الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما الذي تبقّى من غرامشي؟

ما الذي تبقّى من غرامشي؟
27 أغسطس 2014 20:40
* لا يزال غرامشي المثقف مثار جدل في الثقافة الإيطالية رغم مرور زهاء ثمانية عقود على رحيله * شهدت طروحاته عودة مستجدة في أعقاب سقوط جدار برلين لا سيما في أوساط الحركات المناهضة لليبرالية الجديدة * عبر غرامشي عن قطيعته مع الطروحات اليسارية التي تتعامل بمنطق حتمي جامد مع المجتمع * وفق المنظور الغرامشي للدين الذي عني بالمسيحية حصرا تبدو الكاثوليكيةُ أيديولوجيَا والكنيسةُ جهازاً أيديولوجياً لو قمنا بجرد لمقولات المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، السياسية منها والثقافية، على غرار مفهوم الهيمنة، والكتلة التاريخية، والأمير الحديث، والفوردية، والمثقف العضوي، والمثقف التقليدي، والمثقف النيوأكاديمي، والمثقف الجمعي، وحرب الحركة، وحرب المواقع، والثورة المنقوصة، والثورة السلبية وما شابهها، لتبيّنَ لنا أن جملة من مقولاته السياسية قد باتت في عداد المقولات المهجورة بموجب التقادم، في حين ما فتئ قسم من مقولاته الثقافية محافظا على حيويته وألقه. ما يبرر القول بتواري غرامشي السياسي وبقاء غرامشي الثقافي، ولعل ذلك ما حدا بالمفكر نوربارتو بوبيو (1909 ـ 2004)، للدعوة إلى إخراج غرامشي من حضن اليسار وتحريره من سطوة التعامل القداسي للحفاظ على ما تبقى من غرامشي، حيث لم تظهر مراجعات جادة لفكره سوى من خارج دائرة الأتباع، مثل ما قام به جوسيبي تامبورّانو وفرانكو لوبيبارو. أفول السياسي وألق المثقف وبالمحصلة لا يزال غرامشي المثقف مثار جدل في الثقافة الإيطالية، رغم مرور زهاء ثمانية عقود على رحيله. فهو بين قلة من الكتّاب ممن نالهم حظ وافر، دراسةً ومتابعةً، في الداخل والخارج. وفي إيطاليا وحدها نُشرت خلال السنوات الخمس الأخيرة أكثر من عشرة أعمال لكتّاب لامعين، عنيت بإرث غرامشي، نذكر من بينها مؤلفا جماعيا بإشراف غويدو ليغوري وباسكوالي فوزا بعنوان: «القاموس الغرامشي» (2009)؛ وجردا ضافيا بعنوان «غرامشي العالمي. دليل عملي للحضور في العالم» لميكيلي فيلبيني (2011)؛ وبحثا مدققا للمؤرخ لوتشانو كنْفُرا بعنوان «غرامشي السجين والفاشية» (2012). وفي نطاق رصد الاهتمامات بهذا المفكر، يورد أنجيلو دورسي في كتاب حديث الصدور بعنوان: «غرامشيات. دراسات حول أنطونيو غرامشي» (2014) أن غرامشي هو واحد من بين 250 كاتبا الأوفر حظا في العالم قراءةً وترجمةً ودراسةً. حيث كُتب عنه أكثر من 20. 000 نص، في أربعين لغة، مما بوأه الصدارة في قائمة الكتاب الإيطاليين منذ منتصف القرن الفائت. وإن دبّ بعض الفتور في تناول فكر غرامشي مع مطلع الثمانينيات، فقد شهدت طروحاته عودة مستجدة في أعقاب سقوط جدار برلين وتزايد النقاش بشأن العولمة، لا سيما في أوساط الحركات المناهضة لليبرالية الجديدة. وفي الواقع تضافرت عوامل عدة لتنسج أسطورة غرامشي ولتحوّله إلى أيقونة. حيث راكم خلال مدة وجيزة فعلا نضاليا وتأملا فكريا قلّ نظيره. أتى الفتى الحازم من الجنوب، وُلد في بلدة آلس الواقعة في جزيرة سردينيا، سنة 1891، ومكث بها إلى يونيو 1911، تاريخ ختم دراسته الثانوية ليلتحق عقب ذلك بجامعة تورينو في الشمال. لكنه لم ينه تحصيله الجامعي، جراء هوس مفرط بالنضال السياسي والعمل الصحفي لازماه منذ مقدمه إلى تورينو. انغمس الشاب غرامشي مبكرا في العمل الصحفي، متنقلا بين عدة صحف أبرزها «إيل غريدو» (النداء)، و«أفانتي» (إلى الأمام)، و«لورديني نوفو» (النظام الجديد). وقد بدا هذا الشغف جليا منذ كتابات الشباب، التي لاح فيها تأثره بالفيلسوف الإيطالي بينيدتّو كروتشي، الذي خلص إلى أن إحداث تغيير في إيطاليا رهين بالتعويل على الثقافة. يبين أنجيلو دورسي في كتابه المذكور، دواعي بقاء غرامشي، بين قلة من الكتاب اليساريين، محافظا على حضوره بعد انهيار جدار برلين، دون أن يطويه غمار النسيان، إلى نحته جملة من المفاهيم والتصورات، على صلة وثيقة بالثقافة والنقد والتحولات الاجتماعية، لم تفقد بريقها، وما برحت تغري كل من قارب الثقافة العصرية من زاوية نقدية. فقد كان مزجه بين الفعل الملتزم والتحليل الثقافي عاملا قويا في إعطاء طروحاته جاذبية ورواجا. الثقافة أداة للتغيير طور غرامشي مفهومه الأثير بشأن الهيمنة، وهو خلاصة تأملات سياسية وجدت ضالتها في الثقافة. ففي مجتمعات أوروبا الغربية، حيث المجتمع المدني متجذر، تبيّنَ لغرامشي أن الحركة الشغيلة ليس بمقدورها اكتساح السلطة عبر عمل ثوري خاطف، خالصا إلى أن فُرصَ التحكم بالنسيج الاجتماعي المدني متاحةٌ فحسب بواسطة عملية سياسية ثقافية متأنية، بما يتناقض جذريا مع المنظور اللينيني. وقد عبر غرامشي عن تشككه، أو بشكل أدق عن قطيعته، مع الطروحات اليسارية التي تتعامل بمنطق حتمي جامد مع المجتمع، من خلال دعوته إلى تجاوز استراتيجية حرب الحركة إلى استراتيجية حرب المواقع. وازداد تشبثه بهذا الطرح بعد صعود نجم موسوليني، وترسخ قناعة غرامشي بضرورة التحول من النضال الثوري إلى إنشاء كتلة مضادة للفاشية تضطلع بإزاحة تلك الهيمنة. وهذا المفهوم الذي صاغه غرامشي ـ حرب المواقع ـ بدا ضروريا جراء كون العالم البرجوازي، في إيطاليا وفي الغرب عامة، مطوَّقا ومحميا بسلسلة من التحصينات، أو «الثكينات» ـ كما يسميها ـ تمثل السند للمجتمع المدني. فالمقصود بالمجتمع المدني لدى غرامشي، هو ذلك الفضاء الطافح بالأحزاب والنقابات والمؤسسات والصحافة والجمعيات، أي العالم الثقافي والأيديولوجي الذي تتبلور فيه الرؤى والتوجهات. وفي سياق هذا التتبع لِسُبل الهيمنة عوّل غرامشي على دور المثقف في صياغة الأيديولوجيا، الأمر الحاسم ـ كما رأى ـ من قبل أي فئة تنشد التحكم بمفاصل المجتمع. وفي نطاق تعويله على الثقافة، صاغ غرامشي في «دفاتر السجن»، المؤلف الذي شمل خلاصة تأملاته، تعريفا شاملا للثقافة مرتئيا «ألا وجود لنشاط إنساني يخلو من التدخل الذهني، وليس بالإمكان فصل «الإنسان الفاعل» عن «الإنسان العارف»؛ بما يفيد أن كل إنسان، بمعزل عن وظيفته، يأتي نشاطا ذهنيا. فالفيلسوف، أو الفنان، أو الإنسان الذي له ذوق، يشارك جميعهم في إضفاء معنى على العالم؛ وبالتالي يساهم الجميع في تثبيت أو تحوير معنى العالم، أي في إثارة أشكال من التفكير المستحدثة». ويقصد غرامشي بالثقافة القدرة على تحسين وتطوير مواقف هي بحوزة الجميع، حتى وإن غفلوا عنها أحيانا. وقد حرص غرامشي كل الحرص على تجنب حصر مفهوم المثقفين في حدود الشرائح المعنية بهذه التسمية؛ بل تمديده إلى سائر الفئات الاجتماعية التي تمارس وظائف تنظيمية، سواء في قطاع الإنتاج، أو في قطاع الثقافة، أو في مجالات السياسة والإدارة. ورصد مواقفهم النفسية تجاه الطبقات الأساسية، إن كان لديهم موقف أبوي نحوها أو يعتقدون أنهم تعبيرة عضوية لها. وضمن ذلك الشمول للفعل الثقافي، ميز غرامشي جانبا «المثقف التقليدي»، الذي يعرض نفسه مستقلا عن الفئة المهيمنة وعن عالم الإنتاج. وهو صنف من المثقفين حاز وجاهته بموجب عدم موالاته أي تيار سياسي وتشكيله نخبة على حدة. ولذلك ارتأى غرامشي ضرورة استمالة هؤلاء المثقفين إلى صف الطبقة العاملة، التي تبقى في حاجة ملحة إلى كسب ولاء المثقفين التقليديين وفي الآن مدعوة إلى خلق مثقفيها العضويين؛ وفي مقابل ذلك «المثقف التقليدي» يقف «المثقف العضوي»، أي المرتبط مصيريا بالفئة الاجتماعية الرئيسية. حيث يتمثل معنى العضوية في المدلول الغرامشي في عدم فقدان الحس التاريخي بين النظرية والتطبيق، بين المفهوم والتاريخ، بين الواقع والفكر، والذي تغدو ضمنه طائفة الإكليروس في القرون الوسطى تجمعاً للمثقفين العضويين، لارتباطهم بالطبقة الإقطاعية المهيمنة. لكن هذا التقسيم الثنائي الشائع للمثقفين، لدى غرامشي، لم يلغ أصنافا أخرى يعجّ بها الوسط الثقافي، مثل المثقف العتيق (الكييريكي)، الذي فَقَد حريته لصالح موقف انتهازي، أو المثقف الأكاديمي الجديد (النيوأكاديمي) المتنصل من أي انتماء طبقي لصالح استقلالية شكلية. فالهيمنة هي تحكم طبقة بغيرها من الطبقات عبر عملية مراقبة ثقافية وأيديولوجية. يعارض فيها غرامشي مفهوم السيطرة القائم على القوة وينادي بمفهوم الهيمنة القائم على الإقناع. وبشكل عام، كان تبلور مجمل الرؤى الثقافية لدى غرامشي عقب إيداعه السجن (1927). فالثورة المنقوصة، والصراع الطويل بحثا عن الهيمنة، دفعا غرامشي للتأمل ليس كزعيم حزبي ولكن كسجين سياسي هذه المرة. عالج في دفاتره جملة من المحاور الفلسفية والتاريخية والأدبية إلى جانب تأملات في السياسة. فقد تناول بالتحليل والنقد دانتي أليغياري، وجوسوي كردوتشي، وبينيدتّو كروتشي، وفرانشيسكو دي سانكتيس، وجوسيبي غاريبالدي، ونيكولو ماكيافيلّي، وأليساندرو مانزوني، وبينيتو موسوليني، ولويجي بيرانديللو وآخرين. وفي سياق تأملاته تخلص غرامشي نسبيا من الأرثوذكسية الماركسية، في تعاطيه مع الفن والأدب مثلا. ففي رسالة إلى قريبته تانيا، عبّر لها فيها عن موقفه من «مآثر القديس فرانشيسكو الأسيزي»، خالصا إلى أنها «جميلة فنيا ومعبرة ومباشرة» ثم أردف قوله: «بأنها تبين تاريخيا قوة بقاء الكنيسة الكاثوليكية كتنظيم ثابت». حيث يميز غرامشي بين النقد الأدبي والنقد التاريخي السياسي، فارزا القيمة الأدبية للأعمال عن النقد الأيديولوجي الذي ينظر إلى المحتوى فحسب. فالحدث الفني يجري نقله من مستوى داخلي على اتصال بالروح إلى الواقع الخارجي. يقول غرامشي «الفنان هو من يتسنى له ترك أثر خارجي، مضفياً بُعداً موضوعياً وتاريخياً على تهويماته» (نقلا عن كتاب «الماركسية والأدب» لأنطونيو غرامشي، إعداد جوليانو ماناكوردا، ص: 103). فالنقد الأدبي لدى المفكر الإيطالي هو أداة لتحوير المجتمع، وبالتالي تحوير الإنسان ومحتويات إنتاجه (المصدر نفسه، ص: 66). غرامشي والكاثوليكية وفق المنظور الغرامشي للدين، الذي عني بالمسيحية حصرا، تبدو الكاثوليكيةُ أيديولوجيَا والكنيسةُ جهازاً أيديولوجياً. مثلت المسيحية البدئية حركة ثورية ونمطا لتعقل العالم والحياة، وتحولت مع كاثوليكية «الإصلاح المضاد» إلى حاجز أمام التطلعات التقدمية. فليست رؤية غرامشي للمسيحية واردة ضمن نسق مجرد لاتاريخي، على غرار رؤية قرينه ماركس، ولكن مختبَرة ضمن سياق تَطوّرِها الخاص وبحسب النسق التاريخي السوسيولوجي. ومن هذا الجانب ثمة ما يُستشَف من فكر غرامشي، في ما له صلة بالكنيسة والاشتراكية، أن هناك إمكانية لقطع الثنائي شوط معا، شريطة أن يتكاتف الطرفان ضد الاستغلال. صحيح أن غرامشي ينطلق من نقطة تضاد مع الميتافيزيقيا، مع ذلك لم يجحد ما للدين من دور في التاريخ البشري. وما يقتضيه واقع الأمر أن يخصخص كلاهما رؤاه الدينية، لكن نقدّر أن ذلك بمثابة الهدنة المؤقتة التي سرعان ما تنهار لطبيعة الاكتساح الماثلة في الطرفين، في المؤسسة الحزبية وفي المؤسسة الكنسية. وبالمثل صحيح أن غرامشي يبدي انتقادات للكنيسة، ولكنه يتوجه إلى نمط تاريخي محدد من الكاثوليكية، ويميز بين التدين النابع من المشاعر والمؤسسة الدينية التي تسعى إلى استغلال تلك المشاعر. حيث أبدى معارضة صريحة لاتفاقات اللاتيراني (1929) التي تنظّم الشأن الديني بين الفاتيكان وإيطاليا، والتي بات بموجبها موسوليني «رجل العناية الإلهية» كما سماه البابا حينئذ، وهو ما أدى إلى رهن مصير الدولة وإطلاق يد الكنيسة في الشأن الثقافي والتربوي مقابل دعم النظام الفاشي. الأمر الذي يتناقض مع الوعي التاريخي بالواقع الذي ينبغي أن يتحرر من كافة بقايا المفارقة واللاهوت، لا تجميده في مستوى الوعي السحري. ثمة مثلنة لغرامشي حولته إلى صنم، الأمر الذي حجب عن كثيرين مواقفه الخطيرة تجاه الديمقراطية مثلا. فقد كتب في «أفانتي» لشهر فبراير 1916 «الديمقراطية هي عدونا اللدود، الذي نستعد معه للمنازلة الدائمة. . . لأن الديمقراطية هي الأداة الرخوة في العربة التي تخفف من ثقل الحمولة على العجلات وتمنع الصدمات التي تسبب الانقلاب»، لذلك الديمقراطية هي زيفٌ ومصدر وَهْم، مفضلا الليبرالية لأنها برجوازية. وفي مؤلف لأورسيني بعنوان: «غرامشي وتُوراتي»، يخلص الكاتب إلى أن غرامشي كان «معلما بارزا لبيداغوجيا اللاتسامح في القرن الماضي» حيث ذهب إلى أنه الأب الروحي للألوية الحمراء، التنظيم المحظور إلى اليوم في إيطاليا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©