السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النهضة وبنو نعش.. أزمنة اللغة

النهضة وبنو نعش.. أزمنة اللغة
21 يناير 2015 21:40
إذا أخذنا الكلمات أو المصطلحات السائدة في عصر من العصور ودرسناها وجدناها تدل الى روح العصر أو فلسفة العصر أو الاتجاه السياسي للعصر. فكلمة كسرى في العربية تدل على عصر، وكلمة خليفة تدل على عصر، وكلمة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزارة تدل على عصر... فاللغة تلخص الكثير من التجارب والأزمنة وتضعها بين يدي القارئ. ليس لدينا معجم زمني- للأسف- حتى نضبط التطورات الجارية في فترة من الفترات. معجمنا اليوم نجده في الشبكة العنكبوتية، فهي التي تقدم الكلمات والمصطلحات المتداولة، في لغتنا ولغة غيرنا. وسوف نقتطف بعض مفردات ومصطلحات من مرحلتين من مراحل عصرنا: الأولى قبل الثلث الثالث من القرن العشرين، والثانية من الثلث الثالث وحتى العام 2010. مختارات من لغة تنكمشسوف ندع التغيّرات والتبدلات والتطورات العلمية، وبخاصة ما طرأ على علم الأجنة والخلية، وسوف ندع ما جاءت به الموجة الثالثة من كلمات ومصطلحات، وتلك الثورة الإلكترونية الهائلة، وثورة المعلومات التي حملتها، وأدخلتها إلى منزل كل من يريدها. إن احتكار الكهنوت للمعرفة في العصور الوسطى انتهى إلى الأبد. إنهم اليوم يجتهدون هم أنفسهم للحصول على اعتراف بمعرفتهم التي دافعوا عنها عشرات القرون. وسندع ما حملته السيبرنتيكا معها من مصطلحات، وما جاءت به الفيزياء الحديثة، والكلمات التي استعارتها من الأدب... سندع كل هذا وغيره، ونقف فقط عند المفاهيم السياسية. وعندما نقول المفاهيم السياسية فإننا نقصد ما قصده أفلاطون وأرسطو والفارابي وتوماس مور... وكل كتاب اليوتوبيا... في أدبهم السياسي، أي المجتمع الذي اقترحوه ليعمل من دون قمع وينتج من دون إكراه، يعمل بصورة «طبيعية». بعيداً عن المفاهيم السياسية المتحزبة أو المحصورة في فئة من الفئات. ما اللغة المستخدمة في الثمانينات؟من الصعب حصر هذه اللغة في لوحة أو لوائح قليلة. إنها تحتاج إلى دراسات ضخمة ومرهقة جداً. ولذا سوف نقدم بعض النماذج ونختار بعضاً من الكلمات والمصطلحات التي كنا نستخدمها: (البرجوازية- البرجوازية الصغيرة- المركب الصناعي العسكري- البروليتاريا- الرعاع- الصراع الطبقي- حرية الفكر والصحافة والنشر- التناقض الرئيسي- التناقض الثانوي- الطبقة المستغِلة- الطبقة المستغَلة- الاحتكار- الكارتيلات- السنديكا- التروستات- الاستعمار الاقتصادي- الدول المتخلفة- الدول النامية- الدول المتقدمة- الشمال الغني- الجنوب الفقير- الغرب الإمبريالي- الشرق التابع- أسلوب الإنتاج الرأسمالي- أسلوب الإنتاج الشرقي- الثورة- التحرر- التحرير- المخطط الإسرائيلي- الجامعة العربية- الأسلوب المتروبولي والتابعيات- المركز والمحيط- الفكر الثوري- الفلسفة السياسية- الفكر الانهزامي- الفكر المتمرد- العبث- الفوضوية- الماركسية- اللبرالية- الوجودية- النسوية- البنيوية- الجمالية الفوضوية- الجمالية الماركسية- الفن السابع- النضال- الكفاح- الحكم الاستبدادي- الطاغية- الحكم العسكري- النظام التداولي- النظام القمعي- اقتصاد الدولة ورأسمالية الدولة- الحرية الفكرية- حرية الطباعة والنشر- الأحزاب الثورية- الأحزاب التروتسكية في أميركا اللاتينية- القيادة الفردية والقيادة الجماعية- المعسكر الرأسمالي- المعسكر الاشتراكي- الاشتراكية هي الحل- المجتمع المدني- توريث الأنثى- النضال الوطني- النضال القومي- المقاومة الفلسطينية- الديمقراطية في التربية والتعليم- حماية الأمم المتحدة لحرية الفكر. علاقة الاشتراكية الديمقراطية بالشيوعية- نظام الدول الاسكندينافية- الانتقال السلمي إلى الاشتراكية- البيئة الطبيعية والأخطار التي تواجهها... الخ...). أما الدين والطائفة والمذهب وكل ملحقاتها، فلم يكن لها ذكر. هذه اللوحة تمثل التطور الفكري والثقافي منذ عصر النهضة العربية وحتى ما قبل الثلث الثالث من القرن العشرين. ويمكن القول إنه فكر النهضة نفسه، بالإضافة إلى نوع من الانتقاد الذاتي، يتركز حول النقاط التي فشلت النهضة في تحقيقها. مختارات من لغة تنتشراليوم لم يعد للغة السابقة وجود تقريباً. قد تستحضرها من كتاب قديم يعود إلى أكثر من ربع قرن. اقفز إلى الفضاء العنكبوتي واسبح فيه، تلتقط لغة جديدة. ولن نرهق القارئ. سوف نكتفي ببعض الكلمات والمصطلحات: (الحاكمية- الإمارة- السنة والجماعة- الخلافة- ولاية الفقيه- الإرهاب- اضطهاد المسلمين في أوروبا- الاجتهاد- الإمامة- الصوم- الصلاة- الحملة العالمية لمكافحة الإرهابيين- الإسلام والإرهاب- البيعة والمبايعة- الثورة الإسلامية- تصدير الثورة- فتوى تكفير سلمان رشدي (استمر النقاش حولها في كل المجتمعات العربية والإسلامية أكثر من عشر سنوات ودارت مناظرة بين الصديقين أدونيس وصادق جلال العظم امتدت وشملت الكثيرين)- جاهلية العالم- المجموعات التكفيرية- دار الإسلام- دار الحرب- المؤمنون- الهراطقة- الكفار- المجوسية- الطاعة- الخلايا النائمة- القاعدة- طالبان- المهدي المنتظر- السفياني المنتظر- الشورى- الهجرة والتكفير- البراءة- الدولة الإسلامية- العدالة الإلهية- الشرع والشرعية- الاجتهاد- الجهاد- التوحيد- النظام الإسلامي- المنظمة الإسلامية- حزب العمل الإسلامي- منظمة العمل الإسلامي- منظمة العالم الإسلامي- حزب التحرير الإسلامي- الحزب الجمهوري الإسلامي- حزب الله- آية الله- روح الله- لواء أبو الفضل العباس- لواء أسد الله الغالب، الشيطان الأكبر- الشيطان الأصغر...). في المرحلة الأولى كان أبطالنا أفلاطون وأرسطو وابن رشد والغزالي وديكارت وكانط ونيتشه وشوبنهور وهيغل وماركس وإنجلز وروزا لوكسمبورغ... فصار أبطالنا... و... واختفت تلك الأسماء إلا من الأكاديميات المختصة، بل تقلص تدريس الفلسفة إلى حدود دنيا، حتى أن بعض الأكاديميات أغلقت فرع الفلسفة. وكان لنا مسرحيون أسخيلوس وسوفوكليس وأرستوفانيس وموليير وتوفيق الحكيم... واليوم لم يعد لنا مسرحيون، ولم يعد لنا مسرح، فقد أسندت وظائف أخرى للمسارح... أما أبطال النهضة العربية، كالأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي والبستاني واليازجي وجرجي زيدان وأمين الخولي وطه حسين وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، ومصطفى كامل، وأديب إسحق، وفرح أنطون، ويعقوب صروف، وسلامة موسى، وشبلي الشميل، واسماعيل مظهر، ومحمد حسين هيكل، وزكي مبارك، وأحمد لطفي السيد... فلم يعد لهم اسم يذكر إلا نادراً بينما كانت أسماؤهم تتردد باستمرار، ولا يكاد يمرّ يوم واحد، من دون ذكر أسماء بعضهم. أقحلت الكروم التي أنتجت روائع الشعر في جنوب العراق وجنوب لبنان، واليوم لا تعصر العناقيد سوى أدعية وشعارات وأناشيد. نحن أمام ظلامية، نمت في ظل الأنظمة التوتاليتارية بسبب القمع، وهي في الوقت نفسه مناوئة لفكر النهضة. كان المتوقع أن تنضم- لمرحلة- إلى فكر النهضة حقاً، بيد أنها ركبته واستغلته. رفضت فكر النهضة، وراحت تقاوم التوتاليتارية بفرض عقيدتها، أي الانتقال من توتاليتارية دنيوية إلى توتاليتارية إيمانية، وهما من أصل واحد، في نهاية أي تحليل ثقافي. وهناك ظلامية مقابلة تكاتفت مع الأنظمة التوتاليتارية وبذلت الدم دفاعاً عنها. وهذا ما جعلنا نلمح حرباً ضروساً بين الظلاميين أنفسهم، بعد هذا الانقسام الكبير. لكن التغيير حصل في كل شيء عمودياً وأفقياً. لنأخذ مصطلحاً تردد كثيراً قبل الثلث الثالث للقرن العشرين وهو «المقاومة الفلسطينية». لم يعد هذا المصطلح يتردد في أي دولة عربية أو غير عربية، فقد حل محله «محور المقاومة والممانعة» وهذا المحور موجود في بعض البلدان العربية وغير العربية، ولكن لا يوجد فيه فلسطيني يقوم بأي عمل مقاوم. يمكن لفرد أو حزب أو مجموعة، فلسطينية أو غير فلسطينية، المساهمة بالتأييد، أما العمل المقاوم، فهو محصور بيد المشرفين المباشرين على محور المقاومة. أسماء لامعة في منظمة التحرير الفلسطينية غابت وغابت معها أسماء منظماتها، فلم نعد نسمع بالمنظمة الشعبية وجورج حبش، ولا بالمنظمة الديمقراطية ونايف حواتمة، وقلما ورد اسم «منظمة التحرير» وياسر عرفات على الألسنة والأقلام. إنه تغيير نوعي كبير. من- إلىسوف نقف هنا عند كلمة ظهرت بسرعة واختفت بسرعة على الصعيد العالمي، وهي كلمة «العولمة» التي استمرت في التداول اليومي من عام 1990 حتى عام 2003 ثم أخذت تتراجع، بل تراجعت بصورة مفاجئة بعد عام 2003. واليوم اختفت من الأدب السياسي اختفاء كاملاً أو شبه كامل، ولهذا دلالة بالغة. العولمة- كما نعرف- بارادغم العصر الحديث، وقد وضعت اتفاقية التجارة العالمية بناء على هذا البارادغم. وغزت العولمة أقلام الكتاب والمحللين، وحتى نقاد الأدب راحوا يثبتون أن العولمة قديمة في الأدب، وأن العولمة الأدبية سبقت غيرها بأشواط. وراح المهندسون يثبتون أن هندستهم كانت أول عولمة في التاريخ، لأنها بلا انحياز، وذهب الرياضيون إلى أن الرياضيات بنية أساسية في التفكير البشري وهي تقوم على المجردات، مما يدل أنها اللغة العالمية الكبرى التي مورست كوسيلة للعولمة... وإلى جانب هؤلاء رأينا التاجر والصناعي والنوّال والمزارع يذهبون مذهبهم في تفسير العولمة وفضيلة مهنتهم في إشاعتها. أما اليوم فصرنا نلمح حركة «من... إلى» فهناك نقلة كبيرة من هذا المفهوم إلى مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» كأن «الشرق الأوسط الجديد» هو المكان الأول لإطلاق مشروع العولمة. المهم أن هناك تركيزاً يختلف عن التركيز في فترة 1990- 2003. إنها حركة انتقال واضحة. إلى جانب هذه الكلمة نجد الكثير من الكلمات، وبالأخص الموروثة من عصر النهضة، تسقط من التداول، فعلى سبيل المثال لم نعد نسمع بحزب الشعب أو إرادة الشعب، بل بحزب الله وإرادة الله... وإن كانت النزعة الانتهازية تستغل أي إرادة. في قمة ال «من» وال «إلى» حين وصل التطرف إلى ذروته، ذرّ الربيع العربي بقرنه، يحمل الشعارات التي حملتها، أو حلمت بها النهضة: وطناً (الدين لله والوطن للجميع) تراثاً (الهوية القومية) ومعاصرة (الفكر الحديث). حدث الربيع كردّ على الأنظمة التوتاليتارية، ولكنه استهدف أيضاً التنظيمات الظلامية، بنوعيها: الظلامية التي استغلته والظلامية التي كافحته بالسلاح. بدأت صيحات الطلق منذ التدخل السوفيتي في أفغانستان، ثم جاءت أحداث العراق... وهكذا «وضعت الحامل حملها» بعد أن شددت الأنظمة التوتاليتارية من قبضتها، ورفع التيار الديني المتشدد من وتيرة صوته، وعنف أعماله. وفي عام 2010 اتضح أن الشرق الأوسط بات بركاناً في حالة غليان. في هذه الحالة ظهر الربيع العربي بين نظامين توتاليتاريين: السلطة والتنظيمات المتطرفة. فكأن الربيع العربي يذكرنا بالتصوّر الأرسطي للفضيلة بأنها تقع بين طرفين متناقضتين، ولكن الطرفين هنا سلبيان، فكل طرف يعتبر معوّقاً كبيراً من معوقات التقدم الاجتماعي، وحائلاً دون قيام مجتمع مدني، فالطرفان لا يؤمنان بالدولة (أي تداول السلطة) ولا بالتعددية، ولا بتنوع الوسائل والنظم والإدارة، ولا بحقوق الإنسان، حتى أبسط هذه الحقوق، ولا بأي مبادرة مدنية، ولا بأن الرأيَ طرحُ مناظرة لا فرضُ إيمان. لو كان لدينا معجم أدبي للمصطلحات السياسية، لبرزت هذه الصورة من مقارنة بسيطة بين زمن ظهور المصطلحات وزمن تراجعها أو انكماشها أو انقراضها. إن الحاجة إلى مثل هذا المعجم ضرورية جداً، لتسهيل الحصول على الصورة. وحتى السياسة الدولية تنكشف لدى الوقوف على متغيراتها اللغوية. الكلمات لا تغني عن الدراسات الموسعة، ولكنها تظل من أهم المفاتيح التي تشعرنا بأن هذه السياسة تستغل اليوم الصراع العربي الدائر بين من يصرون على إحياء مشروع النهضة وبين من يرقصون بالرايات الحمر تمهيداً لدفنه، حتى تصنع لنفسها موكباً وقوس نصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©