الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دماء في حفل الزفاف

دماء في حفل الزفاف
11 نوفمبر 2010 20:43
سقط «رمضان» قتيلا في مشاجرة الحدود بين عائلتي الحريري والحجار، كان ذلك نتاج احتقان لسنوات طويلة بسبب خلافات الجيرة التي تجمعهم في المساكن وفي الأراضي الزراعية، تتجدد كل عدة أشهر، إما بسبب تداخل الدواب، وإما بسبب لعب الصغار، وإما بلا أسباب فأفراد كل عائلة يريدون أن يفرضوا سطوتهم على الأخرى لكتم أنفاسها وحتى لا تقوم لها قائمة، وهذا الخلاف الأخير نشب بسبب الحدود بين الأراضي، رغم وجود فواصل قديمة وعلامات حديدية منذ أعوام لا يعرفون عددها، قد يكون الأجداد الراحلون هم الذين وضعوها، غير أن التوتر المستمر لم يسمح لأي فرد بأن يتقبل حتى التحية والسلام من الآخر، وأشعلت النساء النار، يدفعن الرجال إلى الحرب دفعا من أجل رفع راية القبيلة، كأنها الحرب بين عبس وذبيان في الجاهلية، وتجمع الفتيان والكبار والصغار والنساء والولدان، على تشابك بين بعض الأفراد، واختلط الحابل بالنابل وحمى الوطيس، ونشبت المعركة بين الجميع، كل يشارك فيها حسب إمكاناته بين العصي، والشوم والطوب والأحجار، وما أن أهرع أبناء القرية لإنهاء الأزمة حتى سقط «رمضان» الذي ينتمي لعائلة الحريري قتيلاً، لا يعرف أحد من قاتله في زحام هذا الجمع الكبير، وبمقتله تأزم الموقف وتحولت الخلافات إلى ثأر. عقد أبناء عائلة الحريري العزم على الانتقام فالعادات والتقاليد تحتم عليهم ذلك، ولا يكفي محاكمة أحد أفراد عائلة الحجار وسجنه بأمر المحكمة فهذا لن يعيد إليهم أحد كبار القبيلة، والذي لابد من حصد رأس مقابل رأسه، فليست الرؤوس كلها في أحجام واحدة ولا متساوية المقامات، وبدأ سباق التسلح بشراء أحدث الأسلحة الآلية والمسدسات سريعة الطلقات، والتربص في المسالك والمدقات والطرقات حتى في الأسواق والمزارع وخيم التوتر ليل نهار على القرية وما حولها، الكل يترقب ما سيحدث والمؤكد أنه لن يكون خيراً، يا ترى من الذي سيكون القتيل القادم؟ لم تتوقف المحاولات فقد قام أحد الشباب من قبيلة الحريري بالتخفي في زي منقبة، ودس سلاحه تحت ملابسه وتوجه إلى منطقة خدمات عامة يتردد عليها أبناء عائلة الحجار، لكنه لم يحظ بأي منهم، وأمام طريقة سيره وتفحصه في الوجوه وتنقله المريب بين الرجال اشتبه فيه أحد رجال الشرطة واستطاع كشف شخصيته والقبض عليه وإحباط مخططه. وصلت أخبار هذا التوتر وتلك النوايا الانتقامية إلى كبار العائلات والأجهزة المسؤولة وعلية القوم، فلم يدخروا جهدا للإصلاح، واستطاعوا بعد جهد أن يقنعوا الكبار في الجانبين بضرورة قبول الصلح والحفاظ على الأرواح على أن تدفع عائلة الحجار الدية ويقدم كبيرها كفنه لعائلة الحريري، رمزاً للموت وقبول حكمها بالعفو عنه، علاوة على تنازل عائلة القاتل عن قطعة الأرض المجاورة التي كانت سبباً في مقتل «رمضان» وفي سرادق كبير تمت هذه المراسم. كل ذلك لم يعجب الفتية المتحمسين الذين لا يقدرون عاقبة الأمور، تشبثوا بأنه لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم، وأن الدم لا يمحوه إلا الدم والقاعدة الأساسية أن الدم بالدم، ولا صلح في الدم، كان هذا هو منطقهم المعقد الذي لا حل له، فاستمروا على موقفهم المتشدد يتحينون فرصة للثأر تشفي غليلهم وتشبع رغبتهم، وقد أعدوا العدة وأصبحوا جاهزين للحظة الحاسمة، يتربصون في كل مكان، يرسلون عيونهم من أعوانهم ليأتوهم بالأخبار عن كافة التحركات لرجال عائلة الحجار الذين امتنعوا عن فلاحة أراضيهم وأصبحت هذه المهمة من نصيب الأطفال والنساء، ولم يخرجوا للأسواق ولا التجارة خشية الموت الذي ينتظرهم عند أي خطوة. ثلاثة أعوام مضت على اشتعال الشرارة الأولى ومقتل «رمضان» حسب الناس أن الأمور مقبلة على هدوء، لكنه كان هدوءاً مشوباً بالحذر والترقب، حتى كان ما كان، عندما توجه «فتحي» وابنه سيد وابن أخيه جمعة وهم من عائلة الحجار في طريقهم عند الغروب لحضور حفل عرس في القرية ورصدتهم عيون المراقبين وطارت بالخبر إلى «أبو سريع» ابن «رمضان» القتيل تزف إليه الخبر، وفي سرية تامة وتكتم شديد اتفق مع ابني عمه شعبان ورحيم على ساعة الصفر، فقد جاءت الفرصة إليهم على طبق من ذهب. أضيئت الأنوار وعلقت الزينات واصطف المدعوون من كافة القرى المجاورة ورقص الرجال بالعصي والخيول على صوت المزمار البلدي والطبول، وهناك في الركن من يقدم الوليمة وينظمها، ومن يقدم المشروبات الباردة والساخنة ومن الداخل تأتي زغاريد النساء وأغاني الفتيات من المأثور والقديم، بينما الأطفال يلعبون على الأطراف لأنهم ممنوعون من اللعب وسط الرجال، وكما هي العادة عندهم تمت زفة العروسين بعد صلاة العشاء مباشرة وانتقلا إلى عشهما، الاحتفال قد يستمر حتى الصباح لكن كل واحد الآن مخير بين الرحيل والبقاء. وقبل أن يغادر أحد اقتحم المسلحون الثلاثة الحفل، وصوبوا أسلحتهم نحو غرمائهم، أطلقوا الرصاص بغزارة فأردوهم قتلى، سقط «سيد وفتحي وجمعة» قتلى وسط ساحة العرس، الدماء سالت وجرت على الأرض بغزارة بدلاً من الشربات، وتعالت الصرخات بدلا من الأغاني، وحل الذعر والخوف والرعب على المكان، هرج ومرج، الكبار والصغار يختبئون تحت المقاعد، أطفئت الأنوار، وعم الظلام إلا قليلاً، فقد كانت بعض المصابيح ترسل أشعتها إلى منطقة المعركة، المشهد لا يقل عن المعارك الحربية، بل هو أكثر بشاعة لأنه بين كفتين غير متساويتين، فهؤلاء مسلحون وهؤلاء عزل، هؤلاء مستعدون، وهؤلاء آمنون أخذوا على حين غرة، والحاضرون لا ذنب لهم فيما يرون والجثث تتساقط أمامهم مثل أعواد الحصاد، والدماء تتناثر على المقاعد والملابس، كثيرون منهم أغمضوا عيونهم ولم يستطيعوا المتابعة، البعض فقد الوعي من هول ما رأوا. لم يستغرق ذلك إلا دقيقتين أو ثلاثاً، كانت طويلة مثل الدهر، بعدها انسحب القتلة، تركوا المكان مهرولين عائدين إلى بيوتهم، يزفون البشرى لرجالهم ونسائهم، فانطلقت الزغاريد ابتهاجاً بهذا الثأر الكبير الذي أعاد لهم كرامتهم وشرفهم، هنا زغاريد لكنها ليست زغاريد الفرحة، بل هي أكثر ألماً من الصراخ والبكاء على القتلى في الجانب الآخر، لأن من يفكر قليلاً سيكتشف أن ذلك سيفتح عليهم باب جهنم، فلن يسكت أبناء عائلة الحجار على قتل ثلاثة رجال منهم في لحظة، ولن يكون ثلاثة في مقابل واحد، بل أكثر بكثير، الحقيقة أن الأمن والأمان ودعا القرية التي كانت آمنة مطمئنة وأشعلت العجرفة والكبرياء النار فيها، افتقدت الاستقرار والتراحم، وكأن أهلها لا يعلمون النتائج وهم الذين يعايشون مثل هذه الأحداث باستمرار في القرى المجاورة ويعلمون علم اليقين عاقبة هذه التصرفات، إنه الموت والخراب والسجون. ظن القتلة الثلاثة أنهم نجوا بعدما تلطخت أيديهم بالدماء، وأنهم بمنأى من العقاب، فاتجهوا إلى مغارات الجبال المجاورة اصبحوا مطاردين مطلوبين من عائلة الحجار من ناحية، ومن رجال الشرطة من ناحية أخرى، إذ أن كل حضور حفل الزفاف شاهدوهم وهم يطلقون الرصاص، فلم يكن صعباً من البداية تحديد شخصيات الجناة، بل الصعب هو الإيقاع بهم، فالمنطقة التي يختبئون فيها وعرة، وهناك من يمدهم بتحركات البوليس، كما انهم في جبال عالية ويستطيعون رصد أي شخص يأتي من الوادي المنخفض، وبهذا قد لا تصل إليهم أيدي العدالة أبدا، وفي نفس الوقت لا يريد رجال الشرطة المخاطرة بأفرادهم في مداهمة ذئاب الجبل لأن هؤلاء الأخيرين يعتبرون أنفسهم في حكم الموتى، وسيقاتلون ولن تهمهم النتيجة ويجب أن يدافعوا عن حياتهم بكل الوسائل حتى لو كانت غير مشروعة. لم يكن ذلك ولا ما هو أصعب منه، ومهما كانت الظروف والعقبات ليثني رجال الشرطة عن مهمتهم في القبض على المجرمين، مهما كانت أسلحتهم وإمكاناتهم، وبعد أسبوع كامل من المذبحة الآدمية في حفل العرس، جاءت الخطة التي وضعت النهاية للإيقاع بالهاربين الثلاثة وأسلحتهم، عندما حاصرتهم المروحيات والعربات المصفحة والجنود المدربون، وفرضوا حولهم طوقاً جعلهم بعد دقائق معدودة يسلمون أسلحتهم ويستسلمون فلا سبيل لإطلاق رصاصة واحدة وإلا سيتم مبادلتهم النيران ويكون القتل نصيبهم وتم ترحيلهم إلى محبسهم تاركين خلفهم نيران الانتقام تزداد تأججاً، ولا يدرون هل ستكون نهايتهم الإعدام قصاصاً، أم القتل على أيدي أبناء الحجار؟ فالنهاية واحدة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©