الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البغدادي شاهد على أكل لحوم البشر

9 أكتوبر 2006 22:26
د• أحمد الصاوي: قلما أن نجد بين الرحالة العرب أحدا من أهل العراق، سوى البغدادي نعرف له مؤلفا مذكورا بين كتب الرحالة، هو موفق الدين عبداللطيف البغدادي، عالم وطبيب ورحالة، موصلي الاصل بغدادي المولد، ولد حسبما يذكر في ترجمته لنفسه بدار جده في درب الفالوذج ببغداد عام 557 هـ 1162م'' واخذ موفق الدين في تلقي العلوم المختلفة، بالمدرستين الظفرية والنظامية في بغداد وهما من أشهر دور العلم في حاضرة الخلافة العباسية ويقول في سيرته عن نفسه ''ولما كان في سنة 585 هـ 1189م حيث لم يبق ببغداد من يأخذ بقلبي ويملأ عيني ويحل ما يشكل علي دخلت الموصل'' وبذا بدأ البغدادي ترحاله الطويل متنقلا بين دمشق والقدس والقاهرة وحلب وبلاد الروم ومنغوليا حتى عاد الى بغداد ليموت ويدفن بها بعد غياب عن مدينة السلام امتد خمسا وأربعين عاما وقد توفي عن عمر يناهز الثانية والسبعين وضمن البغدادي مشاهداته في بر مصر كتابه الشهير ''الافادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر'' وانتهى من تأليفه حسبما يذكر هو بالقاهرة في رمضان عام ستمئة للهجرة• وعند حضوره الى مصر حمل البغدادي معه خطاب توصية من القاضي الفاضل عبدالرحيم البيساني اشهر كُتاب الدولة الأيوبية آنذاك واخصهم بالسلطان صلاح الدين الايوبي، اذ كان وزيرا له طوال حياته وقد دفع البغدادي بخطاب التوصية الى وكيل القاضي في القاهرة ابن سناء الملك فجاءه في الحال الى الخان الذي نزل فيه وقدم له دارا ودنانير وغلة ثم مضى ابن سناء الملك الى أرباب الدولة وقال لهم: هذا ضيف القاضي الفاضل فانهالت عليه الهدايا والصلات من كل جانب حتى أصبح من الأثرياء، ثم عرض وكيل القاضي الوظائف على البغدادي فاختار منها مسجد لؤلؤ الحاجب الواقع بالقرافة لتدريس الطب والفلسفة والرياضيات ولم يلبث البغدادي أن ذهب الى القدس لملاقاة صلاح الدين الايوبي الذي توفي عام 589 هـ 1193 م فاضطر للاقامة بدمشق حتى جاء العزيز عثمان بن صلاح الدين بعساكره من مصر وحاصر أخاه الفاضل بالشام وعند رجوعه الى مصر اخذ العزيز عثمان معه البغدادي وعينه أستاذا بالجامع الأزهر لتدريس الطب والفلسفة واستمر حتى توفي الملك العزيز عثمان في عام 595هـ وامتدت به الاقامة في القاهرة حيث حضر المجاعة الكبرى التي داهمت مصر وفي تلك الفترة الظلماء ألف البغدادي كتابه ''الافادة والاعتبار'' المجاعة والطاعون وتعكس فصول الكتاب مدى تقلب الأحوال من النقيض الى النقيض أبان اقامة البغدادي بمصر، اذ أوحى اليه رغد العيش قبل مجاعة عام 597هـ ان يكتب عما في مصر من نباتات وحيوان وآثار قديمة ومبان معاصرة ثم داهمته المجاعة وانتشار وباء الطاعون فافرد فصلا في كتابه عن احداثها التي امتدت في شهر رمضان عام 598هـ ولم تضع أوزارها إلا في شهر رمضان من عام 600هـ الذي انتهى فيه من تأليف كتابه ''الافادة والاعتبار'' ولما كان النيل كما استبان للبغدادي انه محور حياة المصريين ومناط عيشهم فقد اهتم بالحديث عن هذا النهر ومجراه ومواسم فيضانه ومنابعه، ثم تطرق الى ارض مصر وأشكال وأصناف تربتها وسبب خصوبتها واعتبر ذكاء المصريين وتوقد أذهانهم وخفة حركاتهم عائدا لحرارة بلدهم الذاتية لأن رطوبته عرضية• وبتمكن المتخصص في علم النباتات اهتم البغدادي بالحديث عن أنواع النباتات التي عد مصر متفردة بها أو متميزة في انتاجها وان جنح في بعض الأحيان الى اثبات اقوال العامة بلا تمحيص أو تدقيق كقوله إن شجر الموز في الأصل مركب من قلقاس ونوى النخل!! أما حديثه عن الأطعمة التي يحتفى بها المصريون في المواسم مثل رمضان فيعد تسجيلا دقيقا لما كان عليه حال المطبخ المصري آنذاك وان ذكر ان أهل مصر من العوام قلما يعرفون شيئا عن ذلك وأكثر اغذيتهم الصير ''السمك المملح'' والجبن ونحو ذلك ، وشرابهم البوزة وهو نبيذ يتخذ من القمح ومن العوام من يأكلون الفئران الصحراوية والحقلية عند انحطاط النيل ويسمونه ''سماني الغيط'' ومن بين الأغذية والأطعمة التي ذكرها ''النيدة وهي بمنزلة الخبيص حمراء الى السواد وهي حلوة قليلا وتتخذ من القمح'' وذكر البغدادي أن المصريين يتخذون الدجاج بأصناف من الحلويات ''وسبيل ذلك ان يسلق الدجاج ويرمى في الجلاب ''دبس البلح'' ويلقى عليه بندق مدقوق أو خشخاش أو بذر رجلة ''نوع من الحمص'' أو ورد حتى ينعقد ثم يتبل ويرفع وتسمى هذه الأطبخة بالفستقية والبندقية والخشخاشية والوردية وست النوبة هي التي تعقد ببزر الرجلة لسوادها'' ولكثرة ما يصنع في مصر من الحلويات المتخذة من السكر، وهي الشائعة في رمضان فقد اكتفى البغدادي بالاشارة الى استخدامها في التداوي من امراض المعدة وأضرب عن ذكرها لكثرة أصنافها حتى أنها تحتاج على حد تعبيره الى كتاب خاص واختتم حديثه عن الطعام بتفصيل طويل ودقيق لكيفية طبخ ''رغيف الصينية'' وهي أكلة تتألف من طبقتين من عجين الخبز بينهما خراف مشوية ومحشوة باللحم المدقوق ومعها فراريج وحمام متبلة جميعها ومزودة بالفستق واللوز• ومن حديث الرغد الى أحاديث القحط في عام 597هـ انتقل البغدادي صادما فذكر انه في عام ''597هـ'' دخلت المجاعة مفترسة اسباب الحياة وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الاسعار واقحطت البلاد وفي تلك السنوات العجاف شهد البغدادي شهر الصيام فرأى ما ليس له عهد به طوال اقامته السابقة في مصر، فمن أطعمة رمضان وأصناف الحلوى التي لا تقع تحت الحصر الى أكل الجيف ولحوم البشر بعد ما عدمت الاطعمة ويقول البغدادي: في رمضان عام 597هـ وجد بمصر رجلا وقد جردت عظامه من اللحم فأكل وبقي قفصا كما يفعل الطباخون بالغنم و''مثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته ولذلك تطلبه بكل حيلة وكذلك كل اثر من اثار الاطلاع على علم التشريح'' وهكذا لم ينس البغدادي مهنته كطبيب حتى في مثل هذا الموقف المأساوي بكل معاني الكلمة ويواصل البغدادي حديثه عن تعلق الفقراء في رمضان بأكل بني آدم حتى ان الناس كانوا يتناقلون أخبارهم ويفيضون في ذلك استفظاعا لامره وتعجبا من ندرة وقوعه ثم اشتد اشتياقهم اليه وضراوتهم عليه بحيث اتخذوه معيشة ومطية ومدخرا وتفننوا فيه وفشا عنهم ووجد بكل مكان من ديار مصر فسقط حينئذ التعجب والاستبشاع واستهجن الكلام فيه والسماع له وفي ذلك كله لاحظ البغدادي أن أكثر المتهمين بأكل لحوم الأطفال الصغار كن من النساء وأرجع ذلك لأنهن ''أقل حيلة من الرجال واضعف عن التباعد والاستتار ولقد احرق بمصر خاصة الفسطاط في ايام يسيرة 30 امرأة كل واحدة منهن تقر انها اكلت جماعة'' وقال البغدادي: ''رأيت امرأة مشججة الرأس يسحبها الرعاع في السوق وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شؤونهم لم أر فيهم من يعجب لذلك أو ينكره، فعاد تعجبي منهم اشد وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق ان يتعجب منه ورأيت قبل ذلك بيومين صبيا نحو الرهاق مشويا وقد اخذ به شابان اقرا بقتله وشيه وأكل بعضه'' وزاد من قتامة صور رمضان التي قدمها البغدادي في هذه السنة انتشار الوباء الذي أهلك أهل القاهرة حتى خلا معظم بيوتها وانخفضت أسعار المنازل لموت السكان وقد فنى أغلب سكان القرى في هذا الوباء حتى إن الأرض أقامت سنين ولم تجد من يزرعها سوى الجند وحسبما يذكر البغدادي فان حراث الأرض كانوا غير الزراع وان الذين قدر لهم ان يأكلوا من ثمر الأرض كانوا أيضا غير هؤلاء جميعا لتفشي الموت وذكر ان إرثا تعاقب عليه أربعة عشر شخصا بسبب توالي الوفيات خلال هذا العام
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©