الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مريم ·· حكاية عجوز تبدأ حياتها مع الألفية الثالثة

مريم ·· حكاية عجوز تبدأ حياتها مع الألفية الثالثة
26 فبراير 2009 23:37
في منطقة جبلية تابعة لإمارة رأس الخيمة، تعيش مريم المزروعي التي تبلغ من العمر ما يزيد على المائة عام، وليس بمستغرب أن نجد إنسانا معمرا، ولكن العجب أن نجد أن الله سبحانه وتعالي قد أنعم عليه بطول الأجل والصحة والعمل الصالح، دون ''زهايمر'' أو خرف أو أعراض سن الشيخوخة، وبدون أن يشكو من علة أو مرض عصري· عادة ما نرى أن الإنسان في هذا العمر كثير اللغو أو الثرثرة، وربما يهذي طوال الوقت وينتقل من موضوع إلى آخر دون أن يكون هناك رابط بين الموضوعين، إلا أننا وجدنا أن مريم كانت صامتة طوال الوقت، ولم تكن تتحدث إلا للسؤال عن أمر ما، وكأنها قد تعبت من الحديث أو الكلام مع من حولها وما حولها، وربما تعلمت الصمت من الجبال التي تتنقل بين سفوحها· حين التقينا مريم، كان ذلك بمحض الصدفة، حيث كنا نقوم بالتصوير لموضوع آخر، وفجأة برزت مريم ووقفت على قمة الجبل شامخة وكأنها خرجت من الصخور، وكانت معفرة بتراب الجبل وتبدو هيئتها غبراء، وكان الاعتقاد الأولي أنها ربما تكون إنسانا خرفا يلهو بلا وعي، ولا حول له ولا قوة· إلا أن مريم تقدمت تهبط الجبل دون مساعدة من أحد، وبدون عكاز أو عصا تتكئ عليها، ولم تكن تنظر للأرض كي تتقي التعثر بالحجارة، وكأنها حفظت كل حصاة وكل حجر، وسألت من حولها عنا، ثم تقدمت للتحية، كانت ترى وتسمع وتتحدث وتتحرك وكأنها في عمر الشباب بنشاط غير عادي· سألت شقيقها لماذا هي غبراء بهذا الشكل، فضحك قائلا إن مريم منذ طفولتها وحتى اليوم لا تزال تذهب لجمع الحطب، كما تقوم بجمع الأغصان الطرية وتعمل على تجفيفها من أجل استخدامها للطهي، ولا تزال تذهب كل يوم في الصباح الباكر إلى ''الضاحية'' المزرعة الصغيرة لتهتم بعملية التنظيف ونبش التربة للتهوية· قالت مريم وهي تسير أمامنا إن من حولها يحاولون منعها من العمل خوفا عليها، وعلقت على ذلك قائلة: دائما ما أسألهم: لماذا؟ هل تريدون أن أصبح كسيحة من كثرة الجلوس والخمول؟· قصة مريم مع الزمن فيها تحدٍ وصبر، فهي التي ترملت وهي شابة صغيرة، فقد كانت زوجة سعيدة وصغيرة في زمن ما قبل زمن الاتحاد، كان الناس يتعرضون للسطو المسلح في الأربعينات وبداية الخمسينات، و تلك العصابات الخارجة عن القانون والشرع، تسمى''القوم'' لأنهم عصبة من قوم ما، يخرجون على الناس لينشروا الرعب والخوف، ويفعلون أفعال قطّاع الطرق، من نهب أو لسرقة البشر لبيعهم في دول أخرى، أو أماكن أخرى بعيدة عن ديارهم، حيث لا يستطيع أهلهم العثور عليهم فلا توجد وسيلة اتصال ولا مركبات إلا من الإبل والحمير والخيول التي كان يخشى على أصحابها الخروج ولو في قوافل بسبب العصابات، وقد تم القضاء على تلك العصابات في الخمسينات· شاء الحظ لمريم أن تشن عصابة من اللصوص غارة على عشها الهادئ الفقير، وقد جاؤوا لنهب منزلها فتصدى لهم زوجها فتم قتله أمام عينيها، وسمعت رئيس العصابة يقول احرقوها مع ''عشتها'' منزلها، إلا إن رحمة الله كانت واسعة، فقال أحد رجال العصابة: إنها بائسة وضعيفة ولا حول لها ولا قوة بل نتركها، فتركوها وغادروا المكان لتضمد الصغيرة جراح قلبها وفقدها لأعز إنسان عليها بكثرة الصمت وكثرة العمل· قال أبو علي ''شقيق مريم الأصغر عمراً منها'' إنها ربما كانت طفلة عندما تم تزويجها، مثل عادة العرب في ذاك الزمان البعيد، ولذلك يقدر عمر مريم الآن بما يزيد عن مائة عام، لو تم افتراض زواجها وهي في العاشرة من عمرها، ولا تزال في أوج نشاطها حتى اليوم وقد حفظ الله لها كل حواسها، ولم يسبق لها أن أدخلت أي مستشفى أو عيادة· تتحدث مريم بحياء وخفر الفتيات الصغيرات، فهي لا تزال تخجل وتأبى الرد على الأسئلة، إلا بتشجيع من شقيقها أو زوجة شقيقها أو من أحد الأقارب، ولكنها تنظر بتوجس ويشعر محدثها أنها تقرأ نبرة الصوت أو تشاور نفسها إن كانت ترد على السؤال أو تصمت· قالت مريم إنها لم تدخل أية عيادة صحية ولا مستشفى، بل لم يتم فتح أي ملف لها في أية عيادة صحية، والسبب أنها لم تشعر بما يتوجب نقلها لإجراء الفحوصات الطبية، وتعلق قائلة: ربما ضعف بصري، ولكني مازلت أستطيع السير ورؤية ما حولي دون مساعدة أحد· وأكملت مريم أن يومها يبدأ من أذان الفجر وتقضيه بين طاعة الرحمن والعمل، رغم أن من حولها ليسوا بحاجة إلى مساعدتها، إلا أنها لا تقدر على البقاء دون أن تنظف أو تذهب ''للضاحية''، التي يمتلكها شقيقها، كما تذهب لجمع الحطب الذي يستعان به لطهي الطعام أو لصنع القهوة والشاي· من أكثر الأطعمة الشعبية التي تتناولها مريم الأرز الأبيض المسلوق، ومسحوق السمك المعروف بالــ ''سحناه'' والتمور والليمون، كما تتسلى بأكل الخناصير والدغابيس وهي نباتات شعبية تعمل على تنظيم نسبة السكر في الدم وعلى علاج ضغط الدم المرتفع· تحذر مريم من كثرة تناول اللحوم والسمن المنتج من زبدة الحليب البقري، إلا أن يتبع ذلك سكبُ كميات من الخل المنتج محليا من الليمون، وتقول إن أهم ما يجب أن يشرب بعد تناول التمر هو القهوة لأنها تحرق سموم الحلويات، هكذا تعتقد مريم بأهمية أن تقضي أطول وقت ممكن تسير بين سفوح الجبال، تنبش الأرض بحثاً عن أغصان الشجر الجافة التي سقطت، أو تبحث عن النباتات الجبلية· تعمل على نظافة البيئة المحيطة، وهي تقول عن ذلك: إن الأرض التي نسكن عليها تعطينا بقدر ما نعطيها، وتكون بخير طالما نعتني بها، وكل حصاة - كما ذكرت الأحاديث الشريفة - أنها تسبح بحمد ربها ليلاً ونهاراً، ولذلك لنا الأجر عندما نعتني بالأرض، ويبارك لنا الله في آجالنا بسبب العمل الصالح، وخاصة إن كان من أجل الأرض والدواب وأن ننام وليس في قلوبنا ذرة غل أو حقد· طلبنا من مريم أن ترينا ماذا لديها من نباتات تؤكل، وكان على علو 3 أقدام عن سطح الأرض طبق به بعض الخضار، وبطريقة لا شعورية بدل أن تصعد مريم درجات السلم، وضعت كفها على طرف السور استعدادا للقفز إلى الأعلى لتصل إلى مكان الطبق، إلا أن من حولها من شدة رفقهم بها، منعوها من القفز لاختصار المسافة وطلبوا منها أن تصعد باستخدام السلم· تنام مريم في تمام الساعة الثامنة مساء بعد صلاة العشاء، إلا في ليالي الشتاء حين تسهر العائلة على ضوء نار الموقد، حيث تستلقى لتراقب ألسنة النار الصغيرة وهي تتحول إلى جمرات متقدة، وتستمع أكثر مما تتحدث لكل من يجلس للتسامر حتى يدركها النوم، وتصحو عند أذان الفجر لتبدأ يوماً جديداً مليئاً بالنشاط·
المصدر: دبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©