السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل هناك حاجة إلى ديكارت؟

هل هناك حاجة إلى ديكارت؟
21 يناير 2015 21:40
مضى على صدور كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي ما يقرب من سبعة وثمانين عاما، وهذا يعني أنها المدة نفسها التي مضت على أول قول صريح واستخدام واضح لا لبس به للشك الديكارتي. وعلى الرغم من قدم حضور ديكارت في العربية، غير أنه لم يحضر في الوعي كموقف من المعرفة. ولهذا عدت للتساؤل: أترانا بحاجة إلى ديكارت؟ وأي ديكارت هذا الذي نحن في حاجته؟ أطلق مؤرخو الفلسفة عليه لقب ابي الفلسفة الحديثة، إذاً هو أب، والآباء في المعرفة يقتلون عادة ولا يبعثون. والحق أنه لم يبق فيلسوف أوربي راهن لم يوجه سهامه الى «أنا أفكر إذا أنا أكون» وإلى مركزية الأنا وفكرة اليقين. غير أن تاريخ الفلسفة تاريخ لا يصيبه البلى، كما هو يصيب تاريخ العلم، إذ سرعان ما نشهد على حضور لحظة من تاريخ فيلسوف مضى في صورة فكرة ندفع بها إلى حقل التفكير.فما نهاية التاريخ التي تحدث عنها فوكوياما إلا فكرة هيغلية كان الفيلسوف الفرنسي من أصل روسي - كوجيف قد التقطها من نهاية الروح الموضوعي عند هيغل. ناهيك عن نيتشه الذي سار كثير من معاصرينا على خطاه. فما الذي يعنيه ديكارت لنا نحن أبناء العربية؟ لست بمعتقد بأهمية ما قاله في المنهج، فالمنهج وعلم المنهج والأبستيمولوجيا تجاوزت مقاله في المنهج. ولم يعد لثنائية ديكارت وقوله بالجوهرين المادي والروحي قيمة تذكر، والدليل الأنطولوجي على وجود الله الذي استعاره من القديس أنسلم صار من الماضي، وما عاد بإمكاننا، نظريا، أن ننتقل من التصور إلى الوجود، وهذا ما أشار إليه منتقده آنذاك الفيلسوف جاسندي. غير أن هناك أمراً لا يصيبه البلى، وحاجة العرب إليه حاجة ضرورية لأنهم لم يوطنوه بعد في ديارهم ولا في وعيهم، أقصد الشك المنهجي ووضع كل اليقينيات بين قوسين. حاجتنا إلى ديكارت حاجتنا إلى روح الديكارتية وروح الديكارتية هو الشك. الروح الحاضرة في التأمل الأول من كتاب التأملات وعنوانه «في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشك». لو تأملنا ما كتبه ديكارت في «التأملات» لوقعنا على معنى القطيعة والثورة العقلية. فهناك الآراء الباطلة، وهناك مبادئ مزعزعة ومضطربة، وكل ما يحسب حقا، كل ذلك قابل للشك. وهذا يعني أن كل ذلك لا يتوافر على اليقين. فالشك المنهجي وضع اليقينيات السائدة من يقين الحواس إلى يقين المبادئ إلى يقين الرياضيات موضع الشك. الشك هنا ليس منهجا بل موقفا من المعرفة، فالشاك لا يتبع قواعد شك، ولا طريقة شك، بل المنهج هو المتعلق بالوصول إلى المعرفة وليس للبدء بالشك. ولهذا فاليقينيات التي وصل إليها ديكارت نفسه هي الأخرى موضع شك. وباستطاعتنا أن نعرف الشك المنهجي بالقول: الشك المنهجي هو حرية الأنا بالتفكير وتحررها من أي سلطة تمنعها من حرية التفكير. ومن هنا تبرز أهمية ديكارت في شكه وليس في يقينياته التي أرادها يقينيات مطلقة. فلقد أسس ديكارت للأنا الذي يفكر انطلاقا من الأنا الذي يشك. ولهذا جاءت صيغة الكوجيتو: أنا أشك إذا أنا أفكر، أنا أفكر إذا أنا أكون. والدليل على أني أفكر هو أنني أشك. ويصبح العكس صحيحا أنا أفكر إذا أنا أشك. إن الفكر وقد أصبح شكا لا مناص له من البحث عن منهج يوصله إلى يقين، والتفكير بالتزامه بالمنهج ينتقل من الشك، الذي هو موقف، إلى اليقين الذي هو هدف المعرفة. فوضع اليقينيات بين قوسين لا يعني رفض اليقين بل تأسيس اليقين على منهج صالح للاستخدام العقلي. بل إن الشك الذي يلغي اليقين لا يؤكد اليقين إلا عبر منهج ينقلنا إلى اليقين. والمنهج نفسة يمكن أن يكون موضوع شك، لأن المنهج هو في حقيقته معرفة تأكدت صحتها وصارت طريقة في التفكير. لكن روح الشك تمنع اليقين من أن يكون مطلقاً، بل تسمح له أن يكون واقعيا وعقليا وموضوعيا ونسبياً بل وخاطئاً. ذلك إن ارتكاب الخطأ المعرفي جزء لا يتجزأ من سيرورة المعرفة بما فيها المعرفة العلمية، ولهذا قال بوبر: من حق الإنسان أن يخطئ. وعندي إن جماعة لا تمر بمرحلة الشك المنهجي ولا يغدو الشك المنهجي ثقافة عامة وثقافة علمية ومعرفية لا يمكنها الوصول إلى المرحلة التي يكون فيها العقل قد انتصر. وبعد إن العقل، في طريقه للوصول إلى اليقين، يرتكب جملة أخطاء ولا شك، كما قد يصل إلى يقين يطمئن إليه، لكنه لا يصل حد المصادرة على ذاته وقطع الطريق أمام نفسه، بل إنه يؤكد حريته حتى لو أكد مركزيته التي لم يعد يطيقها التفكيكيون. وحاجتنا للشك تتطلب حاجتنا للعقل وحاجتنا للعقل تؤكد حاجتنا للشك، وما الشك إلا العقل في لحظة تمرده القصوى. شكّ في كل شيء ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة، كنت أحسبها صحيحة، وإن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزعزعة والاضطراب لا يمكن أن يكون إلا شيئاً مشكوكاً فيه جداً ولا يقين له أبداً، فحكمت حينئذ أن لا بد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل، ولا بد من بناء جديد من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئاً وطيداً مستقراً... ولا مناص لي آخر الأمر من الإقرار بأن لا شيء مما كنت أحسبه من قبل حقاً إلا وأستطيع أن أشك فيه بوجه من الوجوه. ديكارت، كتاب التأملات الغزالي وديكارت ربما يقول قائل إن تجربة الشك عند الغزالي قد سبقت تجربة شك ديكارت، فلماذا لم يستوطن الشك ثقافتنا؟ والحق أن لا تشابه بين تجربة الشك عند الغزالي وبين تجربة الشك المنهجي عند ديكارت، ذلك أن الغزالي بعد تجربة الشك التي امتدت شهوراً عدة تجاوزها بأن قذف الله نورا في قلبه، ولم يعمل عقله للانتقال من تجربة الشك إلى اليقين. فالشك الديكارتي امتحان العقل وقدرته على الوصول إلى اليقين العقلي بقواه الذاتية. ومنح الأنا القدرة على التفكير الحر. كان هدف ديكارت إقامة قطيعة مع الترسيمات اللاهوتية الكنسية والتحرر من سلطة الكنيسة، فيما انتقل الغزالي من شكه إلى لاهوته، فبقي في حقل العقل اللاهوتي. صحيح أن بعض مصطلحات اللاهوت ظلت حاضرة في تأملات ديكارت لكنه حاول أن يمنحها يقينا عقليا. وكل يقين يؤسس على العقل يمكن أن يسلب عن طريق العقل، فيما لم يذهب الغزالي في شكه إلى نتائجه العقلية بل قطع مع العقل عن طريق النور الإلهي الذي أضاء له الحق. فما عاد، والأمر كذلك، أن يحاور عقليا، لا سلبا ولا إيجابا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©