الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فريد بلكاهية.. الساهر على روحه

فريد بلكاهية.. الساهر على روحه
12 أغسطس 2015 20:20
اعتاد موسم أصيلة الذي بلغ دورته السابعة والثلاثين هذه السنة أن يتخذ في كل دورة بلدا كضيف شرف لكنه خرق القاعدة هذا العام ليكون الضيف علما من أعلام الفن التشكيلي المغربي والعالمي، وقد واكب الموسم وساهم في إنجاحه منذ بداياته، إنه فريد بلكاهية الذي رحل عن دنيانا السنة الماضية، وما قاله الأمين العام لمنتدى أصيلة الثقافي الدولي، محمد بنعيسى بخصوص ذلك: «إن ضيف شرف الدورة الحالية من المهرجان هي روح الفنان التشكيلي الراحل فريد بلكاهية، وليست دولة على غرار ما كان عليه الحال في السنوات السابقة». إن أي تكريم لفريد بلكاهية هو مستحق، وقد انتزع الاعتراف في حياته وبعد موته؛ الاعتراف بأنه من أعمدة الفن التشكيلي المعاصر في المغرب وأحد رواده. وهو من وضع الأسس الأولى لحداثة الفن التشكيلي المغربي مع فنانين آخرين كالجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي. ويُعتبر ممن مهدوا الطريق لهذا الفن ليحقق قفزته نحو المعاصرة، فكيف استطاع بلكاهية أن يجعل من تأصيل الفن التشكيلي المغربي طريقا سالكة لتحديثه والإسهام في بناء معاصرته؟، وما سر انحيازه لما هو محلي وتراثي؟ عرّاب التشكيليين المغاربة تجاوزت شهرة أعمال بلكاهية في مرحلة النضج حدود الوطن فعُرف على المستوى العربي والعالمي لكثافة مشاركاته في معارض وبينالات عربية ودولية رفيعة المستوى. وشهرته ليست نابعة من فراغ أو نوعا من المجاملة، وإنما لتمكنه من إحداث تنويعات على التراث استطاعت أن تكون أساس تجربته الفنية، كما أنه ساهم في وضع الأسس الأولى لحداثة الفن التشكيلي المغربي ومهد له الطريق ليحقق قفزته نحو المعاصرة التي يمكن اعتبارها منعطفا من منعطفات الحداثة حسب الباحث المغربي محمد الشيكر. وبلكاهية من الفنانين الذين استقطبتهم أوروبا للدراسة لكنه عاد بعد ذلك إلى مراكش لينخرط في نحت لغة بصرية جديدة وعصية عن التقليد، قرن فيها بين مرجعيتين، حداثية وتقليدية زاوج من خلالهما بين لعبة الاستحضار والمسح، فانفتح على مستجدات الفن التشكيلي العالمي وعلى ما هو محلي، محاولا من خلال ذلك تحقيق خصوصية تجربته كنوع من إعادة صوغ الذات وكله وعي بأن ذلك لن يتم إلا من خلال اكتشاف الآخر (الغرب)، والوعي بقيمة الموروث التراثي، فجعل مفردات هذا التراث أساس منجزه البصري، وابتكر طريقة جديدة خاصة به وحده، تقوم على تطويع المادة المكونة من النحاس والجلد والخشب لتكون حاملا للإبداع، وأبدى ولعه بالعلامات والرموز التي استوحاها من التراث المغربي الأصيل، كما كان من أوائل من سعوا إلى دمقرطة الفن التشكيلي والخروج بالأعمال الفنية من صالات العرض وعدم الاقتصار على النخبة وتمكين الجمهور الواسع من رؤية هذه الأعمال والتواصل مع الفنانين، فنظم سنة 1969بالتعاون مع فنانين آخرين معرضا بساحة «جامع الفنا» بمراكش في الهواء الطلق، حمل عنوان «المعرض الواضح». وقد جعل من مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة التي شغل منصب مديرها لغاية 1975، المنطلق الأساسي لترسيخ حداثة الفن التشكيلي المغربي من خلال الانزياح عن النموذج الغربي الذي كان يُدرّس بها والقائم على الحامل التقليدي (اللوحة) والمواضيع الجامدة والبعيدة عما هو خصوصي ومحلي، فاستبدل كل ذلك بنموذج يُؤسّس لتقاليد فنية جديدة تنتصر للتراث الشعبي وللفن الإسلامي ونجد أثر كل ذلك في أعمال فريد بلكاهية وأيضا أعمال الفنانين الذين ساهموا في التدريس بالمدرسة أو جايلوه كمحمد شبعة ومحمد المليحي والشرقاوي والغرباوي، كما أصدر نشرة كانت تُعنى بنشر نصوص تؤكد على تأصيل الفن المغربي، وهذه الدعوة وجدت امتدادها في تنظيرات عبد الكبير الخطيبي الذي أكد على أهمية استثمار التراث في الفن التشكيلي بقوله: «على الفنان... أن يروض الماضي وهو يبتكر المستقبل حتى يتجرد العمل وينفلت من الزمن» وبذلك يكون بلكاهية قد تمثل التراث وجعله مستجيبا لرؤاه. فكيف استطاع تطويع هذا التراث؟ وهل نجح فعلا في تحقيق خصوصية تجربته؟ تنويعات على التراث استطاع بلكاهية تحقيق شروط التأصيل والمعاصرة في أعماله، من خلال استيحاء التراث وعدم السقوط في مطب تقليد الآخر، فكان سباقا إلى الاغتراف من الموروث الشعبي والحرف والصنائع فانزاح عن الحامل التقليدي (اللوحة)، وعوضها بحوامل تراثية كالنحاس والجلد، وهذا الأخير كان بلكاهية أقدر على تطويعه، وهو يدخل في صميم الكثير من الحرف التقليدية في المغرب، والتي تتمركز بمراكش وفاس، وطريقة عمله عليه أنه كان يمده على أشكال معدة مسبقا من الخشب، وطبيعة تكوينه فرضت عليه استخدام ملونات ذات أصل طبيعي، مغايرة لتلك المستعملة على القماش والورق، كالحناء والزعفران وقشر الرمان والصمغ، فيغدو بذلك الجِلد عند بلكاهية حسب الباحث المغربي فريد الزاهي: «بشرة العالم والأصباغ تلاوينها الطبيعية التي بها تبدو تضاريسها وجغرافيتها المقدّسة»، ولمرونة الجلد وخصوصيته فإنه انزاح به ليجعله عبارة عن أشكال وليس لوحة تقليدية ذات إطار. أما صلابة المادة المتمثلة في النحاس فقد طوعها واستبدل بها القماش، فطرقه وحوله إلى لوحات فنية ومنحوتات أخضعها لثنائية الظل والضوء. وقد زين أعماله وزخرفها، سواء منها النحاسية أو الجلدية، بزخارف ونقوش مشكّلة من العلامات والرموز والأوشام وحرف التيفناغ والخط وزخارف الزرابي، واحتفى بشكل خاص بعلامة «خمسة» أو «الخميسة» لما تحمله من عمق رمزي وجمالي في الذاكرة الشعبية فهي رادة للحسد وأحد مصادر جمال المرأة لما تنقش بالحناء. وما ميز أعماله، ذلك التداخل والتمازج من حيث الفضاء بين التشكيل والنحت، فهو يواصل بذلك لعبة الاستحضار والمسح، فيقابل بين التراث والحداثة، ويجعل المتلقي يؤخذ بروح هذا التراث الذي يستبطنه العمل ولا يفشي به، فيقتصد الفنان في استحضار التراث ويسعى من خلال عمله إلى ترميزه. واستعادة بلكاهية للتراث في أعماله سواء من خلال توظيف العلامة الخطية والرموز التراثية وحوامل مغايرة للمعتاد والتقليدي، كما سبق ورأينا كالنحاس والجلد، وكلها أمور من أساسيات الصناعة التقليدية المغربية فيعيد بذلك اللوحة المغربية إلى أصولها الفنية، بعودته إلى العمق التاريخي، حيث السلف الذين زاولوا النقش على النحاس والذهب والفضة ونسجوا الزرابي وزينوها بالرسوم والزخارف، والصناعات الجلدية بكل أشكالها وتلاوينها، وغيرها من الصناعات الفنية التي امتاح منها بلكاهية وما زالت مستمرة كوجه من وجوه الأصالة المغربية، لكن رغم كل ذلك فإنه لم يخلص لمقاصد الصانع التقليدي، وانزاح عن الغاية الأصلية التي وظفها هذا الأخير من أجلها، وجعل تجربته الفنية وأعماله خاضعة لرؤاه الفنية، لأنه حمّل أعماله بأبعاد ودلالات منها الظاهر ومنها الخفي، فجعل أعماله بعلاماتها ورموزها، تحيل على عوالم حلمية ونماذج متخيلة وتراثية، وقد كان يفككها ويعيد تركيبها حسب رؤيته ليحقق المفاجئ والمدهش. فيكون بذلك قد استمد أشكاله المعاصرة ورموزه من التراث الشعبي واللامفكر فيه لأنه محمل بهوس الاختلاف وتحقيق الخصوصية، فانخرط بذلك في عالم من التجريب الفني والذي ما زالت تداعياته مستمرة في المشهد التشكيلي المغربي حتى بعد رحيله. لقد أخلص بلكاهية للمرجعية التقليدية والتراثية التي ظلت لصيقة به ولم يحاول الانزياح عنها لآفاق بديلة، وذلك ما جعل تجربته التشكيلية تزدهي بقيم رفيعة وتاريخ من الأصالة فتح له باب التميز والتفرد والخصوصية على مصراعيه، فكان من الذين صنعوا مجد التشكيل المغربي الحديث والمعاصر وأوصلوه إلى العالمية، وجعلوا التجربة الفنية العربية المعاصرة تنفتح على آفاق رحبة وتداعيات واعدة. ساهم في وضع الأسس الأولى لحداثة الفن التشكيلي المغربي ............... أعماله بعلاماتها تحيل على عوالم حلمية ونماذج متخيلة وتراثية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©