الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رونيه شار.. اليقظ المتمرّد.. شقيقنا المهتاج

12 أغسطس 2015 21:06
الحياة وحدها هي التي تقتلنا الموت ليس إلا مُضيف يحرّر البيت من سياجه ويدفعه نحو حافة الغابة (رونيه شار) لن يكون غرضنا هنا إضافة دراسة مدقّقة للكم الهائل من الدّراسات المنجزة عن رونيه شار، وإنّما أن ننتهز الفرصة لتوجيه تحيّة لهذا الـ «الجوبتر» الرّاعد. إنّه بوجهه الضّخم الذي يبدو وكأنّه قدّ من حجر صلد، وبجسمه الهائل وصوته الثّقيل، يعطيك الانطباع بأنّه يحتلّ المكان بأكمله. إنّه يخترقنا كريح متوحّشة، ملاكما الحياة ومشهّرا بالفاترين، الفاقدين لكلّ حماسة. «قم بتصفيف القدر والمقاومة فالقدر.. ستعرف سموّا عجيبا». يقول رونيه شار. فضّ وغضوب، مغازلا كلّ الزّهور بجبله الصّغير – اللّوبيرون – بجزيرة «لاسورغ» فإنّه سيلعنك إن كنت لا تعرف تسمية هذه الزّهور بأسمائها الصّغرى، وسيتبدّى لك لعّانا لكلّ أولئك الشّعراء الذين يبسطون كلماتهم بقدر، وهو الذي كحرفيّ مغضب، يصقل ويلمّع كلماته ليجعل منها عربة تزلّج نحو الأبديّة. إنّه يمكث بيننا بحكمه وأمثاله المنقوشة بإزميل شمسيّ، أكثرمن حضوره كشاعر. ويروق لنا اليوم اقتباسه، ولكنّنا كم نحتاج إلى قراءته ومعاودة قراءته. وهذا الذي كتب «إنّ الجرح الأقرب إلى الشّمس هو الصّفاء» ينبغي أن ننحني أمام شفافيّته، كما ينبغي أن نغمر هذا الرّجل الرّشيق الذي كان يعرف كيف يغلق بابه أمام الرّسميّين، وقد آثر مجمع العظماء في فرنسا، أندريه مالرو على رفيق درب الشّيوعيّة الذي كان، ففرنسا تفضّل الخطباء على الأنبياء ودعاة الواقعيّة على السّورّياليين، ومع ذلك فقد التحق رونيه شار بكوكبة العظماء، رغم انتمائه اليساري الذي كان يثير تحفّظ أعدائه. مقاوما لكلّ أشكال التحكّم العسكري أو الثّقافي، كان شار كتلة من الغرانيت الصّلد في أحكامه القاطعة والنّهائيّة، ويبدو دائما متدفّقا بقوّة ثور هائج، إنّه عاصفة ويحمل في نظرته الجبل. شعر قربانيّ موهوب للشّمس، شبيه بفرن متّقد لحرق الجير، هكذا يأتيك رونيه شار، الذي متى قرأته التهمك. وقد نفضّل في شعره الجانب التنبّؤيّ وما يحفل به من ظلال وتأويل، على لغته الشّعريّة الخشنة وغنائيّته المنضبطة. سرّي وساحر، كان لا يجد من يماثله باستثناء بعض المتيّمين بالجمال، فينتصب كتمثال للمعلّم في ميدان الشّعر، وكأمير يستثمر هدأة الفصول ليطرّز فنّا منسلاّ من الوجع وتقليب الوجع. ويعطي رونيه شار الانطباع بأنّه يتفرّس فينا من أعلى كلماته، مقيما في العزلات العلويّة مثل سان جون بيرس، غير مزوّد بلوحة ألوانه، لأنّه كان يستمدّ نوره من حريّته. مُقامي في رحم الوجع يكتب رونيه شار على شكل مقاطع، فيرمي وهو محموم بكلمات من جمر، إنّه الثّائر الأكبر الذي يريد أن يكون تلك العجوز المتمرّدة التي تجمع بعناية النّاس حول النّار لتحرسهم من الوحوش، ثمّ تبقى على قيد السّهر، فهو إسكندر المقاومة وعربة الحريّة. إنّنا نقع على قصائده كما نقع على شظايا من الصوّان، دون أن نخبر كيف نصنع أدوات من تنبؤاته الملتهبة، ولكنّنا ندرك ونحن نفارقه، بأنّه أشعل بداخلنا نيرانا ستفصح لا محالة عن مكنوناتها، نيران كانت قد جعلت في ما مضى، الظّلال تتوارى. كان رونيه شار يريد أن يكون في قلب الإنسان كما في قلب الحياة، فهو معلّم للحياة أكثر من كونه شاعرا كبيرا. أمّا الشّفافيّة التي هي ميزة من ميزات الشّعر فهو في غنى عنها، لأنّ كلماته صراخ.. شرر.. بروق وامضة، ولأنّه مأخوذ بالجمال المثبّت في المرمر. كاتب البرق يقول:«في ظلماتنا ليس هناك مكان للجمال.. ينبغي أن يكون المكان كلّه موهوبا للجمال». كان يريد أن نقرأه «لتتنزّل كلماته في أعماقنا»، قد تكون كلماته صعبة الهضم، وفحولة شعره قد تجعلنا نتشهّى طلّ الآخرين. أمّا هو فكان لا يريد لنصوصه أن تكون جميلة وغير عاديّة، وإن كانت كذلك من حين لآخر، فكتابة البرق على الجبين قد تصيب صاحبها بالعماء والصّمم. شعره المطحون قاطع كالشّفرة الحادّة، وإذا كان البعض يعتقد بأنّ نسغ الشعر هو المجاز فإنّ شعر رونيه شار ينهل من اللاّمنتهى، ويرى البعض الآخر بأنّه الصّانع العنيف الغضوب لشعر ينهل من ينابيع التنبّؤ، ليبلغ حدوده القصوى، وكان شقيقه الأقرب في الشّعر هولدرلين قد أرسى من خلال هذه التّجربة على الجنون، أمّا هيدغر الذي تأثّر به شار فقد انتهى به الأمر إلى ازدراء الإنسانية. أمّا رونيه شار فقد كان يحفر بداخله حتّى النّخاع ليلامس جوهر الحياة، وهو المحبّ الخبير بمكامن الخزامى السّوداء وأفاعي الكلمات. «إنّ الألم هو الثمرة الأبديّة الأخيرة للشّباب». كذلك هي جمل شار، مختصرة وبليغة، تحمل بداخلها ظلمتها وشعلتها، إنّها نموذج لتلك الصّيغة الأقرب إلى التنبّؤ منها إلى الشعر، وهي في ذات الوقت العظمة وحدودها. إنّ قراءة شار لا تطفئ العطش، بل تلهبه، لا تستجيب للرّغبة وإنّما تقوم بجلدها، فرونيه شار لا يملؤنا ولكنّه يحفر فينا، معلنا نفسه شامانا، فهو الدّرويش الدوّار لقدر الإنسان، إنّه يريد أن يكون وميض صاعقة وهدير رعد، وأحيانا ما يتحوّل إلى رنين صاف، إنّه رمز الجسارة في وجه التّنازل والصّمت المتواطئ. رجل النّهار المحض كان قبل كلّ شيء جنوبيا، صوته أجشّ وصداقته خشنة، وهكذا كان يحلو له تعريف نفسه «رجل النّهار المحض والماء الجاري». كان يريد أن يكون وأن يخدم الحياة بالتّفاعل المستمرّ مع الموت، ورؤيته التراجيديّة للعالم كانت تدفع به إلى ذلك، ولكنّه كان يضيف الزّعتر والإكليل لقصائده المتّقدة على جبينه، وكموسى، ينزل من الشّعاب المشتعلة، وبيده قصائده أو ألواح وحيه، التي يكون هو وحده من أملاها. مهرّب الشعر الشّعر وُجد لينقذ العالم، وشار هو مهرّبه، وإن تطلّب ذلك إثارة العواصف: «في ذروة العاصفة، هناك دوما عصفور يمنحنا الطّمأنينة، يغرّد ثمّ يطير». وكان جوي بوسكي قد قال «إنّي أنشد القليل من تلك الشّمس التي أنعشتها سطور رونيه شار داخل رئتي والشّبيهة بطائر ذهبيّ مهيب». كان رونيه شار إذن مشرقا، وكان بالتّالي موجعا بفعل ذلك الإشراق، فشعره قاس وجسمانيّ، ينطّ فوقك ليعلن دوما انتصاره، وبالنّسبة لأولئك الذين ترتهن حياتهم لخيط رفيع، أي نحن جميعا، يبدو رونيه شار وكأنّه لا غنى عنه. يقول رونيه شار: «إنّ الأمطار الوحشيّة تساعد العابرين ذوي الإدراك العميق». كان رونيه شار واحدا من هؤلاء، وناره تظلّ متّقدة.. فسلام لذلك الذي يمشي بثبات بجانبي في ختام القصيد.. والذي سيمضي غدا منتصبا أمام الرّيح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©