الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

"TOLERANCE" .. بوح "البرونز" في أبوظبي

"TOLERANCE" .. بوح "البرونز" في أبوظبي
15 نوفمبر 2018 00:43

كيف نميّز مَيَلان العشب الأخضر المحفوف بأصابع الشعراء، ونحن لا نملك سوى مرورٍ طفيف لنسمات مهاجرة؟ أي مطرٍ سيهطل بعواطفه علينا، ويحوّل رؤس العشب إلى قناديل ليلية، تحوّل قطرات الهتان، شموعاً للصلاة تنير المعتم، في رحابة العناية الإلهية؟

هنا النطفة الأولى لولادة ملحمة بصرية مع المنحوتة الدائمة الحاملة لعنوان «تسامح»، للفنان الفرنسي غاي فيرير. أغمضت عينيّ تأملاً، عبر 10 سنوات مضت، من احتفاء العاصمة أبوظبي، بـ9 قطع برونزية، شكلت رسائل سرمدية، تستنطق التعبير الإنجليزي «TOLERANCE»، وما العشب فيها إلا هالة طبيعية، ازدان بها معنى حضور الحياة في القطع الفنية. استذكرت قصيدة لجلال الدين الرومي يقول فيها: «آن تستلقي الروح فوق ذلك العشب، العالم متخم. أفكار، لغة، حتى جملة: الآخرون لا تعطي أي معنى». فكرتُ ملياً بما قاله الفنان غاي فيرير، عن امتلاكه قوة صناعة «رمز» عبر الفن، وتحويل البرونز إلى قصب ممتد من الناي، لاستمرار النفخ بموسيقى التلاحم والقبول والتنوير.

إشراقة رؤيوية
كل هذه المعاني، تستفز الخاطر وتستنفر المشاعر، عندما تعبر أمام ديوان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد العام للقوات للمسلحة، فتأخذك المنحوتات التسع، لكي تبحر في تلك الإشراقة الرؤيوية التي جعلت من صدارة الصرح الوقور مساحة لرؤية الوطن ونهج قيادته الحامل لمشروع التنوير والانفتاح والحوار.. والتسامح.
الانصهار التام، الشبيه بالخلاص من الغرق في موجة صغيرة تعبر قلب المحيط، هو إدراك حسي تجاه العمل الفني ككل، خاصة عند مواجهة تلك الوجوه في القطع الفنية التسع. رحت أنظر إليها، بتوتر طفل فاجأته صراعات الكبار، فلم يبد أي ردة فعل، كأني بذلك استعيد وصف الروائية سيمون دو بوفوار انتظاراً لشخصية «دييغو» في روايتها «المثقفون 1»: «ألا يكون المرء موجوداً في مكان، وألاّ يكون إطلاقاً، ليس ثمّة فارق كبير بين الأمرين». بالنسبة لي كان الفارق أمام المنحوتة مجدياً إذا ما استطعت جدياً التلاشي، والإبقاء على الصفاء بين الناظر والمنظور. فبين البعد المعرفي الذي يحمله العمل الفني، وبين ما أعتقد أني أعرفه، هناك بينهما فجوة، لا يمكن ردمها سوى بالاستعداد للدخول في تجربة مواجهة كل معتقد وفكرة وما تحملانه من مشاعر مبطنة.. فهل نحن -كما نعتقد- مستعدون للتسامح؟ وما هو المقدار الذي نحتاج للتخلي عنه، للوصول إلى التجربة الكلية؟ منحوتة «تسامح» تفتح جلّ إمكاناتها الفيزيائية/‏‏ المادية، للتدبر في أمر الإجابات، والولوج إلى آفاقها الفكرية والروحية كخطوة أولى نحو سلوك طريق التسليم للسلام.

إحدى القطع التسع في أبوظبي

حروف ومعانٍ
حرف «N»، ضمن سلسلة القطع البرونزية للمنحوتة، لافت في موقعه المنصوب على قاعدة بارتفاع 150 سم، حيث ترمي مئذنة المسجد القريبة، ظلالها بالتقاء شاعري مع صوت المناجاة اليومية. لها رائحة الغاف، وصبر النخيل على القطاف، يمر عليها المنادي بحيّ على الحياة، وتنبت من حرف «L»، أغصان بهيكل جذع يشكل حوالي 2 متر، بينما حرف «E» يضع في قمة رأسه هلالاً، يستظل تحته شخص يعزف بجلوسه الأخاذ، تراتيل الدهشة، الداعية إلى الصمت. أما حرف الـ«O»، فوقفتُ أمامه مدة أطول، لا أدري السبب الفعلي لذلك، إلا أن الأيادي المشبوكة في المنحنى الدائري؛ أعادتني لمنشأ فكرة الفنان غاي فيرير، لإنجاز هذا العمل، وهي الأحداث الإرهابية ضد المجتمعات المدنية، كمثل أحداث 11 سبتمبر، في الولايات المتحدة الأميركية، وقتها سأل نفسه غاي فيرير عما يمكنه أن يسهم به كفرد في صياغة معنى لخلاص العالم.. ليقرر قضاء مئات الساعات في البحث والتركيز لوضع شواهد حول مدن العالم تكون رسائل محبة وتسامح.
عند حرف «T»، تماماً، استشفيت الرسوخ الثابت، للقطعة الفنية، والتي تظهر مدى قوة تعبيرها عن رسالة «التسامح»، إلا أنني تنبهت للرؤى المختلفة، لمفهوم «التعبير» بالذات، ومحاولة الإجابة عن التساؤل العلمي والعملي عن مدى قدرة التعبير الذاتي على إحداث قبول مبدئي للاختلاف مع الآخر، أياً كان مستواه، أو طبيعة تكوينه الفكري. ومن المفارقات أن حرف الـ«T»، يبدأ من اليمين عند وقوف المتلقي في مواجهة مع العمل، ممثلاً بداية كلمة «TOLERANCE» المتموضعة مقابل مجمع المدارس في الشارع، بحس أقرب للمواجهة، بما يشي بإلزامية التخاطب المرئي غير المباشر، الضروري. فالمنحوتة لا تقل أهميتها عن أي حوار جاد ونقاش فكري، يمارسه الطلبة، في صفوفهم الدراسية. وأميل لصفوف الحياة الفنية عبر ما يسمى بـ «Public Art»، القادرة بروح بديعة على اختراق اللاوعي في الإدراك الإنساني. وسؤال المرحلة هو: كيف يمكن أن يؤثر مفهوم «التعبير» الاعتيادي، في مسألة ممارسة التسامح؟ والتعبير هنا يخص الطرفين، سواء على مستوى منتج عملية التعبير (الفنان) أو استجابة (المتلقي) لها.

المشاعر والتعبير
تتداعى من سلسلة «تسامح» النحتية، مجموعة من الأفكار. فهل تدفع طبيعة المشاعر إلى إنتاج أدوات «التعبير» عنها؟ هذا السؤال في موضوعة «التسامح»، يضعنا أمام تحدٍّ مختلف. فعلى سبيل المثال؛ يقول الدكتور ديفيد ر. هاوكينز في كتابه «السماح بالرحيل - الطريق نحو التسليم»، إنه «في حين يؤمن الكثير من الناس بالمجتمع اليوم، فإن التنفيس عن مشاعرهم يحررهم منها، لكن الواقع عكس ذلك، فالتعبير عن شعور ما، أولاً يزيده ويعطيه طاقة أكبر، وثانياً فإنه ببساطة يقمع ما تبقى من المشاعر ويخرجها من نطاق الوعي». ويضيف: «وقد درج استخدام آلية التعبير عن النفس كنتيجة لسوء فهم أعمال سيغموند فرويد وطريقته في التحليل النفسي، فقد أشار إلى أن القمع يسبب العصاب وعلى هذا تم الاستنتاج خطأً أن التعبير هو العلاج». ويفسّر هاوكينز بأن ما قاله فرويد في تحليلاته النفسية الأصلية هو أن المسبب أو الشعور المكبوت لابد من أن يتم تحييده وإعلاؤه، طارحاً بذلك البديل الأفضل للتعبير عن المشاعر السلبية في كتابه وهو: «تحمل مسؤولية مشاعرنا وتحييدها، وبهذا لا يتبقى سوى المشاعر الإيجابية للتعبير عنها».
والملاحظة الأعمق في الطرح السابق، هي إمكانية أن تكون المنحوتة الفنية، تعبيراً عن المشاعر الإيجابية، ولكن استجابة المتلقي للعمل تتراوح بين نسبية المشاعر الإيجابية والسلبية، اعتماداً على وعي المتلقي بمسؤولية مشاعره، والذي يتأثر بطبيعة الحال بمستوى قبوله وتسامحه وانفتاحه. فهل يساعد العمل الفني، فعلاً، في التخلي عن المشاعر السلبية، نحو الأحداث المؤلمة التي واجهت العالم، وغيّرت شكل التواصل والعلاقات بين الثقافات والأديان المختلفة. بين إمكانية ذلك وعدمه، هناك فرصة حقيقية لخوض التجربة نفسها، بالوقوف أمام الأحرف التسعة المكونة لمنحوتة TOLERANCE هنا في أبوظبي.
بعد المرور على القطع الفنية الوسطى من المنحوتة الفنية للحروف «R»، «A» «C»، يبدأ التجاوز التدريجي لموضوعية التفكير في العمل الفني، والانتقال إلى بعد آخر، فيما يخلقه (الحدث) غير المتوقع، في النقلات الإنسانية عبر التاريخ. فكل حدث مفاجئ ومتطرف، يخلّف أثراً كبيراً، وتفسيره المنطقي يبدأ بالتشكّل بعد أن يحدث، وهو ما يشير إليه الباحث نسيم طالب في مقدمة كتابه «البجعة السوداء- تداعيات الأحداث غير المتوقعة»، بقوله: «إنني أخرج عنقي مدعياً في وجه عدد من عاداتنا وأفكارنا، أن عالمنا يسوده التطرف؛ والغموض، وبعيد الاحتمال (أو بالأحرى بعيد الاحتمال وفقاً إلى معارفنا الراهنة)، وانصرافنا في معظم أوقاتنا إلى اللغو بتافه الكلام والأمور، مركزين على المعلوم، والمتكرر. وهذا يقتضي الحاجة إلى استعمال الحدث المتطرف كنقطة انطلاق»، وكأن الباحث يدعونا إلى توسيع خيارات الاطلاع على أثر فعل العمل الفني، في امتصاص صدمةالحدث المفاجئ، ودوره ربما في تجنب نشوء حدث غامض/‏‏ عشوائي آخر، والذي يتطلب عادةً مستوى عميقاً من الخيال، والتفكير بطرق غير متوقعة.

حرف T في منحوتة تسامح

رسالة أبوظبي
هارموني منحوتة «تسامح»، مبنية على لغة روحية مشتركة، تبناها الفنان غاي فيرير، الباحث في الأسئلة الجمالية، حيث توجد احتمالات متعددة لتشكيل كلمة «تسامح»، ضمن أيقونة متكاملة، فكل حرف لا يمكن الاستغناء عنه، ويحمل أهمية متساوية، لبيان المعنى. وكذلك فإن الثقافات المختلفة والمعتقدات الروحية لمجتمعاتنا، قادرة على العيش معاً، في حالة من التكامل، قوامها الاحترام المتبادل. ويتجسد ذلك؛ من خلال بقاء الفنان منفتحاً على كل ما تهديه إليه اللحظة الفنية من فيض الحدس السحري، الذي يخلق جواً من الغموض العظيم. وتبقى التفسيرات متاحة للمتلقي ومخيلته، في بحث التلاقي الذي سعى الفنان لبيانه على مستوى التقارب بين مختلف الديانات والحضارات حول العالم.
تمر السيارات، على مهل بالقرب من المنطقة القريبة من منحوتة «تسامح»، ويبدو وكأن الجميع حول المكان تسودهم حالة من الهدوء والتروي، فقررت المشي بخفة على جوانب العمل الفني، مستخدمةً ممراً للمشاة، كفراشة تحط على أطراف الزهر، بعد عناء سفر طويل، بين البساتين البعيدة.. لمست الأطراف الجانبية، للمجسمات، واقتنعت أن العناية بتفاصيلها، أكثر تأثيراً من مشاهدة شخص لنفسه في المرآة. عندما بدأ العامل الزراعي بريّ العشب المحاذي للمنحوتات الفنية التسع، ألقيت عليها السلام، واستمررت في النظر إلى كل شيء، بحثاً عن تقارب وجودي يجعلني أكثراً قبولاً وتسامحاً ومحبة. سألت نفسي عن قدرتي على تحمل مسؤولية مشاعري السلبية والإيجابية معاً، وهل يمكن أن أنتج إبداعاً يدعو إلى السلام؟ أم تكفيني ابتسامة حانية، أرسلها لأنامل العامل الزراعي، وأخلق من الامتنان لحظة آنية للجمال.. تحتدم في الصدر، وتندفع إلى العالم لكي تقول: من هنا، من أبوظبي، ندعوكم لتسطير رسالة مشتركة نبعثها لمن يعيش معنا ولمن يأتي بعدنا، عنوانها: TOLERANCE.

رسالة إماراتية إلى العالم
الفنان العالمي غاي فيرير (1955م)، عمل بشكل أساسي في فرنسا. قدم منحوتة «تسامح» ضمن سلسلة من تسع قطع، أقيمت بشكل دائم عام 2008، في العاصمة أبوظبي، ممثلة رؤية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله ورعاه، في أن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة مركزاً حضارياً للحوار الثقافي العالمي.
وقد وضعت المنحوتة عند مدخل ديوان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لإثراء مكامنها العالمية، والتأكيد على رسالتها السامية، النابعة من القيم المجتمعية لدولة الإمارات.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©