السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الراسخات السبع

الراسخات السبع
28 أغسطس 2014 15:19
هذه محاولة خاصة في قراءة المعلقات، وهي خاصة لأن لكل منا أدواته الفكرية وأجواؤه الشخصية ورؤيته الذاتية في مقاربة العمل الفني العظيم. إن لكل أمة أساطيرها وحكاياتها الشعبية وملاحمها التاريخية.. من بابل والهند والصين إلى اليونان والفرس والرومان. وفي تقديري ليس هناك قوالب معينة بمعايير محدودة صارمة للملحمة. ولعل أهم عناصرها متمثلة بالبطولة الفردية، والمغامرات الخطرة، والأحداث الغريبة وحتى الخارقة.. وكلها تجري في مسارح واسعة من الزمان والمكان، سعيا وراء إنجاز عمل جماعي جليل. وليس لنا أن ننسى أن الملحمة لم تستكمل هيكلها دفعة واحدة في زمن محدد وبفضل مؤلف واحد، وإن اقترنت باسمه، لكنها مرت بمراحل تطور من الإضافة والتعديل والتنقيح، وهذا ما يؤكده سمو الأسلوب، واتساع الرؤى التي كان كل شاعر/ راصد أو سارد يزيد النص غنى وإثارة وتأثيرا من خلال إعادة النظر في نسيج موضوعها بشخوصه العديدة وتفاصيله الدقيقة، ومن زوايا مختلفة. والروايات المتعددة للمعلقة وتباين عدد أبياتها يلقيان على فكرة التأليف الجمعي مزيداً من الضوء. وانطلاقا من هذا الأفق المفتوح، أرى أن المعلقات تشكل ملحمة العرب الباقية على مر الأجيال وتطور وسائل الإبداع، لا يماثلها ولا يرقى إلى مصافها أية قصيدة عربية أخرى، ولا أي ديوان شعري. ويخيل إلي أن هذه القيمة المتفردة للمعلقات نابعة من الحرية المطلقة التي كان الشاعر العربي يتمتع بها في باديته وحاضرته في ذلك الزمن البعيد أو القريب من ظهور الإسلام، رغم سطوة الأعراف والتقاليد في مجتمع القبيلة التي تمرد عليها الصعاليك وشقوا في رمالها وصخور جبالها دروبا وأخاديد ما زالت آثارها ماثلة حتى اليوم. ويمكن أن نضيف هنا المستوى الراقي الذي بلغته اللغة العربية في تطورها، ويبدو هذا المستوى جليا في النسيج التعبيري الذي أبدعته القصيدة في ذلك العصر، فنا وبلاغة وجمالا وانتشارا. وإذا كانت الملحمة في صيغتها المعروفة قائمة على الصراع ومشاهد البطولات والخيبات الفردية والجمعية، وتقتضي بنيتها عناصر وخيوطا متعددة لتستكمل هيكلها الدرامي المؤثر والموشى بألوان من طلاوة السرد وروعة الخيال، فإن استهلال المعلقات بصور الأطلال تشكل أرضية خصبة ومنصة انطلاق لصراع الإنسان الوجودي مع الزمن.. والصحراء.. وما يحيط بها من أخطار، سواء جاءت هذه الأخطار من وحوش أو بشر أو ظروف مناخية قاسية، فضلا عن الغزوات والحروب وأهوالها. وفي هذا الإطار، لا يمكن أن ننسى تلك اللوحة الخالدة التي رسمها زهير بن أبي سلمى، منددا بالحرب متغنيا بالسلام. إنها أنشودة نادرة، قلما نرى لها مثيلا في التاريخ الأدبي القديم، قبل ما يزيد عن 1400سنة. فرادة التجربة المعلقة في أبسط معانيها ودلالاتها يمكن اعتبارها ملحمة فردية/ قبلية، ولدت في نفس الشاعر وصاغها وجدانه شعرا، مستلهما معاناته الشخصية ممزوجة بلمسات ملونة شفافة من أحوال مجتمعه القبلي، وملامح بيئته الطبيعية وظروفها المناخية، وقد استطاع أن يكسوها بصور فنية شتى من خلاصة ما شهد وما سمع وما اختبر من قصص وأخبار ومعارك ومغامرات، على مستوى الفرد والجماعة وظروف الواقع والتاريخ، وفضاءات الحلم والذاكرة وطفرات الخيال. وإذا كان الدارسون قد عابوا على الشاعر أن معلقته تفتقر إلى وحدة الموضوع، فلست أرى أن هذا عيب أو مأخذ ولكنه عنصر إيجابي يؤكد النفَس الملحمي في بنية القصيدة. وأود أن أشير إلى أن هذه القصائد السبع أو العشر بدرجة أقل لا تستكمل صرحها الملحمي، في معزل عن لمحات من قصائد أخرى لهذا الشاعر أو ذاك. ولا يمكن هنا أن نتغاضى عن شعر الصعاليك في سبيل تحقيق ذلك، ولا سيما أنهم يمتازون بتجربة فريدة، سواء في الإطار الإنساني الفردي والجمعي والفني، فضلا عن الفاجع الوجودي الذي تجلى في الخلع من مجتمع القبيلة وحرمان الشاعر حتى من أبسط حقوق أفرادها. وقد عبر طرفة عن تلك المحنة واصفا حاله بالبعير الأجرب، مع أنه لم يكن من الصعاليك، وإن بدا بسلوكه واعتداده بشخصيته وحريته قريبا منهم. ولنمعن النظر في حال الشنفرى إذ يقول: «أديم مطال الجوع حتى أميته... وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهلُ/ وأستفُّ تربَ الأرض كي لا يرى له... عليَّ من الطَّوْل امرؤ متطوِّلُ». ونرى إلى تأبط شرا أيضا حين حاصره الأعداء وسدوا عليه ممر الجبل، كيف دلق العسل الذي اشتاره (جناه) على الصخر وانزلق عليه فنجا، وفي ذلك يقول: «إذا المرءُ لم يَحتلْ وقد جدَّ جِدُّه... أضاع وقاسى أمرَه وهو مدبرُ/ فرشت لها صدري فزل عن الصفا... به جؤجؤٌ عبلٌ ومتنٌ مخصَّرُ/ فخالط سهلَ الأرض لم يكدح الصفا... به كدحةً والموتُ خزيان ينظر». ونتأمل عروة بن الورد متفردا بكرم اليد والنفس والنظرة الاجتماعية الواسعة، إذ يقول: «وإني امرؤ عافي إنائي شركة... وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ/ أتهزأ مني أنْ سمنتَ وأن ترى... بوجهي شحوبَ الحقِّ والحقُّ جاهدُ/ أقسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ... وأحسو قراح الماءِ والماءُ باردُ». الليل والجواد وأعود إلى البنية الملحمية في المعلقة فأبدأ من الأطلال حيث نرى أن لكل شاعر رؤيا خاصة وتصورا مختلفا عن رؤى الآخرين وتصوراتهم، أو متقاطعا معها. فالصورة التي يقدمها امرؤ القيس، تختلف قليلا أو كثيرا عن صورة غيره من طرفة إلى عنترة، مرورا بالحارث وزهير ولبيد والنابغة، إن لم يكن هذا الاختلاف واضح الخطوط في مشهد الرسم الدارس، فهو ماثل في طريقة التعبير عن مشاعر كل واحد، دون أن ننسى الإيقاع الموسيقي الذي اختاره كل واحد منهم. ويمكن أن نسحب هذا المثل إلى صورة الجواد والصيد والطراد بين امرئ القيس وعنترة، أو صورة الناقة بين طرفة ولبيد والحارث اليشكري، وكذلك صورة الفروسية والفخر بالنفس أو القبيلة لدى طرفة وعنترة وعمرو بن كلثوم، أو صورة الموت عند طرفة وعنترة وعبيد بن الأرص، إضافة إلى صورة الصحراء وملامحها المختلفة عند معظم هؤلاء الشعراء. وإذا كان امرؤ القيس قد تميز بوصف الليل الداهم كموج البحر، وأوقف حركة الزمن إذ جعل الثريا والنجوم معلقة بصخور الجبال، فقد تفرد أيضا برسم صورة مثالية لجواده أسمى وأجمل من الواقع، سواء في الشكل أو الدلالة المدهشة في عبارة «قيد الأوابد». وهذه الصورة العصرية يمكن أن يختبرها بنفسه كل مسافر في سيارة، وهو يراقب سيارة مجاورة تسير بسرعة مماثلة لسيارته. ونتابع صورة الجواد وسرعته في هذا البيت: «مكر مفر، مقبل مدبر، معا... كجلمود صخر حطَّه السيل من علِ». إن للشاعر محمد أحمد السويدي تعليلا سينمائيا لهذه الصورة، يأخذ بالاعتبار زاوية النظر أو الجهة التي يقف فيها الناظر، مراقبا حركة الجلمود المندفع، أهو في أعلى الجبل أو في أسفله. كيف أبدع الشاعر هذه الصورة البصرية المركبة من السيل والجبل والجلمود والجواد في لقطة سينمائية، يحق لنا أن نتوقف أمامها بأناة وإعجاب. ثلاثية الوجود لقد استمتع أمير كندة بحريته حتى الأقاصي في اجتراح مكارمها واقتناص ملذاتها، فعاشر الصعاليك وعاش في شبابه حياة مشحونة بألوان من اللهو والكرم والشراب والتهتك، عشقا وصيدا وصحبة طيبة، معلنا عن هواجسه واهتماماته في ثلاث لذاذات حددها في الخيل والشراب والنساء، وأوجزها في هذين البيتين من قصيدة ثانية لا تقل جمالا عن المعلقة، إذ يقول: كأنيَ لم أركبْ جواداً للذة ولم أتبطَّن كاعبا ذات خلخالِ ولم أسبأ الزِّقَّ الرويَّ ولم أقل لخيلي كري كرةً بعد إجفالِ ولا يملك القارئ إلا أن يستشعر مرارة الأسى إذ يرى أن امرأ القيس أنهى حياته في رحلة قاتلة، يوم أراد أن يستعدي الأجنبي على أبناء قومه. ويبدو جليا أنه كان يتوجس خيفة من تلك الرحلة، وكانت ملتبسة وغير مأمونة العاقبة عبر عنها بقوله: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبكِ عينُك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا لكن الشاعر الفارس، قبل أن يصل إلى تلك المغامرة اليائسة في البلاط البيزنطي، أمضى شبابه في ترف الأمراء، حتى بين الصعاليك، كما خاض حربا طاحنة امتدت سنوات طويلة، في محاولات انتقامية ضارية طلبا للثأر بعد مصرع أبيه، وربما كانت تلك الآهة التي أطلقها حين جاءه خبر الاغتيال ما تزال ترددها الرياح في حناجر القصب: «ويح حجر، ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا»! وقد أسرف «الملك الضليل» بالعنف الدموي في معاركه حتى أثار عليه نقمة كسرى وعامله العربي ملك الحيرة، فاضطر إلى اللجوء إلى حصن السموأل حيث أودع ابنته ودروعه، ومن ثم توجه بصحبة عمرو بن قميئة إلى بيزنطة في رحلة مشؤومة يائسة لم يرجع منها سالما. ومن هنا نرى أن معلقته تغشيها مسحة من الأسى والمرارة لما حل بمرابع الأحبة وقد تحولت إلى أطلال دارسة، متحسرا على أيامه الخوالي سواء في دارة جلجل أو غيرها من مسارح اللهو والقصف والعشق والصعلكة. وربما كان استغراقه في وصف الملذات نوعا من العزاء أو تعويضا عما يكابده في واقعه الحربي، أو هروبا من ذلك الواقع إلى واحة الذاكرة وظلالها الآمنة. إن حركة الزمن في تعاقب الفصول والأجيال مرتبطة بالموت، وهو أقسى ما يواجه الإنسان. وربما كان هو الدافع الخفي الكامن وراء اجتراح الفنون كلها، بدءا من الرسوم على جدران الكهوف. ويبدو هذا التحول الوجودي واضحا لدى طرفة، الفتى الذي سبق الفيلسوف الوجودي سارتر بما يقارب 1500 سنة، فقرن الحرية بالمسؤولية، وأعلن عن هواجسه الثلاثة (الشراب، والحبيبة، والفروسية) غير عابئ بمجيء الموت القادم، وهو يدرك بلا وجل أن لا مناص منه: «لكالطَّوَلِ المُرخَى وثِنْتاهُ باليدِ»، مؤكدا لمن يجادله: «فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي»! هذه الفتوة الأبية الشامخة لا يمكن أن نجدها إلا لدى قلة من الفرسان الأشداء من أمثال الحارث ابن عباد: «قربا مربط النعامة مني...» أو عنترة الذي منح جواده مزايا إنسانية سامية، قلما يشعر بها إلا الناعمون بنفوس شفافة مرهفة كأنها مقطرة من كوكب دري. إن من يقرأ معلقة طرفة في سكينة الليل، ويتوقف أمام صورها الرائعة لا بد أن تختطفه أمواج أثيرية من سحر الفن المذهل. لكن ثلاثية الشنفرى مختلفة كثيرا عنهما، إذ لا نجد مكانا للفرح والمتعة الشخصية، فقلبه الطافح بالبسالة وسيفه وكنانة سهامه هي كل شيء في حياته، لأن الرجل مهدد بالهلاك في أية لحظة: ثلاثةُ أصحابٍ: فؤاد مشيَّعٌ.. وأبيضُ إصليتٌ وصفراء عيطلُ =حضن الأم ربما كان مهما أن نتذكر أن امرأ القيس أول من وقف على الأطلال في شعره واستوقف أصحابه فبكى واستبكى كما يقول في مطلع قصيدته. إن الحنين إلى الماضي والبكاء على معالم الآثار الدارسة يوحي بالحنين إلى حضن الأم، وربما امتد بنا ذلك إلى طفولة البشرية. لكن الأهم أن نواصل التأمل في ثنايا هذه اللوحة الفنية الجميلة التي أبدعها لنا الشاعر. إن الليل لا ينفصل عن مغامرات العشق ومجالس الشراب لكنه في النهاية، ولا سيما في غياب الأحبة، يغدو ليلا خطرا مثقلا بالهموم الثقال، ويمتد طويلا جاثما على الصدر والمشاعر مثل كابوس ثقيل. ولعل صحبة الجواد وساعات الطراد والصيد ومؤانسة الجمال هي اللحظات الوحيدة التي تحمل له بعض السلوى والعزاء، وإن كانت سريعة الزوال. ولا ننسى في ختام القصيدة تلك العاصفة المطرية وسيولها الجارفة التي اجتاحت الوحش والنخيل ودفعت الظباء إلى تغيير مواضعها ولم تترك إلا «الأطم» أو القصور المبنية بالحجارة الضخمة. والسؤال الذي يدور في البال ونحن نتأمل تلك العاصفة لا يحظى بجواب شاف: أهي عاصفة واقعية فعلا أم طفرة خيالية لتلوين المشهد أم أنها إلماحة رمزية توحي بشيء قادم آخر؟ وسواء كان الشاعر مدركا رمزية العاصفة المطرية وسيولها الجارفة أو أنها جاءته عفوا، فلا شك أنها توحي بأن الواقع العربي المحيط به قد بلغ مرحلة تاريخية بالية لا يمكن أن تستمر على حالها، ولا بد من تغيير جذري قادم يجرف كل ما يعترض طريقه من عادات وأفكار وخرافات. ونتساءل في ختام هذا المهاد: أين الخيوط الملحمية أو النسيج الملحمي في القصيدة؟ وأبادر إلى القول: يكفي أن الشاعر هيأ المسرح وفرش الأرضية التي سوف تجري عليها أحداث وصراعات شتى ومصالح شخصية وقبلية متناقضة ورؤى وذكريات كثيرة، بدأها في وقفة تأمل باكية أو زاهية، وتداعيات تملأ رأسه ويستحضر أطيافها المتباعدة، وكأنه يرجو أن تنبعث الحياة من جديد، متوهجة ناضرة من رماد تلك الأطلال وأطياف أصحابها وصويحباتها. لكن الزمن لا يعود القهقرى.. وما كان في وقت غابر زال وانتهى ولا يمكن أن يعود، لكنه تحول إلى حكاية أو أغنية أو ملحمة شعرية. اللوحة الملونة يتوقف امرؤ القيس موجع القلب لدى عدة مواضع طللية، ممعن النظر في جزئياتها الصغيرة حتى باتت الآرام ترعى وتبيت في ساحاتها، ومرارة الحنظل تملأ صدره أسى وتدمي عينيه، في حين لا يشغل طرفة إلا طيف الحبيبة خولة عابرا في برقة ثهمد وصورة بقايا الوشم في يدها، ويستعير من صاحبه بيتا في مستهل قصيدته «وقوفا بها صحبي...» لكنه يختلف عنه بالقافية إذ اختار ال«تجلد» بدلا من ال«تجمل». ويشعر القارئ أن التجلد أقوى وقعا ودلالة من التجمل، وذلك أن طرفة ما زال فتى في زهوة الشباب، بينما دخل امرؤ القيس في خريف الكهولة واستحالت مغامرات عشقه إلى ذكريات رمادية شاحبة. ولعله يذكرنا هنا بزهير الثمانيني الذي توقف متسائلا: «أمن أم أوفى دمنة لم تكلمي...»، بعد عشرين سنة من فراقها، حتى أوشك ألا يعرف معالم الدار إلا بعد مشقة وحيرة. وفي أعماق هذا الغياب الطويل يكمن شبح الحرب التي سيندد بها الشاعر طويلا. لكن عنترة كان مشغولا بالشعر والطلل معا، وقد بدأ بالسؤال كما بدأ زهير لأن صيغة السؤال أقوى وأبلغ من عبارة التقرير أو النفي. ولا ننسى هنا أمرا نفسيا ودافعا عميقا متمثلا بعشق الحرية في وجدان عنترة، وكان الفضل في نيل حريته للشعر والفروسية معا. وهذا ما يؤكد بلاغة السؤال في مطلع قصيدته: «هل غادر الشعراء من متردَّمِ؟.. أم هل عرفت الدار بعد توهم؟» ويمكن أن نمر مرورا عابرا على صورة الطلل عند لبيد والحارث، فهي صور مألوفة توشك أن تكون خالية من أية إثارة محزنة، إنما هي عرض نمطي رتيب يختلف اختلافا كبيرا عن عرض امرئ القيس أو طرفة، لأن الموضوع مختلف والهدف الذي يسعى إليه كل شاعر مختلف كذلك، وشتان بين موجعات القلب ومواقف التباهي والتحدي والفخار. إن تأمل الأطلال وقسوة الزمن يوحيان بصورة الموت، وتبدو هذه الصورة قاسية فاجعة لدى عبيد لأن «غائب الموت لا يؤوب»، في حين يهتف طرفة بلائمه: «.. دعني أبادرها بما ملكت يدي». وهو هنا لا يواجه المنية بخنوع واستسلام ذليل، ولكن بكل ما يستطيع موحيا بأن سيفه ما زال في يده. ويمكن أن تنقلنا فكرة الموت إلى الأسباب والاحتمالات، والحرب في مقدمة هذه الأسباب. وهنا تأتي قصيدة زهير من جهة وقصيدة عنترة من جهة مقابلة. يقول زهير بحكمة الشيخ، كفاكم خوضا في الدم والخراب: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم...»، صورة تاريخية متوارثة جيلا بعد جيل. أما عنترة فيود «تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرها المتبسم»، ثم يسمو بصورة أهوال الحرب ملتفتا إلى جواده ليرفع مشاعره إلى مستوى البشر، قائلا: «لو كان يدري ما المحاورة اشتكى... ولكان لو عرف الكلام مكلمي». وما من صورة أبلغ من هذه الصورة وأعمق تأثيرا، وقد كررها المتنبي في شعب بوَّان. وكما استهل زهير حديثه عن الحرب بمشهد سينمائي رائع في تسعة أبيات من مطلع قصيدته... فإن عنترة ركز على شجاعته وكرمه وعفته وتساميه عن أخذ المغانم وغض الطرف عن جارته، هذه القيم تؤكد أنه كان يحمل نفسا حرة أبية قبل أن يعترف أبوه والمجتمع القبلي بحريته ويعلنها صريحة مدوية. عمر كل شاعر ومدى تأثيره على نسيج المعلقة وصورها، هو الملمح الأخير الذي أود أن أشير إليه. إن طرفة الذي حكم عليه ملك الحيرة بالإعدام وهو في السادسة والعشرين، يختلف اختلافا جذريا عن زهير، ابن الثمانين. وفروسية عنترة واستبساله في معركة انتزاع حريته من سارقيها، لا تقل عن بطولته في اقتحام المعارك الحربية ولا عن شجاعة عمرو بن كلثوم. ويمكن أن نضيف هنا الإيقاع الموسيقي الذي اختاره كل شاعر من البحر الطويل إلى البسيط، مرورا بالكامل والخفيف والوافر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©