ? على الممثل أن يسعى ليكون انتباهه إبداعيا لا شكليا، بتحويل أي موضوع غير ممتع عن طريق خياله، لا إلى موضوع ممتع بالنسبة له فقط، بل يجب أن يكون ضروريا كذلك. ففي المرحلة الداخلية يحاول الممثل الإحساس أكثر ومن ثم تجسيد هذا الاحساس ونقل الفكرة للخارج أي الى المتفرجين وبصورة خلاّقة تستمر حتى ما بعد نهاية العرض المسرحي، وبذلك ينجح الممثل في الخروج من دائرة (النمطية) والدّور المحدود إلى دائرة الإبداع وتطوير شخصيته وأدواره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©