الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«قميص يوسف» في النظريات الكبرى

«قميص يوسف» في النظريات الكبرى
12 أغسطس 2015 21:04
معظم النظريات تقوم على نقطة بسيطة، يعمل صاحبها على توسيعها وكلما عززها بهت لونها. ولو نشأ علم للنظرية يقوم على فحص سلامة النظرية، قبل تقديمها للقارئ، لما كنا أمام هذه الكثرة الكثيرة من النظريات التي لا ينتجها سوى الإنسان وحده، كأن الأمر نوع من تسلية أو تغطية مصلحة، أو بسط سلطة لغاية دفينة، أو تغطية الفشل في إقامة نظام منسجم للبشر... أو تسويغ لأعمال عنيفة وصراعات اجتماعية...إلخ النظرية الكبرى لا يمكننا إحصاء النظريات حتى في الفرع الواحد، لذلك نكتفي بالنظرية الكبرى في التاريخ أو فيما يحرك عجلة التاريخ، ليحدث التغيير الكبير في المجتمع والإنسان، في العلاقة المجتمعية والنفسية الفردية... في التغيرات الصارخة التي بنيت عليها نظريات كثيرة جداً. تقول النظرية الكبرى: إن التغيرات التي طوّت وغيّرت وبدّلت المجتمع البشري نتجت عن ثلاث ثورات فقط أو حتى الآن على الأقل. وهذه الثورات هي: الزراعية والصناعية والمعلوماتية. وكل ما يعقب أي ثورة منهن يأتي في سياق هذه الثورة ولا يمكن أن يغيّر من مسارها أبداً، مهما كان ضدها، أو معها. قد يؤثر في تكوين منعطف بسيط جداً، ولكن الاتجاه العام للموجة سيأخذ مجراه. ولنقم مثلاً واضحاً من ثورة تعتبر الأعظم في العالم الحديث، وهي الثورة الفرنسية التي أثرت فينا وفي العالم بصورة لا سابق لها على الإطلاق. وهي أقرب الثورات تجاوباً مع الثورة الصناعية. جاءت الثورة الفرنسية بعد قرن تقريباً من الثورة الثانية (الصناعة)، فماذا غيّرت من اتجاه الثورة الصناعية؟ لم تغيّر شيئاً، بل كانت التعبير الحقوقي والاجتماعي لها فسرّعت في نشرها. ولو كانت في غير هذا المسار لما أثرت في الناس ولما انتشرت مبادئها في كل أرجاء العالم. ولو أخذنا أي ثورة من الثورات السلبية والإيجابية، سنجد أنها ستكون مؤثرة وناجحة إذا كانت تسير مع الثورة الكبرى. فإن عاكستها فشلت ولو استمرت زمناً طويلاً، فالثورة البلشفية طال أمد سيطرتها ولكنها لم تكن متساوقة مع الثورة الكبرى تماماً. فشلت، ليس من حيث المبدأ، لأنها تكملة للثورة الفرنسية، بل من حيث الإدارة الفاشلة، والنظرة الضيقة. هذا ما يصرّ عليه أصحاب النظريات الكبرى، أو نظرية الثورات الثلاث في تطوير المجتمع البشري. وفي أواخر القرن الماضي ابتكر إيفلن توفلر مصطلح «الموجة» بديلاً عن الثورة، فصار- وكثير بعده- يقول «الموجات الثلاث» وعلى هذا الأساس نحن في الموجة الثالثة، الموجة الرقمية أو ثورة المعلومات أو ما شئت من هذه التسميات. وعلى هذا الأساس يبدو كل شيء منسجماً مع النظرية الكبرى لتطور المجتمع المؤلفة من ثلاث موجات أو ثورات، وهي الزراعية والصناعية والمعلوماتية. قد تقوم ثورات منها ما نعتبره رجعياً، ومنها ما نعتبره تقدمياً، ومنها الفتنة ومنها التمرد ومنها الثورات القومية والانقلابات العسكرية... لا يهم فكلها لا تؤثر مطلقاً في المسار العام للموجة التي هي فيها. قد تؤثر محلياً، وبعد مدة يزول تأثيرها وتبتلعها الموجة، كما ابتلع ابنَ نوح موجُ الطوفان. اختراق مزدوج للموجة الأولى في المسيرة الكبرى للتاريخ تبدو الموجتان الثانية والثالثة واضحتي المعالم ومحددتي المسار، ولا اختراق فيهما. كل ثورة تقوم في عصرهما ستكون منقادة لهما. فلا يمكن الرجوع مثلاً عن الهاتف الجوّال إلى الهاتف ذي الأرقام القرصية، ولو قاد الثورة الأمير كروبتكين نفسه. والتراكم التطوري اليوم بات أسرع من الأول، بل أسرع من رفة الجفن، فعندما ظهر الكاسيت قلنا آخر اختراع، ولكنه زال بسرعة أمام الأقراص المضغوطة... الآخذة في الزوال أيضاً وهكذا. أما الموجة الزراعية، وهي الأولى، فأطول زمناً. بقيت آلاف السنين. والتغيرات فيها بطيئة جداً. لعل أهمها بسط سيطرة الرجل، حيث بدأت العلاقة تتغيّر بالتدريج، وبصراع استمر زمناً طويلاً، ولم تنجح الحركة الأمازونية في استرداد ما أخذ منهن. أما سوى ذلك فطبيعي جرى بهدوء. فالانتقال من جني الثمار إلى الرعي ثم إلى الزراعة شيء طبيعي ولا يمكن تحديده بزمن، فما الفرق بين الجني والرعي والزراعة؟ حتى اليوم لا تزال هذه المراحل الأولى قائمة ومتداخلة. لم تعد القطعان- مثلاً- تنطلق في المراعي، بعد قيام الحظائر الضخمة لتربية اللحوم والصوف والجلود... ولكن المضمون واحد، والغاية واحدة. وقد أطلق الإغريق على هذه المرحلة الزراعية الرعوية الهادئة اسم إقليم لديهم هو أركاديا. وكل أدب يصف النعيم والسلم والمحبة والمتعة يقال إنه أدب أركادي. فأركاديا هي اليوتوبيا الواقعية عند اليونان ولا يزال الشعراء الحالمون حتى اليوم يمارسون الشعر الرعوي. وفي لوحة زيتية رائعة للفنان الفرنسي نيكولاس بوسان ظهر مجموعة من الرعيان أمام ضريح نقش في جداره «أنا الموت موجود في أركاديا أيضاً» بمعنى أن المرحلة الزراعية مرحلة سلام وأمن ولا شيء يعكرها، سوى أن أبناءها سيموتون، لوجود الموت، وليس لوجود الحرب والقتال والصراع والحزازات...إلخ. «أنا الموت موجود في أركاديا أيضاً» لوحة للفنان نيقولاس بوسان لننظر في الأدب الذي وصل إلينا من هذه المرحلة. إنه كله «رعوي» ويحنّ حتى الشعراء المحدثون في العالم الحالي إلى أركاديا، وأغلبهم قام برحلة خيالية إلى هذه الجنة التي رسمها عشاق الهدوء والدعة. ومعالم هذه المرحلة: السلم والمحبة وخدمة الطبيعة من جني الثمار ورعي القطعان وزراعة الحبوب والثمار. هناك بطلان في هذه المرحلة هما الحمار والكلب. فالحمار خط الطرقات الزراعية وساعد في تسريع عملية التبادل. والكلب ساعد إلى حد ما في حماية القطعان. أدب هذه المرحلة في معظمه مجهول المؤلف. وهو النبع الأكبر للفولكلور الذي لم يتغيّر على مدى القرون. ازداد واغتنى ولكنه ظل كما هو تقريباً، فظلت الشخوص الميثولوجية قائمة فيه، وظل الجن وأطياف الخيال وسواهم يمارسون عملهم في الأدب. ولكن عندما استخدم أساتذة الحرب من الميتانيين والحثيين الحصان، الذي كان للجر والنقل، في الحرب، وقرنوه إلى عربة حربية، تعتبر من ابتكارهم، في الألفية الخامسة قبل الميلاد، كان ذلك إيذاناً بثورة حقيقية، أو قل بموجة حقيقية غيّرت كل المنطقة وامتدت فغيّرت العالم بأسره. إنه اختراق للعلاقات الزراعية الهادئة والسلمية، وتطوّر لا ينسجم أبداً مع الموجة الزراعية، بل جاء معاكساً لمعالمها الكبرى. ماذا يعني ظهور الحصان؟ يعني قيام علاقة جديدة لم تكن موجودة في المرحلة الزراعية، وهي أن سلطته باتت تحدد الملكية. أول الأمر قرن إلى العربة الحربية، ثم استخدم مستقلاً عنها، لاستغلال كامل سرعته. الحصان الحربي أنهى مرحلة السلم والاستقرار التي كان بطلها الحمار، ودشن مرحلة الإمبراطوريات القديمة، التي يقال إن سرجون الأكادي أول من أنشأ إمبراطورية كبرى في العالم القديم الذي بلغ عدد إمبراطورياته، من صغرى وكبرى، الأربعين، كلها لم تكن لتوجد لولا الحصان. ولم يكن اختيار الحصان عفوياً، ففي الألفية الخامسة ظهر أول كتاب في العالم عند الحثيين عن تربية الحصان الحربي، وطريقة الاهتمام بطعامه وشرابه وشغل العدة له، وربطه ورعيه وتدريبه. ولم تكن هذه العناية البالغة عن عبث، فقد اكتشفوا سرعته الجنونية، فربطوه إلى عربة الحرب، ثم رأوا أن حله من رباطها أفيد لهم في حربهم. وهكذا دشن الحصان الإمبراطوريات الأولى، وهذا هو الاختراق الكبير للموجة الأولى السلمية الآمنة الهادئة وبطلها الحمار. وقد تغيّر الأدب من جراء ذلك، فظهرت الملاحم والشعر البطولي والفخر والروح القبلية، إلى أن ظهرت مرحلة الفروسية بأخلاقها الرفيعة السامية، التي أفسدها بسرعة الاختراق الثاني الذي جرى في القرن الرابع عشر. حدث الاختراق الثاني بعد أن نقل العربُ البارودَ إلى أوروبا، ما دشن عهداً للخلاص من الأسلحة القديمة وطرح أسلحة جديدة. إن هذا القرن هو قرن الانتقال من الأسلحة الباردة إلى الأسلحة الساخنة ومن الحصان الحي إلى الحصان الآلي. فحدثت ثورة هائلة في العلاقات البشرية، فقد أنهت جيوش الإقطاعيين ومهدت لقيام دولة قوية تميل أكثر فأكثر إلى المركزية. إن الأسلحة الساخنة أنهت عهداً كاملاً ملأ الأدب والشعر والمسرح وهو عهد الفروسية، والقيم البطولية، قيم الشهامة واحترام الليدي (حماية الظعينة) والصدق والإخلاص. صارت الحروب بالخيول الحديدية، فأحيلت الخيول الحية في القرن الثامن عشر إلى السيرك والمزرعة والسباق والعروض الاحتفالية. هنا نشير إلى أن الاختراق الثاني، ممثلاً بالأسلحة الساخنة، لم يعمل على عبودية المرأة، فلم تعد تسبى، كما كانت في أيام سيطرة الحصان الحربي، فقد اقتصر الأسر على المتحاربين فقط. وفي هذه المرحلة انتهى الأدب الفروسي وظهر الأدب الفردي، واختفى أدب الملاحم الذي رافق الحصان. الحصان المعيار غيّر الحصان الحربي كل شيء في العالم، وقلب الأمور رأساً على عقب، فهو الذي خلق أسرى الحرب والعبيد والأرقاء والسبايا، والمرأة التي كانت تحترم (وفي بعض الأماكن كانت تقدس) صارت أسيرة وأمة للمنتصر الذي سباها من بلادها. والشيء الأهم هو الملكية. إن الملكية بعد ظهور الحصان المحارب لم تعد تابعة للعمل، ولا للوراثة ولا الملكية القبلية، بل للحصان، فإن اجتاح الحصان (الحي أو الحديدي) أرضك، فلا أرض لك، إنها تنتقل بذلك إلى صاحب الحصان. وهكذا راح الحصان المنتصر يحدد ملكية الدول، وملكية القبائل بل وملكية الأفراد، ابتداء من الحاشية ووصولاً إلى الأتباع. بلاد بأكملها تنتزع من سكانها، الذين يتحولون إلى عبيد وأرقاء، وتصبح بإمرة المنتصر يوزعها على من يشاء وينزعها ممن يشاء. ومن المنتصر؟ من يملك العدد الأكبر من الخيول، لا من الأغنام أو الأبقار أو الحمير أو الدجاج، أو أي شيء، أو كل شيء، مما قدمته الموجة الزراعية الهادئة. وقد وقفت الأديان الإبراهيمية ضد هذه الظاهرة، فلم تمتدح الحصان ولم تسمح لنبي أن يمتطي حصاناً، واختارت الحمار رمز الحكمة والهدوء والسلام. وعلى الرغم من كل هذه المعارضة الأخلاقية للحصان الحربي، نجد الحصان يظل سيد الموقف، فحتى عندما انطلقت الموجة الثانية (الصناعة) اتخذوا الحصان معياراً، فالسفينة تقاس بالحصان والسيارة تقاس بالحصان والطيارة تقاس بالحصان، ومولد الكهرباء يقاس بالحصان، وقوة الانفجار تقاس بالحصان والدبابة تقاس بالحصان والغواصة تقاس بالحصان... إلخ. منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد والمسيطر على الساحة هو الحصان... كان حصاناً حياً، فصار حصاناً حديدياً، وكان من نوع واحد، فصار من مئات الأنواع، وكان برياً، فصار برياً وجويّاً وبحرياً، بل صار فضائياً، خارج الأجواء المعروفة للأرض. الإمبراطوريات القديمة قامت على الحصان الحيّ والإمبراطوريات الحديثة قامت على الحصان الآلي، ولا تزال الأوضاع كما هي، فظل المهزوم مهزوماً، وظل المنتصر منتصراً، فمن امتلك المزيد من الخيول الحية قديماً أو الآلية حديثاً يحدد بنفسه ملكيته التي قد تشمل معظم أراضي الكرة الأرضية. ألا يستحق هذا الاختراق المزدوج للموجة الأولى أن تظهر نظرية خاصة به؟ نهاية الفروسية الاختراق الثاني، ممثلاً بالأسلحة الساخنة، لم يعمل على عبودية المرأة، فلم تعد تسبى، كما كانت في أيام سيطرة الحصان الحربي، فقد اقتصر الأسر على المتحاربين فقط. وفي هذه المرحلة انتهى الأدب الفروسي وظهر الأدب الفردي، واختفى أدب الملاحم الذي رافق الحصان. تغيير حاسم غيّر الحصان الحربي كل شيء في العالم، وقلب الأمور رأساً على عقب، فهو الذي خلق أسرى الحرب والعبيد والأرقاء والسبايا، والمرأة التي كانت تحترم (وفي بعض الأماكن كانت تقدس) صارت أسيرة وأمة للمنتصر الذي سباها من بلادها. والشيء الأهم هو الملكية. إن الملكية بعد ظهور الحصان المحارب لم تعد تابعة للعمل، ولا للوراثة ولا الملكية القبلية، بل للحصان، فإن اجتاح الحصان (الحي أو الحديدي) أرضك، فلا أرض لك، إنها تنتقل بذلك إلى صاحب الحصان. الاختراق الأكبر منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد والمسيطر على الساحة هو الحصان... كان حصاناً حياً، فصار حصاناً حديدياً، وكان من نوع واحد، فصار من مئات الأنواع، وكان برياً، فصار برياً وجوياً وبحرياً، بل صار فضائياً، خارج الأجواء المعروفة للأرض. الإمبراطوريات القديمة قامت على الحصان الحيِّ والإمبراطوريات الحديثة قامت على الحصان الآلي، وما تزال الأوضاع كما هي، فظل المهزوم مهزوماً، وظل المنتصر منتصراً، فمن امتلك المزيد من الخيول الحية قديماً أو الآلية حديثاً يحدد بنفسه ملكيته، التي قد تشمل معظم أراضي الكرة الأرضية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©