الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أزمة الدين الأوروبية: ألمانيا تحارب «كينز»

أزمة الدين الأوروبية: ألمانيا تحارب «كينز»
23 يناير 2012
في الوقت الذي يهرع فيه قادة الدول الأوروبية لعقد قمة حاسمة أخرى بشأن أزمة الديون في الثلاثين من يناير الجاري، تجد القيادة الألمانية نفسها في موضع اختبار مرة أخرى. ففي القمة الأخيرة للاتحاد الأوروبي التي عقدت في ديسمبر الماضي، لم تكن برلين قادرة على إقناع لندن بتأييد خطة ترمي إلى فرض المزيد من القيود على السياسات الاقتصادية لدول الاتحاد البالغ عددها 27 دولة. وفي تلك القمة رفض رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون التنازل عن أي قدر إضافي من سيادة بلاده للقارة الأوروبية، كما قيل في وسائل إعلام بلاده في ذلك الحين. لكني شخصياً أشك في أن خوفه الرئيسي يكمن في دعم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل لنهج فرض المزيد من الانضباط المالي على السياسات الاقتصادية الأوروبية. فعلى الرغم من أنه يطبق ميزانية تقشفية في بلاده، إلا أن كاميرون يحبذ الخيار الأنجلو أميركي المفضل في تخفيض قيمة العملة باعتباره العلاج الشافي خلال مثل هذه الأوقات الصعبة. وليس كاميرون هو فقط من يؤمن بهذا الرأي، فهناك قادة أوروبيون آخرون يؤمنون به، مثل كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد الدولي، ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي، وغيرهم ممن يرون أن ماكينة طبع النقود قد حلت في القرن الجديد مكان المدفع الرشاش كسلاح رئيسي لحسم صراعات القوى الأوروبية. الألمان لن يصيغوا المسألة على هذا النحو، فهم في الواقع في طور بناء "امبراطورية" جديدة، اقتصادية هذه المرة تعتبر "الأموال الأمينة" Honest Money الفضيلة الرئيسية فيها. ونظراً لخلفيات تاريخية معروفة، يأبى معظم الأوروبيين تسليم سيادتهم الاقتصادية لألمانيا، لكن ألمانيا باعتبارها مركز القوة الاقتصادية الحالي في أوروبا، والدولة التي يتم اللجوء إليها للإقراض في أوقات الأزمة -كخيار أخير- تجد نفسها في موقف تفاوضي قوي بشكل استثنائي، مما أثار مخاوف القادة الأوروبيين مجدداً من عودة الهيمنة الألمانية. ولقرون عديدة، وقفت الدول الأوروبية حائلاً دون توحيد المقاطعات الألمانية لأنها كانت تعرف أن ذلك التوحيد سوف يجعلها تتسيد أوروبا، وعندما توحدت تلك المقاطعات في دولة واحدة في أواخر القرن التاسع عشر وجدت نفسها متأخرة كثيراً عن الدول المتنافسة وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا اللتان كانتا في ذلك الوقت أكبر امبراطوريتين في العالم. وكانت الحرب الألمانية مع روسيا أولاً ثم حرباها العالميتان الأولى والثانية ثانياً، شهادةً على سعي ألمانيا لتعويض الوقت الضائع. وهزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وكابوس الحرب الباردة التي عاشتها كدولتين منقسمتين بين كتلتين متنازعتين، لم تنه أحلامها في بناء مركز قيادي دولي يتناسب مع قوتها الاقتصادية، على الرغم من أنها غيرت وسائل وطبيعة تلك القيادة (من خلال السعي للحصول على مقعد دائم وسط الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي على سبيل المثال، ولعب دور القائد في الأزمة المالية الحالية). وبعد أن توحدت في دولة واحدة منذ عشرين عاماً، أصبحت ألمانيا التي لا يزيد عدد سكانها عن 82 مليون نسمة، أكبر دولة مصدرة في العالم، إلى أن انتزعت منها الصين هذه المكانة في أكتوبر 2010. وقد اعتمدت "معجزتها" الاقتصادية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية على فضيلة العمل الشاق والفعال، ومراكمة الثروة من خلال القوة التصديرية، ومقاربات السياسة المالية المنضبطة المضادة للتضخم. واعتمدت ألمانيا في سياق ذلك، وأكثر من أي دولة أخرى، على فلسفة اقتصادية معروفة باسم "المدرسة النمساوية" التي تضع أهمية خاصة على قوة العملة المحلية. وربما يكون اهتمام ألمانيا بهذا الجانب على وجه الخصوص هو الذي أتاح الفرصة لعملتها "المارك" أن تصبح واحدة من أقوى العملات الدولية. وفي مقابل ذلك كانت عقائد العديدين من منافسي ألمانيا الذين يقودهم إلى حد كبير التحالف الأنجلو أميركي، تميل لتفضيل المقاربة الكينزية للسياسة النقدية التي يتم بموجبها استخدام آلية تخفيض قيمة العملة كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي. ومن المنظور الألماني، كان تخفيض قيمة العملة يعني دوماً تدمير الثروة المجمعة من قبل المدخرين والطبقة الوسطى، وإفادة المصرفيين والسياسيين الأثرياء. والفارق بين هاتين الرؤيتين للسياسات المالية المتساهلة لبنك إنجلترا ولاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) والأموال الأمينة للباندسبنك (البنك المركزي الألماني)، وفيما بعد البنك المركزي الأوروبي، يشرح الصعوبة التي تجدها تلك الدول في العثور على أرضية مشتركة أو التوصل لنقطة توافق في الأزمة المالية الحالية التي تعصف بالقارة. منذ عشرين عاماً ضحى الألمان على مضض بعملتهم (المارك) من أجل اليورو. ففي ذلك الوقت دافع المستشار الألماني "هلموت كول" عن تلك الخطوة باعتبارها خطوة ضرورية من أجل تحقيق الوحدة الأوروبية. ولتهدئة مخاوف المتشككين في ألمانيا، أصرت برلين في حينه على أن يكون المقر الرئيسي للبنك المركزي الأوروبي في ألمانيا كعلامة على قوتها المالية. وعلى ضوء تلك التجربة التاريخية التي كانت ألمانيا مضطرة فيها إلى اتخاذ خطوة كبيرة لصالح أوروبا، نجد أنها قد باتت أكثر حرصاً وأكثر وضوحاً اليوم في سياستها المالية، حيث سعت إلى تحويل اليورو لعملة قوية وريثة للمارك الألماني الذي لا يزال الكثير من الألمان في حقيقة الأمر يحنون إلى أيامه. وفي الوقت الراهن يصر الكثيرون في الولايات المتحدة على أن الاستقرار الأوروبي لن يتحقق إلا إذا مارس البنك المركزي الأوروبي نفس المستوى من "الشجاعة" الذي أظهره البنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي) عام 2008 عندما طبع النقود بكميات غير مسبوقة للتغطية على الاقتصاد المتداعي. وتدعو هذه الأصواتُ ألمانيا لأن تتبع في الوقت الراهن هذا الطراز من "التسهيل الكمي" الأنجلو أميركي. لقد قاومت برلين بعناد هذه المحاولات الدائبة، الأنجلو أميركية، في نفس الوقت الذي تفاعلت فيه بحماس مع أي خطوات تؤدي لتوسيع وزيادة نفوذها على السياسات المالية التي تتبعها الحكومات المختلفة عبر القارة الأوروبية. وألمانيا تدرك جيداً أن لديها القدرة على كسر إدمان القارة على المقاربة الكينزية الخاصة بتخفيض قيمة العملة من أجل تعزيز النشاط الاقتصادي أو لزيادة الصادرات. وإذا ما استطاعت ألمانيا مقاومة الضغط الحالي الأنجلو أميركي ونجحت في مخططها الكبير لإعادة تشكيل أوروبا في صورة مالية منضبطة على غرارها، فمن المرجح أن تشهد القارة في مثل هذه الحالة صحوة اقتصادية ضخمة. أما السؤال المتعلق بالطريقة التي ستتعامل بها ألمانيا مع مركزها المكتشف حديثا كقيادة اقتصادية، فأمر يختلف جد الاختلاف. فهي يمكن أن تستخدم تلك القوة بطريقة مسؤولة، وتسترد الثقة المالية في مبادئ النقود الأمينة، أما الدول التي اختارت أن تضع ثقتها في المبادئ الكينزية فقد تجد نفسها مضطرة للتماشي مع الألمان والنموذج الألماني في نهاية المطاف على اعتبار أنه النموذج الذي أثبت نجاحه من خلال التجربة العملية وليس من خلال النظريات. جون براون اقتصادي رئيسي في مؤسسة «يورو باسيفيك كابيتال» للمعاملات المالية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©