الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أمبيرتو ايكو.. سلاح الإشعاع الحضاري

أمبيرتو ايكو.. سلاح الإشعاع الحضاري
24 فبراير 2016 02:30
هاشم صالح يطرح أمبيرتو إيكو في إبداعه كما في مسلكه الحياتي سؤالاً مهماً في جملة ما يثيره من أسئلة، ذلك السؤال هو: لماذا لا يتقن الكاتب والمبدع والمثقف العربي «مهنته» التي احترفها ويجوّد فيها؟ لماذا يعيش في برج عاجي مدعياً «الإلهام» الذي ينبغي أن يهبط عليه ليكتب نصّه، ثم يخرج في وسائل الإعلام ليدبج الخطب والخطابات حول ضرورة أن يكون المثقف عضوياً، مقارباً لهموم الناس ومعاناتهم ومعانقاً لأحلامهم.. ثم سرعان ما تكتشف أن إبداعه في واد والناس في واد آخر.. لا داعي هنا للأمثلة، فما اكثرها على صعيد الشيزوفرينيا الفكرية والنفسية التي يعيشها كثير من الكتاب العرب.. بالطبع لا تقف هذه الممارسات الممجوجة عند حدود ادعاء الإلهام والتضخم الذاتي والنرجسية وغيرها مما يصبّ في المعنى ذاته.. هنا، يحضر أمبيرتو إيكو، الكائن، الجميل إبداعاً ومسلكاً، القادر على أن يسخر من كل شيء في هذا العالم إلا من إنسانية الآخر.. فهذه بالنسبة إليه خط أحمر وربما تكون هي الخط الأحمر الوحيد الذي يعترف به.. والقادر على أن يقول بجرأة إن العمل على النص، والكدح وبذل الجهد في القراءة، والاشتغال على تنمية الموهبة وصقلها، وتدريب الذات على التقاط شيفرات الروح الآتية من النائي الداخلي، هي كلها السبب الحقيقي وراء الكاتب الاستثنائي. يقول أمبيرتو إيكو: «أوَ لا يكون (الوحي) كلمة غير مناسبة يستخدمها المهرة من الكتاب كي يوفروا لأنفسهم البريق والبهاء»، ثم يضيف في تبنٍّ كامل للقول المأثور: «العبقري هو إلهام عشرة بالمائة وعرق تسعون بالمائة»... لهذا الدرس تحديداً، ولغيره من الدروس، ينبغي القول إننا بصورة عامة خسرنا برحيل هذا الرجل الكثير من الجمال، فضلاً عن أننا في «الاتحاد الثقافي» خسرنا بصورة خاصة، زميلاً مبدعاً، وكاتباً رائقاً، كنا نسعد بأن يحتل الجزء الأعلى من صفحتنا الأخيرة بين الخميس والخميس... أيها الكتاب، اقرأوا أمبيرتو إيكو... أيها الكتاب، تواضعوا قليلاً وخففوا من وطأة نرجسيتكم... أيها الكتاب، اعرقوا قليلاً... «الاتحاد الثقافي» أعترف بأني فوجئت وشعرت بحزن شديد عندما سمعت بخبر وفاة ناقد إيطاليا الأكبر: أمبيرتو ايكو. فقد كان يمثل بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين صوتاً دافئاً وحنوناً على الضفة الأخرى من المتوسط، في وقت ارتفعت فيه أصوات الحقد ضدنا من كل الجهات. كان مفكراً رصيناً وإنساناً طيباً وكاتباً مبدعاً في المجالات كافة تقريباً. فلم يكن ناقداً عالمياً فقط، وإنما أيضاً روائياً من الطراز الأول وفيلسوفاً منظراً ومفكراً سياسياً يتدخل في الأحداث الجارية ويضيء المشاكل العويصة المطروحة على عالمنا المعاصر وما أكثرها وأخطرها هذه الأيام. كان يليق بالبلاد التي أنجبت بيترارك ودانتي وغاليليو وبقية عباقرة عصر النهضة الإيطالية. في آخر مقابلة أدلى بها لجريدة «الفيغارو» الفرنسية، قال أمبيرتو إيكو ما معناه: أذهب الآن من وقت إلى آخر إلى معرض الكتاب الكبير في مدينة ميلان لكي أشتري الكتب القديمة التي كنت قد قرأتها قبل سنوات طويلة. أنا شخص نوستالجي يعصف به الحنين إلى الماضي البعيد على طريقة مارسيل بروست صاحب الرواية الشهيرة: بحثاً عن الزمن الضائع. لا أجد معنى الحياة إلا في ذكريات الطفولة. كم هو عدد الكتب التي تمتلكها؟ 35 ألف كتاب في شقتي الأساسية بميلان وعشرة آلاف في بيتي الريفي وبضعة مئات في باريس وبولونيا، حيث أدرس طلبة الدراسات العليا. سجين الوردة هل يسألونك دائماً عن روايتك اسم الوردة؟ أنا سجين هذا الكتاب غصباً عني، ولا أستطيع منه فكاكاً. حيثما حللت وارتحلت يسألونني عنه، تماماً مثل غابرييل غارسيا ماركيز الذي يسألونه باستمرار عن روايته: مائة عام من العزلة.. وعندما سألوه عن التفجيرات الباريسية الأخيرة وموقفه من الإسلام قال أيضاً ما معناه: ليس من العدل أن نتهم المسلمين بشكل عام بعد هذه التفجيرات التي أودت بحياة الضحايا الأبرياء.كما أنه ليس من العدل أن نتهم المسيحية ونحملها مسؤولية مذابح قيصر بورجيا(1475-1507). ينبغي أن نفرق بين الدين ومتطرفيه. ولكن يمكن القول بأن «داعش» هي شكل جديد من أشكال النازية المجرمة لأنها تستخدم الأساليب الاستئصالية نفسها والتصفية الجسدية وقطع الرؤوس على الهوية. كما وتمتلك الرؤية الجهنمية نفسها التي توهمها بإمكانية السيطرة على العالم بأي شكل عن طريق المجازر المرعبة. وبالتالي، فينبغي الوقوف في وجهها بكل حزم واستئصالها حماية للحضارة البشرية منها وللمسلمين قبل المسيحيين. من المعلوم أن أمبيرتو ايكو كان صحفياً أيضاً، بل ويكتب بانتظام في مجلة الاسبريسو (الاكسبريس) الأسبوعية الإيطالية. وفيما يخص الثورة المعلوماتية وشبكة التواصل الاجتماعي له رأي مبتكر ومفيد جداً أن نذكر القارئ الكريم به. يقول بالحرف الواحد: لا ريب في أن لهذه الثورة المعلوماتية فوائد عظيمة لا تنكر. ولكن ينبغي الاعتراف بأن شبكات التواصل الاجتماعي كـ«الفيسبوك» وسواه، أعطت حق الكلام لكل من هب ودب. وهنا وجه الخطر والخطورة. لقد أعطت حق الكلام والتعبير لجحافل من الحمقى والأغبياء والمعتوهين. أما قبل ظهورها، فكان كلامهم محصوراً في المقاهي الشعبية والمواخير وما إلى ذلك. فبعد عدة كؤوس من الخمرة كانوا يتفوهون بحماقاتهم ولا يخرج كلامهم عن ذلك النطاق الضيق. بل وكانوا يفحمونهم ويسكتونهم حتى في المقاهي. وبالتالي فلم يكن كلامهم يصل إلى الخارج ولا يسبب أي ضرر للمجتمع. أما الآن، فأصبح كلام أي شخص تافه على «الفيسبوك» معادلاً لكلام أكبر حائز على جائزة نوبل! هذا شيء يزعجني ويقلقني. حوار الحضارات أخيراً بعد هذه الديباجة الطويلة سوف أكرس بقية المقال لموقف أمبيرتو ايكو من صراع الحضارات أو بالأحرى حوار الحضارات بين الشرق والغرب، أو بين العالم الأوروبي - الأميركي وعالم الإسلام. ومعلوم أنها هي الإشكالية رقم واحد في عصرنا الراهن. وسوف نجد أننا هنا أيضاً فقدنا شخصاً عظيماً برحيله. أصبح واضحاً أن 11 سبتمبر الذي حصل في العام الأول من هذا القرن الحادي والعشرين ودشنه تدشيناً لا يزال يتحكم بالسياسة العالمية حتى اللحظة. حيثما جلنا ببصرنا وجدنا آثاره بادية للعيان. القوة الأعظم تحدد سياستها الدولية بناء على الاقتراب من الأصولية المتطرفة أو الابتعاد عنها. وأكبر دليل على ذلك الموقف من «داعش» التي حلت محل القاعدة أو انضافت إليها بزخم أشد. فمحاربتها أصبحت بالنسبة للأميركان واجباً مقدساً. وهذا يعني أن ضربة 11 سبتمبر الدامية تركت في أعماقهم جرحا لا يندمل.لقد ذكرتهم «داعش» بها إذا كانوا قد نسوها. ولذلك جن جنونهم وعادوا إلى ساحة المعمعة من جديد.. ولكن امبيرتو ايكو الذي رحل عنا للتو يرى أن العامل الثقافي هو الذي سيحسم المعركة بين الطرفين وليس العامل العسكري أو الحربي أو حتى التكنولوجي. ولذا ينصح الغرب بأن يستخدم سلاحاً آخر مع العرب والمسلمين غير السلاح الذي استخدمه بوش والمحافظون الجدد. وهو يقصد بذلك سلاح الفكر والإشعاع الحضاري والنزعة الإنسانية العميقة. فهو أكثر فعالية من كل الجيوش الجرارة.أعترف بأن هذه الأطروحة أعجبتني وجذبتني بل وأدهشتني. ولكن من يستمع الى صوت رائع وحضاري كصوت أمبيرتو ايكو؟ حتما ليس بيرلسكوني ولا المحافظون الجدد! نقول ذلك ونحن نعلم أن الملياردير الشهير يشغل وسائل الإعلام من حين لآخر بفضائحه الجنسية وتصريحاته المشبوهة التي تشي بالعنصرية أحياناً إلى درجة أن أوباما منزعج منه كما يقال. على أي حال بما أن بيرلسكوني يهيمن على معظم الفضائيات التلفزيونية والجرائد الإيطالية، فإن الكثيرين يعتقدون بأنه يمثل إيطاليا، كل إيطاليا، بالفعل. والواقع انه ظاهرة من الظواهر العجيبة الشاذة التي لا يستهان بها. فالرجل متعدد الجوانب وصاحب مواهب معينة، وإلا لما استطاع السيطرة على الحياة السياسية الإيطالية بمثل هذا الشكل ولفترة طويلة من الزمن. ولكن لحسن الحظ فإن سقوطه تحقق مؤخراً. وهذا يعني أنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح. فالمحاكم تلاحقه باستمرار. ولكن هل قال كلمته الأخيرة يا ترى؟ على أي حال، فإن الوجه الحقيقي لإيطاليا، الوجه الحضاري والأخلاقي، موجود في مكان آخر. فإيطاليا بلد عريق في النزعة الإنسانية والحضارية منذ عصر النهضة كما هو معلوم. إيطاليا هي بلد بيترارك ودانتي وميكيل آنجيلو ورافائيلو وليوناردو دافنشي وغاليليو ومارسيل فيشان وبيك الميراندولي الذي كان معجبا بحضارتنا إبان العصر الذهبي والذي كان يقول: «قرأت في كتب العرب، إنه لا شيء أجمل ولا أعظم من الإنسان». وقتها كنا نحن منارة العالم وكانوا يستشهدون بنا وبعباقرتنا مثلما نستشهد نحن حالياً بعباقرتهم من أمثال كانط أو هيغل أو فولتير أو أمبيرتو ايكو ذاته.. كما أن إيطاليا هل بلد بنديتو كروتشيه وغرامشي وفيليني وبازوليني وفيسكونتي وغيرهم من الوجوه الفكرية والفنية اللامعة.ولكن ربما كان امبيرتو ايكو أشهر مثقف إيطالي في الوقت الحاضر. وبما أن الكثيرين من مثقفي أوروبا وفلاسفتها نزلوا إلى الساحة على إثر ضربة 11 سبتمبر وما تلاها من تفجيرات في مختلف عواصم الغرب فإنه أدلى بدلوه بين الدلاء. وقال بما معناه: كل الحروب المذهبية أو الدينية التي أدمت العالم تعتمد على متضادات تبسيطية من نوع: نحن/ والآخرون، أو نحن الأخيار/ والآخرون الأشرار، أو نحن البيض/ وهم السود، الخ. هذه الثنائيات القطبية أو الاستقطابية المتطرفة هي سبب خراب العالم. إنها سبب كل الصراعات الدموية والأحقاد العنصرية والطائفية.فأنا لا يمكن أن أمثل الخير كله والآخر الشر كله.مستحيل.في كل الأمم هناك أخيار وأشرار.ولا يجوز التعميم إطلاقاً كأن نقول مثلاً بعد 11 سبتمبر أو تفجيرات باريس تحت تأثير الانفعال: العرب كلهم أشرار، أو المسلمون كلهم متعصبون دمويون.. إلخ. وهكذا يذهب الصالح بجريرة الطالح. كما لا يجوز أن نقول: أميركا هي الشيطان الأكبر، وبقية الشعارات الديماغوجية التي سادت في إيران بعد الخميني.ففي أميركا حضارة كبرى وجامعات راقية جداً، بل وتيارات إنسانية رائعة. ولكن فيها أيضاً الوجه الآخر غير المريح. أميركا فيها القوة الخشنة وفيها القوة الناعمة. وإذا كانت الثقافة الغربية قد أثبتت خصوبتها فذلك لأنها فَكَّكت هذه الأطروحات الثنائية التبسيطية على ضوء البحث العلمي والروح النقدية. ولكنها لم تكن دائماً خصبة أو نقدية أو متسامحة على عكس ما يزعم بيرلسكوني وسواه. فهتلر مثلاً حرق الكتب مثله في ذلك مثل أي همجي داعشي آخر. وكذلك فعلت الفاشية الإيطالية التي لا يمكن القول – وليعذرنا بيرلسكوني- بأنها كانت حضارية! ويمكن أن نضيف: وماذا عن محاكم التفتيش المسيحية والحروب الصليبية؟ وبالتالي فليكنس كل واحد أمام بيته.العرب أو المسلمون ليسوا وحدهم في قفص الاتهام.هذا أقل ما يمكن أن يقال.. تفوق الغرب.. هذا الكلام يعتبر رداً على تصريحات بيرلسكوني بعد 11 سبتمبر والتي قال فيها إن الحضارة الغربية متفوقة جذرياً على الحضارة الإسلامية المتخلفة والمتعصبة بطبيعتها وجوهرها. ومعلوم ان هذه التصريحات أثارت ردود فعل هائجة في وقتها. فقد اعتبرها الكثيرون غير لائقة أو عنجهية واستفزازية وربما عنصرية. وعندئذ تصدى له الناقد والفيلسوف امبيرتو ايكو لكي يقول له بان الحضارة الغربية لم تكن دائماً متفوقة على غيرها وانها ارتكبت الكثير من الجرائم إبان المرحلة الاستعمارية أو حتى في القرن العشرين أثناء سيطرة الفاشية والنازية. يقول الناقد الكبير حرفيا: لقد علمتنا الفاشية في المدارس أيام موسوليني أن الله يلعن الإنجليز! لماذا؟ لأنهم يأكلون خمس مرات في اليوم، في حين أننا نحن الإيطاليين لا نأكل إلا ثلاث مرات وبشكل خفيف وبسيط.. وبالتالي فليس كل شيء مشرقاً في الحضارة الغربية. ولكن هناك جوانب أخرى لحسن الحظ في هذه الحضارة. هنالك التنوير، والعقلانية، والتسامح، وحقوق الإنسان، والتعددية الفكرية والعقائدية، وحرية الصحافة، والفكر النقدي.. إلخ... ولكن الشيء المؤلم فعلاً هو أن الحضارة الغربية خانت هذه المبادئ النبيلة بالذات عندما استعمرت الجزائر وسواها. وقد كان ذلك عملا مضادا للشعار شبه المقدس للجمهورية الفرنسية والمتمثل بالكلمات الذهبية الثلاث المحفورة على واجهة كل المدارس والمباني الحكومية الفرنسية: (حرية، مساواة، إخاء)، بين جميع البشر.فما علاقة الاستعمار المجرم بكل هذه المبادئ العظيمة؟ وبالتالي فمشكلة الحضارة الغربية هي أنها خانت الأنوار التي ترفع رايتها كما يقول جان كلود غيبو. إنها أحياناً تقول شيئاً ثم تفعل عكسه تماماً. الغرب التوسّعي ويرى أمبيرتو ايكو أنه إذا ما ألقينا نظرة على التاريخ وجدنا أن الغرب كان دائماً راغباً في معرفة الحضارات الأخرى، وذلك لأسباب اقتصادية غالباً. فهو يريد أن يتوسع ويغتني، ولكي يحصل على ذلك فإنه كان ينبغي عليه أن يتعرف إلى ثقافات أخرى غريبة عليه. ولكنه كثيراً ما نظر إلى هذه الثقافات باحتقار. فالإغريق مثلاً، وهم أصل الغرب، كانوا يسمون كل من لا يعرف لغتهم بالهمج البرابرة ! وحدهم الفلاسفة الرواقيون اعترفوا بأن «البرابرة» ليسوا برابرة؛ لأنهم بكل بساطة يتحدثون لغة أخرى ويستخدمون كلمات أخرى للدلالة على نفس الشيء. وبالتالي فيستحقون الاحترام مثلنا لا أكثر ولا أقل.. وربما فعل الرواقيون ذلك لأنهم كانوا من أصل فينيقي.ولكن بدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورت الأنتربولوجيا الثقافية في الغرب بصفتها علماً أناسياً مقارناً يريد شفاء الغرب من عنهجيته واحتقاره للحضارات الأخرى. وكان هدف هذا العلم أن يبرهن على وجود فكر آخر غير الفكر الغربي في العالم ومنطق آخر غير المنطق الغربي. وبالتالي فينبغي احترام هذا الشخص الآخر وعدم احتقاره بصفته بدائياً، أو متوحشاً، أو همجياً لمجرد أنه هندي أو صيني أو عربي.. ينبغي أن نعلم أن كل شعب يعتبر عاداته وتقاليده بمثابة المثالية أو المطلقة. وكل من يخرج عليها يعتبر همجياً أو بربرياً أو متخلفاً. وحتى داخل العالم الغربي نفسه نلاحظ أن الأميركيين يسخرون من الفرنسيين لأنهم يأكلون الضفادع !.. ولكن هناك بعض المعايير الموضوعية التي تتيح لنا المقارنة بين الحضارات البشرية المختلفة والتوصل إلى اكتشاف التفاوت أو التفاضل فيما بينها. فلا يتساوى كل شيء مع كل شيء، ولا ينبغي علينا تمييع المواقع بحجة احترام الآخر. فإذا ما أخذنا التفوق العلمي أو التكنولوجي كمعيار للمقارنة فمن الواضح أن الحضارة الغربية متفوقة على غيرها بما لا يقاس.نقول ذلك على الرغم من أن الهند أصبحت تنافسنا مؤخراً بشكل جدي وكذلك الصين هذا دون أن نتحدث عن اليابان. ولكن هناك من يقول بأن التكنولوجيا الصناعية تقضي على الطبيعة وتسمّم الأجواء، وبالتالي فمن الأفضل أن نعيش في قرية صغيرة هادئة في جبال الأطلس المغربية بعيدا عن ضجيج العالم الصناعي ودخانه وتلوثه. وبهذا المعنى فإن الحضارة الغربية تصبح أدنى مستوى من غيرها. وإذن فكل شيء يعتمد على المقياس الذي نتخذه كمعيار حضاري أو كمعيار للحضارات. ثم يضرب أمبيرتو ايكو المثل التالي لتوضيح الفكرة أكثر. يقول: الكل يعلم بأن الباكستان تمتلك القنبلة الذرية في حين أن إيطاليا لا تمتلكها. فهل يعني ذلك أن الباكستان أكثر حضارية وتقدما من إيطاليا؟ وهل يعني أن العيش في إسلام آباد أفضل من العيش في ميلانو أو روما؟ لا أعتقد أن الكثيرين سيردون بالإيجاب على هذا السؤال مع كل احترامي للباكستان والحياة الباكستانية.. الأيام دُوَل ويرى أمبيرتو ايكو أن الحضارة العربية الإسلامية كانت متفوقة في لحظة ما من تاريخها. كانت متفوقة على الغرب عندما أنجبت مفكرين كباراً من أمثال ابن سينا، وابن رشد، وابن طفيل، وابن باجة، وابن خلدون، والكندي.. إلخ. وكانت متفوقة عندما كان عرب إسبانيا يطورون علم الجغرافيا، والفلك، والرياضيات، والطب، والفلسفة. وفي الوقت ذاته، كانت الحضارة المسيحية الأوروبية متخلفة جداً بالقياس إليهم.كانت أوروبا تغط آنذاك في ظلام عميق عندما كانت الأصولية المسيحية البابوية الفاتيكانية تسيطر عليها. وكان عرب إسبانيا أكثر تسامحاً مع المسيحيين واليهود. انظروا جنة الأندلس والتعايش السلمي بين الجميع في ظل الإسلام المستنير. كل هذا صحيح. ولكنه يخص الماضي لا الحاضر. في الوقت الحاضر نلاحظ أن الأمور انعكست وأصبحت الحضارة الغربية هي المتفوقة على الحضارة العربية أو الإسلامية. فهي وحدها التي تعترف بقيم التعددية الدينية، والفكر النقدي، وتحترم حق الاختلاف في العقيدة والمذهب، و تحمي حرية الرأي والرأي المضاد. وهذا يعني أن التاريخ مدٌ وجزرٌ، يومٌ لك ويومٌ عليك. والحضارة ليست حكراً على شعب دون آخر، أو على منطقة دون أخرى. وإنما هي تنتقل من نطاق جغرافي إلى آخر بحسب الظروف والمنعطفات التاريخية.الحضارة دوّارة. من سرّه زمن ساءته أزمان.. فبالأمس كانت عند الإغريق، ثم انتقلت إلى العرب - المسلمين، ومنهم إلى الأوروبيين. وغداً ستكون عند الصينيين أو الهنود وشعوب الشرق الأقصى، الخ. وهذا أكبر رد على العنصريين المتغطرسين من أمثال بيرلسكوني أو سواه. ويرى المفكر الإيطالي الراحل أن المقارنة ضرورية لفهم ما يجري حالياً. فلو درس المتطرفون الإسلامويون حركات التطرف الديني في المسيحية لربما فهموا أنفسهم أكثر وتراجعوا عن نظرتهم الضيقة الأحادية الجانب.لو فعلوا ذلك لربما وسَّعوا عقولهم أكثر وتخلوا عن التعصب والإكراه في الدين. فنحن أيضاً كان عندنا أصوليون متطرفون مثلهم تماماً. وكانوا يكفرون جميع البشر غير المسيحيين مثلما يكفرون هم كل من ليس مسلما على طريقتهم المتطرفة. وكان أصوليو الغرب يدعون إلى الحرب المقدسة تماماً كما يفعل بن لادن أو الطالبان أو داعش، فيما يخص الحض على الجهاد ضد «الكفار»: أي نحن بالذات! وبالتالي فلا يخلو أي دين من مجموعات صغيرة متعصبة تشوهه أو تفهمه بشكل متطرف وخاطئ وعنيف. ويرى الناقد الإيطالي الكبير أنه إذا كان هناك من تفوق للحضارة الغربية على الحضارات الأخرى فانه حديث العهد ولا يتجاوز الستين سنة. وهو راجع إلى أسباب: عدة أولها التفوق العلمي والتكنولوجي، وثانيها التنظيم العقلاني لكل مناحي الحياة، وثالثها حرية التفكير والنقد حتى في المجالات الحساسة كالدين والجنس والسياسة. فلا شيء يعلو على «الغربلة النقدية» كما كان يقول فيلسوف التنوير الأكبر إيمانويل كانط. كل شيء ينبغي أن يخضع لها. والأمم التي ترفض ذلك تجمد فكريا وتتكلس وتتحجر كما حصل للعرب والمسلمين عموماً بعد إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصور الانحطاط الطويلة التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا بشكل من الأشكال. وأكبر دليل على ذلك انبثاق الحركات السلفية الأصولية بمثل هذه الضخامة والقوة واكتساحها للشارع العربي والإيراني والباكستاني.أكبر دليل على ذلك «داعش».. ورابعها الاعتراف بالتعددية السياسية والصحفية وحق الاختلاف في الدين والمعتقد وبقية القيم الديمقراطية. فنحن الغربيين نقبل بإنشاء أكبر المساجد والمراكز الإسلامية في روما وباريس وبروكسيل وسواها من عواصم الغرب في حين انه ممنوع منعا باتا اقامة أي كنيسة في بعض البلدان العربية والإسلامية المحافظة جدا.وممنوع أن نمارس طقوسنا الدينية المسيحية في تلك البلدان أيضا. ونحن نقبل بان يعيش بين ظهرانينا أناس ينتمون إلى أديان أخرى غير ديننا وعقائد غير عقائدنا في حين ان هذا شبه مستحيل في بعض البلدان الإسلامية. بل ونحن نقبل بان يعيش البوذي إلى جانب المسيحي، إلى جانب المسلم أو اليهودي أو الهندوسي في باريس وروما وأمستردام الخ.. ونعتبرهم جميعا مواطنين يستحقون نفس المعاملة ونفس الاحترام بشرط ألا يعتدي أحد على الآخرين، وألا يحتقر عقائدهم أو يحاول إجبارهم على تغييرها واعتناق عقيدته الخاصة غصباً عنهم. ونحن نقبل بالتعايش مع «غير المتدينين» بل وحتى مع الملاحدة ونعاملهم كبشر لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات تجاه المجتمع. والواقع أن غير المتدينين أصبحوا هم الأكثرية في أوروبا حالياً. فالذين يذهبون إلى الكنيسة ويؤدون الفرائض الدينية أصبحوا أقلية قليلة في إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو بقية الأمم المتقدمة. في فرنسا ما عادوا يتجاوزون نسبة ثمانية بالمائة وأكثرهم من المعمرين. والإنسان عندنا لم يعد يُحاسب على مدى تدينه أو عدم تدينه وإنما على مدى خدمته للمجتمع أو عدم خدمته، على مدى صدقه وإخلاصه في أداء عمله كطبيب أو مهندس أو أستاذ جامعة أو رئيس دولة أو كناس شوارع... أما مسألة التدين، فقد أصبحت مسألة شخصية بينك وبين ربك ولا يحق لمخلوق على وجه الأرض أن يحاسبك عليها. فالله هو وحده العلام بذات الصدور.. (هذه هي باختصار شديد أطروحات أمبيرتو ايكو عن صدام الحضارات أو حوارها. ونلاحظ أنها أطروحات مفكر مستنير. ولا غرو في ذلك فهو كما قلنا كان يمثل الوجه المشرق لإيطاليا. وأنها لخسارة كبرى أن يرحل. الاعتراف بالآخر كيف حدث أن قبلت ثقافات أو ما زالت تقبل بالمجازر الهمجية والإذلال الجسدي؟ إنها فعلت ذلك فقط لأنها تحصر مفهوم الآخر في دائرة القبيلة (أو الاثنية) وتعتبر المتوحشين كائنات غير إنسانية، ولم ينظر الصليبيون من جانبهم، إلى الكافر باعتباره قريباً جديراً بالمحبة الكبرى. وفي الواقع، فإن الاعتراف بدور الآخر وضرورة أن نحترم فيه المقتضيات التي لا يمكن أن نتنازل نحن عنها، هو نتاج سيرورة موغلة في القدم. وحتى التعاليم المسيحية في الحب لم يعلن عنها، ولم تقبل إلا بصعوبة، وكان يجب انتظار نضج شروط ذلك. كونيّة الغرب! إن حديث المؤلف عن المثقف والانتماء والصحافة والنزوح والهجرة والتسامح وغير المسموح به، لا يمكن فصله عن الخلفية الثقافية/ الحضارية التي تشكِّل عنده غطاء قيمياً مخصوصاً يتباهى به الغرب اليوم ويعتبر كونيته انتصاراً لحضارة جاهدت، على مدى خمسة قرون (وهي القرون التي تؤرخ للنهضة الأوربية)، لإرساء أسسه وقواعد تطبيقه في كل ربوع أوربا. بل إنها تطمح اليوم، في بداية القرن الحادي والعشرين، إلى تعميمه باعتباره أداة «التوحيد» العالم حول قيم كونية تحتفي بالإنسان وحده خارج كل الإكراهات عدا الاستجابة لكرامته وحريته. ومع ذلك، وباسم هذا الغطاء أيضاً، يتم التدخل بقوة السلاح والسياسة والاقتصاد، في مناطق مختلفة من العالم، لتغيير الخرائط أو محاصرة «العصاة» واستبدال أنظمة بأخرى. من مقدمة المترجم سعيد بنكراد كتاب «دروس في الأخلاق» لأمبرتو إيكو
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©