الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصحراء.. هنا يتراكَم العدَم

الصحراء.. هنا يتراكَم العدَم
5 أغسطس 2015 22:00
الشذرة الأولى «شيء عظيم أصم، يجوب العالم بنشوة غامرة... متقصياً فوق الرمال، آثار روحي الهائمة.» «سان جون بيرس – منفى» تتلاشى الصحراء في الليل، ويلف الظلام الدامس جميع الأشياء. أما الفضاء فسرعان ما يختفي ليعاود الظهور. ويتغلغل الرمل في كل شيء: ثنايا الملبس والمنخر والحلق والصدر. ندنو من العدم، ويتيه المنطق، ويضحي المناخ تارة ضاراً، وتارة أخرى جافاً، كما لو أنه استحال خطاً عمودياً من آثار وأخاديد وبقايا أشياء. يستعصي اللون المتدرج على التحديد الدقيق: إنه أسود يميل للزرقة، أو لعله أسود ضارب إلى البنفسجي، أو على الأرجح باذنجاني. وتتصادم الرياح كعصافير شرهة و زاعقة تحلق على نحو أكروباتي كمجموعة من البهلوانات أعمتها رشاقة حركتها، فتذوب في روائح نزقة يغمرها السُكَّر في الحدائق الصحراوية. ولطخات مساميّة وحبيبيّة تعلق بالجلد فتشققه برشقات حانقة. هنا يضحي للرمال في الجيب مذاق الكارثة، لأن الصحراء كارثة حقيقية، ما أيسر أن يتمخض عنها نوع من الميتافيزيقا الحزينة أحياناً، أو الناجعة أحياناً أخرى. وفي الحالة الثانية هذه تهيمن على الذات المفتونة نشوة غامرة تصل إلى حد الشفافية المطلقة. إنها شفافية ناصعة، نقية، متطرفة أو تبتية (1)... الخ. لكن الصحراء هذه ليست مجرد كلمات حذفت من جملة، بل إنها مجموعة كاملة من الحروف الهيروغليفية التي يتعذر وصفها، ناهيك عن فك طلاسمها، فهي تتبدل على نحو يصيبك بالدوار، كما لو كانت مخطوطة من الرَّق تنمحى وتكتب، وتفرغ وتملأ ذاتها. إنها شيء قائم بذاته بفضل قانون مبهر ومؤثر في الوقت ذاته. إنها تتمدد في شكل دائري يستعصي على إدراك أي بوصلة ويتعذر على أي خريطة أن تسبر أغواره. وهناك دوماً تلك المجسمات المعقدة التي تشبه شبكة متداخلة من ظواهر تجريدية، ومن عناصر معدنية تحمل في طياتها تكلس العالم، واستعصاءه على القياس، بحيث يضحى كل شئ ضئيلاً وباهتاً: قوافل الجمال الهاربة من حر يوم أخرق، إن جاز التعبير، وشجرة نخل وحيدة منعزلة ضئيلة، وظلال عابرين نحيلة فوق الكون أو تحته. صحراء ينعدم فيها المكان بفعل أشياء بازلتية هنا ومسامية هناك وشقوق وتصدعات وتقاطعات جليلة تحمل في أحشائها رائحة الغياب والعدم والألم – وعلى الأخص تلك الرائحة للغياب! تتم الحركة هنا بالنزر اليسير من الأشياء والإيماءات عند حدود اللايقين، حيث تتقلص الأجساد إلى ما لانهاية، كما لو أنها أصيبت بنوع من الهزال أو الدوار نتج عن دولاب ساعة مائية صدئة تشير إلى اختلال القياس عند اصطدام المشرق بالهلال البازغ الذي ينير وميضه سواد الليل الصحراوي أو المقفر أو المتصحّر. ينحدر الزمن ليصطدم بمنحنى افتراضي لكنه يتحرك سريعاً. والرياح العاتية تعصف في الخارج وفي الداخل. لحظات تمر متباطئة حيث تتناول النعاج المذعورة صوفها، وحيث تضرب الرياح العاتية الجو وتثقب الوجوه. وآثار رمال زرقاء ضاربة للخضرة تتمدد في شكل إهليلجي من أسفل لأعلى، راسمة خطوطاً متقاطعة على سطح الأرض، التي تأخذ في البرودة والاضطراب بفعل انعكاسات كثبان الرمال اللامرئيّة. هذه الصحراء كم تستعصي على الوصف! وكم تضللنا، وتعرينا وتبعدنا عن مكاننا! إنها تخدع كل هواجسنا وكل خططنا وكل حيلنا. نقف إزاءها ذاهلين مأخوذين وساخطين في الوقت ذاته! يمتد الأفق الأعمى بوميض ما ويفلت من العدم بين اللونين البرتقالى والأصفر، رغم جفاف الهواء المزمجر. خليط أشياء وأقدار مؤثرة لقوافل الزمن العتيق. محض آثار أطلال هنا وهناك. بصمات تاريخ مضطرب: طرق الملح، وطرق الذهب، وطرق العبيد، يا لهول كل ذلك! طرق حاكتها يد القدر، لكنها لا تقود إلى أي مكان. هكذا الأمر: الصحراء طريق مسدود. وعندما تهبط الرياح العاتية تضحى الصحراء في حد ذاتها مرادفة للسكون، ذلك السكون الصاعق... ويقيم هذا الغياب عند نهاية بضع آلاف من السنين ساكناً عُرْي الأرض الشاخصة المنبسطة والمتصلبة. عبر هذا التاريخ الأكثر اضطراباً، من الناحية العسكرية المجردة، وهو تاريخ طويل عريض، نجد أيضا جملة اعتراضية من أمجاد وكوارث نرى من خلالها بقايا عظام موتى وآثار صخور وتلال صلبة، تجعلنا نفكر في مجسمات ساخرة من عدم مُجَّعَد رخو مستدير يضرب إلى اللون البنفسجي، كحصى ضخم منثور على الشطآن، كنوع من المعادن المجهولة أو الشخصيات المجهولة في ذاكرة نوميدية لا تتوقف عن الحركة ولا تتوقف عن التقاط الأشياء. «إذا كانت الصحراء فضاء يجد المرء فيه نفسه وحيداً حيث يمكنه آنذاك أن يتعرف على ذاته إلى جوار أحجار الصوان وخيوط الضوء لذلك التيار السري الذي يربط المعدن بالإنسان، والإنسان بكواكب المجرة البعيدة، فإن أصغر عصب بداخلنا، وأصغر حرف من حولنا يكتبنا ويميط اللثام عنا. وأبسط تدرج لوني بين الأصفر والبني يجعلنا نبوح بطبقات من المعادن الكامنة بداخلنا»، (لوران جاسبار، الحالة الرابعة للمادة). الصحراء: ارتحال وعودة للعلامة ذاتها نحو توقف متهور يتحطم فيه الزمن ويحل التيه وتنمحي آثارنا الخاصة.إنه التكلس، لكن من قال إن الصحراء حارة. لقد ذكر الماريشال ليوتي الذي غزا المغرب أن الصحراء قارة باردة تستطع عليها شمس حارقة. في الليل يسيطر الخواء حيث يعترينا الإحساس بأن شيئاً ما قد اختفي بغتة. ما أقسى ذلك! أهو الحر الذي يختفى ما أن تتلاشى الشمس؟ إحساس (أو حس أو شعور؟) بانعدام الاستقرار، كما لو أن المرأ يتلمس الألق الذي يتهشم كبلورة ثلج... الشذرة الثانية ينتظر الحكيم ميلاد التشققات، والسماء ساحل تمخر عبابه، قوافل الصحراء بحثا عن الملح. «سان جون بيرس – منفى» في النهار تضحى الصحراء محيَّرة. إنها انقلاب كونيّ: تراكم وحمل زائد وتفكك في الوقت ذاته. تشبه كثبان الرمل والتصدعات والجبال الصخرية (2) صخب كوني لا يطاق. إنه انقلاب لا يصدق للجغرافيا والجيولوجيا والطبوغرافيا. ما من مكان تضحي فيه الفوضى أكثر فوضوية من هذا المكان، ثم تأتي هذه الهضاب الصلصالية (3) الرملية بوهادها السحيقة، وأحجارها البازلتية، التي تشبه فيلاً أصابت جلده التشققات والتجاعيد. في النهار كذلك نرى الإبل في الأسفل تحدو وسط كثبان الرمل الزعفرانية اللامعة. كأن الأمر كله محض خيال. أهو جمود متصلب؟ مع أن الحركة المتّئدة والمتزنة لا تدع مجالاً للشك في أن كل شيء يتحرك. أهي صورة ساكنة؟ حيث لا يمكن أن يباغت الموت أحداً. معابر سبخة كأنها من جليد رقيق! تثير حوافر الإبل غمامة صغيرة من الملح المتسخ الضارب إلى الخضرة. أطياف ممزقة تحت سعير الشمس اللافحة. إنها لحظة تضحى فيها كل الصور والمشاهد والمخططات مستحيلة مثل اقتفاء أثر علامة صفراء في عمق الهواء. أهي متحركة؟ أهي ساكنة؟ لا يمكننا البتة أن نعرف. ورويداً رويداً تتضاءل الأشياء، وتتحول إلى هياكل. الظلال تضحى أنواعاً من الهياكل كتلك التي يرسمها جياكومتي (4) في لوحاته: نحيلة متقطعة ومسحوقة. إنها تشبه رصاصاً يتم تسخينه حتى يبيض لونه ليغمر بعد ذلك في ماء مثلج فيتشكل على هيئة منحوتات وهياكل وما إلى ذلك. في مكان ما نرى ذلك العدم حيث ندرك لماذا يبحث المرء عن وجوه الآخرين وعن بقاي قبل أن يرخي الليل سدوله نمر بلحظات (أو لحيْظات؟) بنفسجية لا يكاد يبصرها الباحثون عن المألوف. أشمس تشرق أم تغرب؟ ما الفرق؟ لا شئ. شذرات بيضاوية لأشياء وخطوط وعلامات وسراب عند حدود الألوان الداكنة. لكن في كل ما حولنا طبوغرافيا متوهجة بنوع من التمدد المفرط ولكن برتابة متناقضة. ظلال كأنها لوحات صوديوم جامدة، وتتابع من الأماكن المحصنة (5) التي تبدو ناتئة، منحرفة عن محاورها، وفي غير موضعها. بيارق حمراء سامقات ومنحدرات تستحيل زرقاء بغتة. كثبان العِرق (6) (الكبير أو الصغير لا فرق هنا كذلك) مموهة وباهتة تذكرنا بانعدام المعنى. وبعد ذلك لا شيء، حتى في أوج النهار! أحياناً ما تكون الصحراء في حالة تلاشٍ أو تبخّر أو كسوف، لكنها تعود ثانية. إنه خلود الأحجار اللامعة والبازلت والكوارتز والصلصال. يبدو العالم لامتناهياً على مد النظر، كأنه بقايا حمم بركانية مهملة ومجهولة الهوية لكن هناك نوعا من الألفة خلف تلك الوجوه المستترة. ولعل مرد ذلك رهبة الخواء الذي يمتلئ لايقيناً بفعل عوامل التعرية. صمت! عدم! إلا من مذاق طبشوري يذكرنا بطباشير مدرسة ابتدائية وبحنين غابر لطفولة مثابرة ضجرة. خطوط متتالية، واستدارات لمنحنيات وأقواس. فجوات صخرية تنبجس منها بعض لترات من ماء أجاج. يا لها من معجزة! تتفكك العلامات وتسقط الهندسة متهاوية. اهتزاز للرموش والبثور الجلدية المتفسخة بفعل التعفن. أما الهواء فتكاد تحس من فرط جفافه أنه شيء قائم عمودي! هنا توقظ الكثافة المطلقة للصمت وللثقل والسكون، ذكرى شفافة كالزجاج. قماش رقيق شفاف يغلف المنارات المخروطية وأضرحة الأولياء الضيقة. أثر بليغ. بيوت دمى وبيوت ورع في مكان لا يحتاج المرء فيه للبحث عن الله. في صحبة هذه القباب الناصعة البياض أو الزمردية (النيلية) اللون قد نخشى وقوع كارثة زلزالية: هزة تنصهر فيها الأحجار الطبشورية مع البازلت في حركة دائرية. ما أروع ذلك! إنه موت زلزالي أو انهيار مدو. للكون، يليه اختفاء كابوسي للآبار على وقع إيقاع الجمال المتّئدة الحركة، أو على إيقاع سيارات الدفع الرباعي التي يتصاعد معها ذلك التراكم العدمي. ذلك التعطش القاسي العنيف للماء الذي يحدث عند رؤية تلك الآبار التي قد نصطدم بها بغتة، من دون أدنى تكهن، وبطريقة عفوية تثير ضحك البدو الرحل والنساك والباحثين عن الأفاعي أو النحل الغافي المخاتل. استعداد للهروب أو هجرات أخرى إلى أماكن أخرى إلى جوار منحدرات متموجة وفحمية تخضر التلال فيها على نحو شحيح. عندما يحل الشتاء هنا تتفتت الحجارة وتتحول إلى آثار مسامية وإلى طباشير ملونة، إلى ألعاب مكعبة صلصالية وصبيانية. آنذاك يهيمن اللون الخبازي على الصحراء حيث تنفرج أصابع اليد لترصد الشمس. لقد استخدم هيرقليطس (7) هذا المقياس الشمسي ليقيس الشمس بقدميه دون أن يفتح أصابع قدميه... وقد قلده في ذلك جان سيناك: (8) «الصحراء شريط عريض يشتعل/ والرماد يتشرّبنا حتى قبل أن نبلغ الشمس.» (سخرية ودوار). كإغواء ينقلب فيه العالم رأساً على عقب، وتضحي أقاصيه حدوده. إنها حدود ضيقة في النهاية كخفر امرأة تتعرى لتكتشف أن ردفيها قد صنعتا كذلك من صلصال ككثبان الرمال. وعندما يصل الإعجاب بالذات ذروته عند التعري الكامل تتحول الطرقات إلى عتبات تم محوها منذ برهة من الزمن. الصحراء إذاً امرأة بأشكال ماجنة. الشذرة الثالثة «أقف عند ألق النهار الساطع، على عتبة بلاد شاسعة كالموت، الفتيات تتبولن مزيحات أثوابهن المزركشة.» «سان جون بيرس، أناباس» الصحراء ترنيمة ليلية كذلك. إنها ترنيمة لأهل الليل الذين ندرك، عندما نصغي إليهم وعندما نشاهدهم يرقصون، لماذا ينبغي علينا أن نبحث عن معنى العالم: «أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان/ فإن مدى المتبقين من العصر الحجري تطاردني»، (مظفر النواب، وتريات ليلية) (9). «يا عين وجودي وهممي/ يا منطقي وعباراتي وإيمائي... محو ذاتي... أنا الحق.» (الحلاج). لنبحث إذاً عن معنى، لا يهم كنهه. لعل الصحراء هنا هي المعنى ! أهل الليل الصحراويون: نشوة متسامية على طريقة الحلاج، حيث يوقف الصوت مرور الزمن ويحطم الفضاء. حركات الراقصين العشوائية، أو سكونهم، تمحو إحساسنا بالذعر الذي يتولد من رحم تلك البلادة التي نشعر بها في مواجهة طلاسم الصحراء التي تقهر كل ما فينا. يا له من ذهول! ويا له من ترنح! أو بالأحرى ما كنه ما يعترينا؟ ويا للمدن كذلك! كأنها بنيان مرصوص من هياكل الواحد فوق الآخر، لكن بتنوع يتركنا حيارى. ذلك المعمار المائل، وتلك المئات من القباب اللامتناهية على مد البصر. وتلك المباني التي تتحدى ثقلها، وقد صنعت من أشياء مثقوبة ومن كلس أبيض أو صلصالي اللون، وتلك الهياكل الغربالية بأسقف بيضاء، وأسقف زرقاء نيلية، وأسقف صلصالية اللون وتلك الحوانيت المزركشة المتشققة! تقابلها واحات نخيل تبدو أكثر اخضراراً عند مقارنتها بلون الرمال الزعفراني، ولون المباني البيضاء، ولون السماء البالغ الزرقة. كأن المشهد كله لوحة معدنية صلبة لا تهزها الريح. وفي المقابل كذلك نرى تلك البحيرات المالحة (10) كأنها أوراق براقة لانهائية. إنها البقايا الدرامية لبحيرات الماضي السحيق. يصل الماء إلى بعض الواحات عبر مجار يصل طولها إلى مائة أو مائتي كيلو متر. والمفارقة أن هذا الماء الجوفي يمر فوق البساتين المروية. إنها مجاري مياه قام بحفرها منذ قرون عدة السخرة تم جلبهم من السودان، ومن مومباسا وزنجبار (11)، ومن أماكن أبعد من ذلك. ومن خلال هذا الاختراع الجبار، الذي ابتكره أحد الضالعين في الجيولوجيا أو الهندسة أو أحد من يمتلكون مصادر المياه نجد قنوات المياه تمر عبر طبقات من صلصال، ومن صخور بركانية، ومن أحجار مصمتة. قنوات تمر على نحو مخاتل متعاكسة مع بعضها بعضا من الشرق إلى الغرب. إنها قنوات تشبه الأمشاط المشغولة بعناية فائقة وتتداخل مع بعضها بعضا على نحو يستعصي على الفهم. ومن خلال هذه الهياكل الممزقة الأوصال يتم توزيع المياه على كل حديقة مهما صغر حجمها من خلال نظام ري متناهي الصغر، يتسم بتفرعات متشابكة ومتداخلة بطريقة معقدة على نحو حاذق لا يصدق، وإن كان يستند إلى أسس رياضية. انظر إلى تلك المباني الحصينة بمناراتها النحيلة والمريبة في آن. يا لها من هندسة مسحورة ويا لها من بساطة أخاذة في الوقت ذاته. كمنارات استطلاع ترصد الصحراء المحيطة بكثبانها العملاقة التي لا تتوقف عن الحركة. ما أن تشكلها الريح حتى تذروها مخبئة وراءها الطرق القديمة لنقل الذهب والملح والعبيد، وهي طرق يستحيل اقتفاء أثرها. مبانٍ حصينة على قمة العالم شادها على مر القرون لاجئون من البربر والعرب والزنوج والأندلسيون الذين لجأوا إلى الصحراء طلباً للهرب، أو طلباً للاختلاط أو لبناء تلك النماذج المعمارية التي يقف أمامها العباقرة مشدوهين. الصحراء هي عدن والفردوس معاً، كما يرى ماتيس (12). بغتة وبعنف وقسوة، وشهوانية أيضاً، تحل العتمة سريعاً على تلك البساتين الصغيرة التي تحيط المباني الحصينة. آنئذ يبدو الأفق للناظر وقد (دنى فتدلى)، لكن ما أبعده في الوقت ذاته! والشمس تبدو كما لو أنها تسقط من السماء كحصاة حمراء ضخمة متألقة تتشظى على الأرض إلى ألف قطعة، من دون أن تخلف في السماء سوى بضع أثر من ألوان برتقالية، زرقاء، كطلاء من كلس أبيض مستقطر من الميثلين، (13). كرواسب لون أسمر ذهبي أو رخامي مصقول. تتناثر رواسب الشمس والسحب بالغة الخفة (أقماش شفاف من حرير؟) رويداً رويداً كأنها رواسب عكرة تنثال في خواء كون يشبه بقايا العظام أو بقايا هياكل موتى. عندئذ يعترينا إحساس بأن المشهد كله ما هو إلا قطع إهليليجي يلخص الكون بكل ما فيه من شمول وأصالة وجسارة. تخرج طيور الصحراء آنئذ من خدرها وعزلتها لتنتشر في الفضاء يغمرها إحساس بالفخر والابتهاج. إنه انتشار يفوق كل خيال. تحلق طيور الصحراء في عنان السماء بسكون ناثرة أجنحتها على نحو متصلب وكأنها ثملة، أو كأنها تود أن تتحدى تلك الغمامة التي لا تنتمي إلى النهار أو الليل. لعلها تخشى أن تلتهمها تلك الغمامة بين عشية وضحاها. تبدو أعناق الطيور كأنها معلقة على حبال صوف يتكون منها الأفق الهش في ذلك الوقت المريب. يا له من أفق رقيق نحيل. يخلف ريش الطيور الصحراوية، ذو الألوان الزاهية/ المنفرة، الباذخة/ المنذرة بالشؤم، يخلف وراءه آثاراً متبخرة حيناً، مغبرة حبيبيّة، وقشرية أحياناً أخرى. ثم تأتي العظايا. عدد لا يحصى من العظايا والسمندلات والسحالي من كل صنف وصنف تغزو حوائط وأسوار الواحات والأماكن الحصينة وكأنها قد خرجت من عدم. تنتشر على نحو استراتيجي، تظل ساكنة لبعض ثوان أو دقائق أو ساعات لتصطاد فريستها ونظراتها خاوية مهددة، وأجسامها ساكنة لا تتحرك على نحو جنوني. لكن ما أن تمر إلى جوارها حشرة حتى تلتهمها التهاماً، لتعاود سكونها المتصلب من جديد. إنه سكون معدني تزيده حدة الضوء قسوة، فتصل حدقة العين إلى الغليان، فتنعدم القدرة على القياس في مكان كل شيء فيه متواضع ومثير للرثاء! رشفة ماء، أو قدح من الشاي، أو قرص من الحلوى، أو بضع تمرات جففتها رياح السموم أو رياح الخماسين أو... أن نحيا هذه الحياه المعدنية هنا، يعني أن نعيش في داخل ذواتنا، يا لها من ذوات خاوية... ----------- الحواشي 1- نسبة إلى منطقة التبت في الصين. والتبت هي أعلى منطقة على وجه الأرض بمتوسط ارتفاع 4900م. 2- هضبة من الصلصال الرملى (الحث) Tassili. وهي سلسلة جبال شاسعة في الصحراء الجزائرية تقع في جنوب – شرق الجزائر على الحدود الليبية – النيجرية. 3- سلسلة جبال الهقار أو الأحجار Hoggar هي جبال صخرية تغطي مساحة 72000 كم2 في وسط الصحراء في جنوب الجزائر بمحاذاة مدار السرطان. تقع على بعد حوإلى 1500 كلم من العاصمة الجزائر. 4- ألبرتو جياكومتي (1901 – 1966) رسام ونحات سويسري مشهور. تلقى تعليمه بكلية الفنون الجميلة بجنيف، ودرس كذلك بباريس ابتداء من عام 1922 على يد النحات أنطوان بورديل وهو أحد تلاميذ النحات الفرنسي الشهير أوجيست رودان. ويعد جياكومتي من أعمدة المدرسة السريالية، وإن كان الكثير من النقاد يرون أن أعماله تستعصي على التصنيف الدقيق. 5- في النص الأصلى Ksour وتكتب كذلك Ksar وهي كلمة عربية الأصل قصر/ قصور. وتكتب في اللاتينية castrum وتعنى المكان الحصين في شمال إفريقيا. وقد دخلت كلمة ksour إلى اللغة الفرنسية عام 1844. أما كلمة ksar فقد دخلت إلى اللغة الفرنسية عام 1849. 6- العِرق الغربى الكبير Grand Erg هو ثاني أكبر عِرق في شمال الجزائر، وهو منطقة كثبان صحراوية تخلو من القرى والطرق المعبدة. وكلمة عِرق تعنى حقل من الكثبان الرملية في الصحراء. ويغطي العرق الغربي الكبير منطقة مساحتها حوإلى 600 كم2 7- هيرقليطس من أفسوس (حوالي 535 ق. م. حوالي 475 ق. م.). فيلسوف يوناني اشتهر بإصراره على فكرة التبدل الكوني الدائم، وقد تمثل ذلك في مقولته الشهيرة: «لا ينزل المرء إلى النهر مرتين» وقد آمن كذلك بفكرة وحدة الأضداد قائلاً: «الطريق إلى أعلى وإلى أسفل طريق واحد»، بمعنى أن كل الأشياء الموجودة إنما هي ثنائيات من خصائص متناقضة. 8- جان سيناك (1926 – 1973) شاعر فرنسي ولد في قرية بني صاف بمنطقة وهران بالجزائر، وقتل عام 1973 في الجزائر العاصمة. كان صديقاً لألبير كامو، كما كان معتزاً بجنسيته الجزائرية التي حصل عليها. تغنى في قصائده بالثورة التي آمن أنها ينبغي أن تؤدي إلى تشكيل عالم جمالي في جزائر منفتحة على كل الثقافات. 9-الترجمة الفرنسية في الأصل غير موجودة في وتريات ليلية لمظفر النواب. أقرب أبيات شعر لمظفر النواب في هذه القصيدة: «أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان/ فإن مُدي المتبقين من العصر الحجري تُطاردني « إنظر: مظفر النواب، الأعمال الكاملة، فاروس للنشر والتوزيع، 2011 (وتريات ليلية، ص ص 151 – 242). 10-يستخدم المؤلف في الأصل كلمة chott. وهى كلمة ذات أصل عربي تشير إلى البحيرة المالحة (على الأخص في شمال إفريقيا). والأصل العربي هو «شط» أو «غوط». وقد دخلت الكلمة إلى اللغة الفرنسية عام 1846م. 11- مومباسا هي ثاني أكبر المدن الكينية، ويصل سكانها إلى حوإلى مليون نسمة. تقع على الساحل الشرقي لكينيا. وقد زار الرحالة الشهير ابن بطوطة مدينة مومباسا عام 1331. يعود تأسيسها إلى عام 900م. وذكر الإدريسي أن المدينة كانت تعج بالنشاط التجاري في القرن 12م. أما زنجبار فهي أرخبيل من الجزر يتبع تنزانيا في شرق أفريقيا، وقد زارها التجار العرب والبرتغاليون، كما سيطر عليها العمانيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلى أن أصبحت محمية بريطانية عام 1890، وأصبحت سلطنة مستقلة في ديسمبر 1963، لكنها انضمت إلى اتحاد تنزانيا في اكتوبر 1964. 12- هنرى ماتيس (1869 – 1954) فنان ونحات فرنسي. انتمى في بداية حياته الفنية إلى المدرسة الوحشية، وهو تيار فنى ظهر مع بداية القرن العشرين لكنه لم يستمر طويلاً. وقد ظهرت أغلب أعمال ماتيس الفنية الشهيرة بين عامى 1906 و1917. من أهم أعماله لوحات «حدائق لكسمبورج» و»العري الأزرق» « والبحار الشاب» «والرقصة» و»نافدة في طنجة». 13- المثيلين méthylène جذر هيدروكربونى ثنائي التكافؤ مشتق من الميثان. وتشير الكلمة كذلك إلى أزرق الميثيلين Bleu de méthylène وهو كحول مستقطر من الخشب. .............................................. * هذه ترجمة كتاب: Rachid Boudjedra, Cinq Fragments du Désert, L’ Aube, Paris, 2002. ** أستاذ باحث بمعهد لشبونة الجامعي، لشبونة، البرتغال تابع شذرات الصحراء على عتبة بلاد شاسعة كالموت الشذرة الرابعة «سوف أواصل طريق ارتحالي صوب البحر السرمدي» «سان جون بيرس – منفى» ليست الصحراء قفراً على الإطلاق، فهناك بضعة مساجد لا تفضي أدراجها إلى شيء، إنها أدراج لا فائدة منها إن لم تعرفنا على الله. لكن تلك الأدراج تعد آثاراً عبقرية لأباطرة وفاتحين مقدسين، بمعنى من المعاني. لذا فالصحراء ليست محض قفر، إنها التعبير السيزيفي (14) عن الكون، حيث يزرع الناس الخضروات في آبار من الضوء والرطوبة على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض. إنها مكان شاسع، حيث يعرف المرء المعنى الحقيقي لكلمة الخصوبة. لكنها كذلك مكان سيزيفي، حيث يصارع الإنسان بلا هوادة الرمل الذي تثيره الرياح! هنا الرياح مؤنثة ومذكرة في الوقت ذاته. إن لها تقاليدها الراسخة: واحد، ثلاثة، ستة، تسعة. قد تهب يوماً واحداً، وإن كان ذلك أمراً نادر الحدوث، ونادراً كذلك ما تهب لما يزيد على تسعة أيام، لكن عندما تهب يشكل الناس سلسلة مترابطة، ليلاً ونهاراً، لإزاحة الرمال عن الآبار والزراعات الوافرة الملتفة على نحو حلزوني. دورات متعاقبة من نهار ومن ليل. ليل الصحراء شهواني وحسي وماجن، بأقمار تشبه القباب البراقة الزجاجية التي تقارب حبات الكريستال. إنها الحياة التي يجدر بنا أن نحياها، حياة تضفي على العالم رغبة شعرية، لا سيما عند اكتمال البدر، حيث تبدو النجوم وكأنها سوف تسقط على سبابة اليد. أهي السبابة اليمنى أم اليسرى؟ ما أهمية ذلك ! يا لها من صحراء شفافة لا تمتلئ بالنخيل فحسب، بل بآلاف الأشجار الأخرى، من كل نوع وصنف. أشجار تغمر الطيور الرشيقة، العذبة، الأبنوسيّة، المزركشة، المبرقشة الثرثارة التي تلجأ إليها باستمرار. إنه ألق الضوء الذي لا يضاهى لبعض لحظات بالغة القصر. ثم تأتي تلك الإغفاءة للطيور، فتضحى حذرة، مرتعبة، زاعقة، متذمرة، فظَّة، كما لو أنها تعوض إحساسها الدائم بالمرح. لكن ما أميل طيور الصحراء إلى السهاد. ليست الصحراء سراباً، لأن السراب في كل مكان. إنها انتحاء بفعل المغناطيسية (أذلك بسبب جفاف الهواء؟ ربما). إنها مكان يدور المرء فيه حول الألوان والظواهر والأشياء والكائنات. إنها الإحاطة بشيء ما يدخل في نطاق ما يتعذر وصفه أو التعبير عنه. كل تلك الظواهر وكل أولئك البدو الرحل، وتلك القوافل من الجمال، وهذه القطعان من الماعز لا ترنو إلى أي مكان، ما دامت الرياح تذرو معها صلوات اللامعنى ومراثي العدم. تعج الصحراء ببقايا متحجرة من أمثال هذه المقابر الإباضية (15) التي تعطى للموت طعمَ المياه المعدنية الحديدية، كتلك التي نحتسيها في قرب الماعز المطلية بالقطران وحجر الشب والعنبر والمسك. الرحمى للأحياء وللأموات! آنئذ لا يعرف المرء كنه الكلمات، أو قواعد النحو، أو الهندسة، لأن كل تلك الأشياء تعتريها وتحاصرها وتلغيها البساطة. أو لعل الأمر يرجع إلى ذلك الكلس الحي، أو إلى بقايا الأواني الفخارية أو كثبان الرمال التي تستعد للارتحال. يغمرنا الورع، خلسة، في تلك المقابر. كأن أعضاءنا تنكسر عندما تتشبت بالزمن. رياح تمشي الهوينى أو رياح تهب فتلفحنا، وفي الحالتين تتشظى ذاكرتنا من هول حلم مشوه لا يتحقق أبداً، لا تحت ذلك الضوء الغامض في الصباح الصحراوي، ولا تحت ليل الصحراء المخملي الممتد. الرمال ذرات ذرات كساعة رملية توقف عندها الزمن. يا لها من بقعة شاسعة ! لكن أي اتئاد هناك، وأي جمود، وأي معاناة ! يتصدع الكون الصحراوي ويتشظى خلف فضاء العالم كأنه ركام أسطواني. هناك يضحى للتدرج اللوني معنى: تدرج من لون أصفر يزيد أو يقل. يضحى الفجر محض مصادرة للغروب. ما أقصر الفجر، وما أشد استعصاءه على فن التصوير! يستعصي تصويره حتى باستخدام الأشعة السينية، اللهم إلا إن استخدمنا أصابعنا ووضعناها في مواجهة الشمس التي تتلون آنئذ بلون قرمزي. يقول المعجم الفرنسي إن كلمة قرمزي أصلها عربي، وقد دخلت اللغة الفرنسية في القرن الرابع عشر. وأحمر القرمز لون غامق يميل إلى اللون الوردي. وهناك على سبيل المثال مخمل قرمزي، وحرير قرمزي، وصبغة قرمزية. جلبة الصحراء كلحية ناعمة، كإلهام مجنح يتطاير مع الضوء. الصحراء هي كذلك تراكم لموجات إلكترومغناطيسية تملأ ذلك الخواء، سواء كان مستوياً أم مسطحاً. إنها انكسار تلسكوبي يصدم العيون. يا لهذا الإحساس بالضآلة أمام ما لا يمكن معرفة كنهه. بقع وهالات ضوء. ألق خريفي يلي انكسار الحرارة. سهاد الدبابير والعقارب. إنها صحراء صخرية أو رملية من آثار حياة أو من بقايا أشياء مدهشة. الصحراء: يا لها من قدر مثالي... الشذرة الخامسة ما أشبه الصحراء بامبراطورية تولد من رحم التمرد! كشفاه تتمدد فرحة بميلاد كتاب عظيم! «سان جون بيرس - منفى». الصحراء شرك مخادع أيضاً، برمالها المتحركة، وبكثبانها الرملية المصابة بحمى تشابه تلك الحمى التي تصيب الماشية عند ارتيادها الكلأ، وبجبالها الفحمية اللون، وبأنهارها الجوفية التي تسير مئات الكيلومترات بين ضفتين من البازلت الأخضر يصل عرضهما إلى متر ونصف المتر، وبقلاعها (16) المنثورة على غبار منحدرات لانهائية، وبمبانيها الحمراء الحصينة، التي تقف كحراس ليل يقظين، وبأحجارها المتكسرة (وماذا أيضاً؟). الواقع أن الصحراء بمثابة قوسين يضمان بينهما تفاصيل بالغة الدقة. يالها من تفاصيل بالغة الدلالة، لدرجة أننا نخشى أن تتحطم وجوهنا على مرآتها! لكن ما أسرع ما ينقلب كل ذلك رأساً على عقب، فتضحى كل تلك التجسدات والتكثيفات والتجمعات المغبرة ذات الألوان الحمراء والخضراء بالغة الالتباس. إنه التباس يفقد معه مهندسو تحديد المساحات علاماتهم، وأدوات قياسهم، وأجسادهم وأرواحهم. يلف الغموض كل شيء، وتتشظى الأشياء، لأن الصحراء بفضائها اللامتناهي، وبألقها الأصيل، تقلص الأشياء جميعها فتضحى مجرد أشكال تقريبية، كما لو كانت الأرض منزوعة الرداء والعظام، لقد فقدت تجسدها واستحالت صخباً كونياً. اللامكان ههنا في الصحراء. لا مكان كالمتاهة تتشظى فيه الأشكال والأحجام، بفعل تلك الألوان المستحيلة، الزاعقة في وضح النهار. تضحى الألوان بعد ذلك باهته، عديمة اللون عند ما يصل الضوء إلى ذروة ضعفه. لون أخضر، صلصالي، أزرق، وردي، زعفراني، أصفر أو يميل للصفرة. هنا تتجلى وحشية العالم وقدرته المدهشة على إغواء كل هؤلاء الرحالة، والمغامرين، أو الباحثين عن الألواح الصلصالية. يا لها من زفرة شهوانية، فجة وبريئة. أولئك المغامرين القادرين على الارتحال إلى آخر ذواتهم. نساك يحرسون ذرى الجبال الصخرية في سكون مدهش متسمر ومتألق خارج الزمن. أولئك المتوحدون العظام، الذين يتولون تهريب الكواكب، والأدوات الكهربائية المنزلية وهلم جراً. لكن تين هينان (17) ترقبهم! وأناس لا يسكنون أي مكان، أو أي ثانية، أو أي ذرة زمن. أولئك الذين يذرعون حدود الله، كما يقتسمون بأياديهم اليابسة خبزاً يطهونه تحت الرمال. أولئك هم أناس الارتحال العظيم المقيم، حيث يمحو اتساع هذا الوطن المسالك، والآثار، والطرق، وعوارض السُهاد. يرى ابن البيطار(18) أن الصحراء تمثل كمال الكون، فهي حفر بلا ظلال. لقد ألفيناها ذات يوم ترتجف تحت أيدينا بثقل يعوض غياب ألق النهار. إنها مشكاة الانتظار. لقد كان ابن البيطار طبيباً بيطرياً يداوي حيوانات الصحراء، ومع ذلك فلم يجد تفسيراً لقدرة الجمال الخارقة على التحمل. يا لذلك الامتزاج بين أمطار الخريف ورياح الخريف! (العجاج، السيروكو، الشهيلي، الخماسين، السموم، الفوهن، وهلم جراً). رذاذ مطر شحيح، زهيد، ضنين. رياح زمهرير بوسع قسوتها أن تدمي جماجم الجمال، أو تقطع رؤوسها، كما تذرو شفرة المقصلة الحادة الرمال وتحولها إلى رماد. تفاقم تلك البقع الناصعة البياض إحساسنا بالثقل، وإحساسنا بالرهبة. آنئذ تتلاشى الأصابع في كثافة البياض وتتضخم خطوط العرض والمعالم، ويتحول عابرو السبيل أو ساكنو الخيام الكبيرة سريعاً إلى هياكل عظمية متآكلة، يمر عبرها ذلك الضوء الذاوي. أحجام لا مقياس لها، وأماكن تواجه فيها الذات كل أنواع المكابدة لتسلق ذلك الخواء الصوتي. لتسلق تلك العضلات، وتلك العزلة، وذلك... يستحيل الأفق قفراً آنئذ! يصبع فراغاً مجروحاً، أو لعله كذلك؟ «لم تكن الأرض جرحاً كانت جسداً/ كيف يمكن السفر بين الجرح والجسد؟/ كيف تمكن الإقامة؟/ هل أفصل نفسي عن نفسي؟» (أدونيس، مفرد بصيغة الجمع)(19). بسبب... بسبب ما يُطلق عليه المرء اسم الحضور، وبسبب ما يطلق عليه المرء اسم الغياب، تضحي الصحراء غياباً ألفياً، فالصحراء ذاتها لا مكان لها، لأنها كارثة لا تضاهى، تضيع معها تعاليم القانون والجاذبية. هذه الصحراء المخاتلة التي شكلت الإمبراطوريات العربية - البربرية، والتي أججت ورع ابن تومرت (20) والماريشال (أو الأب؟) دي فوكو، (21) الذي يستحم قلبه كل يوم في قارورة ذلك السائل المُطهر، في الكاتدرائية الوحيدة التي لم يقيض لها أن تشيد ألبتة في صحراء القليعة (22). يا لذلك الجنون! الخلاص! ويا لتلك الكارثة. من هذه الصحراء انطلقت سلالات المرابطين والموحدين، تلك الممالك التي لا يمكن ترويضها، لتصنع، وتهدم، وتصنع من جديد الحضارات العربية - الإسلامية. لقد منحوا تلك الحضارات روحاً جديدة ! هنا، من هذه الصحراء، من مكان ما، كتب ابن خلدون كتاب المقدمة بلغة استشرافية تزين معها التاريخ بأشياء تطلبت عدة قرون لتحقيقها: المنهجية والتحليل النفسى ! تلك الصحراء المجنونة هي التي دفعت ابن خلدون لكتابة تلك الأطروحة الاستشرافية (التنبؤية؟) في شأن الإمبراطورية الإسلامية في أوج ازدهارها: «بعث طارق بن زياد رسالة إلى قائده موسى بن نصير، يعلمه فيها بنبأ الهجوم على جبل طارق والاستيلاء على عتاد حربى هائل في الأندلس. وشعر موسى بن نصير بالغيرة». هنا في هذه الصحراء، تقيم وحشية الكون وقدرته المذهلة على أن تُصبغ على البشر معاني المجد، والاحتقار، والموت، والجنون، والقداسة أيضاً. نشعر عندما يعاود الليل إرخاء سدوله، كما لو أن النهار ينطفئ انطفاء المصباح. آنئذ تتلاشى الحدود، والمعالم، والأدلاء، وتفقد الذات تضاريسها وتخومها. تنمحى الرؤى، وتضحى الكلمات محض فراغ. تشخص الأبصار، وتعج الرؤوس بالعلامات. يتكثف الليل الفوسفوري كأنه صنع من حبال غليظة مسطحة وطويلة مصبوغة. أما الوحدة فتستحيل كمالاً لا يمكن تصوره أو محاكاته. لكن أين الله من هذا الخضم الجيولوجي؟ في اللامكان. أو في ليالي الريبة هذه نراه في وبر تلك النوق اليافعة الحبلى بالرغبة، التي تسير بمهابة لتذكرنا بصبر امرأة وضعت وليدها وفقدت ماءها. يصبح كل ضياع هنا أمراً محتملاً مع تساقط مياه الأمطار على هذا المكان، أو بالأحرى، اللامكان. هنا يضحى المجد نحيباً، ويضحى كل احتفال بحثاً عدمياً، كالبحث عن مجموعة ألعاب مرسومة على ورق مقوى. تلك الشذرات الصحراوية التي تغمرنا هنا وهناك، من وقت لآخر. إنها تغزو ذاكرتنا وتقيم بها إلى أبد الآبدين. ما أن تغيب الصحراء عنا، حتى يعود إلينا ذلك الهوس المرضي ليسكننا من جديد، لا لشيء إلا لمجرد الرجوع... 14- كان سيزيف في الأسطورة اليونانية ملكاً عاقبته الآلهة بتكليفه بإلقاء حجر ضخم إلى أعلى تل ليراه متدحرجاً إلى أسفل. وكان عليه أن يكرر ذلك للأبد. 15- تعرف كذلك بالمقابر المزابية mzab. وهي طراز معماري يتسم بالتواضع الشديد والخلو من أي زخرف. وينتشر هذا النوع من المقابر في مزاب بالجزائر، وفي جربة بتونس، وكذلك في جبل نفوسة بليبيا. 16- يستخدم الكاتب كلمة Kasbah وهي كلمة عربية دخلت اللغة الفرنسية مؤخراً (مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)، وتشير إلى القلعة أو قصر الحاكم في دول شمال أفريقيا. وتكتب في العربية المغاربية qasba، من العربية الفصحى qasaba وتعني القصر الحصين في المدينة. وتكتب كذلك casbah في اللغة الفرنسية. انظر كتاب Amine Mahrez: Glossaire raisonné des mots français d’origine arabe, Editions El-Othmania, Alger, 2006, p. 67. 17- تين هينان Tin Hinan هو اسم أطلقه الطوارق على امرأة ذات مكانة رفيعة تعود إلى القرن الرابع الميلادي. تقع مقبرتها الضخمة في صحراء الأبالسة في منطقة الهقار بالجزائر. ويعني اسمها حرفياً «صاحبة الخيام»، ولكنها تعني مجازاً «أم القبيلة». يُشار إليها أحياناً باسم «ملكة الهقار». ويشير الطوارق إليها باسم «تامينوكالت» التي تعني أيضاً «الملكة». أما جثمانها فموجود حالياً في متحف الباردو بالجزائر العاصمة. 18- ابن البيطار (1197 - 1248) هو عالم نباتات وصيدلي وطبيب عربي تمثل إسهامه الجوهري في تدوينه لاكتشافات الأطباء المسلمين في القرون الوسطى، وهو ما أدى إلى إضافة ما يزيد على ثلاثمائة نوع من الأدوية إلى تلك الأدوية التي عرفت في العصور القديمة. وقد ولد ابن البيطار في مدينة ملقة وتلقى تعليمه على يد أبو العباس النبطي. 19- يترجم الكاتب في الأصل مطلع قصيدة أدونيس «مفرد بصيغة الجمع»: Je m’ enfonce dans l’ascèse et dans la ruse/ Et je trouve alors ce qui transcende entre le moi et le moi - même/ Conment remonter mon corps، au-dessus de moi même؟ 20- ابن تومرت (1080- نحو 1130) هو فقيه دين بربري مسلم عاش في جبال الأطلس بجنوب المغرب وتمرد على حكم المرابطين، وبعد موته واصل الموحدون غزو شمال أفريقيا وإسبانيا. 21- شارل دي فوكو (1858 - 1916) في الأصل De Foucault، لكن اسمه الصحيح De Foucauld وهو رجل دين كاثوليكي فرنسي عاش بين الطوارق في صحراء الجزائر وقتل عام 1916، وتعتبره الكنيسة الكاثوليكية شهيداً. وكان دي فوكو ضابطاً كذلك بالجيش الفرنسي في شمال أفريقيا. 22- القليعة هي واحة بوسط الجزائر تعد بوابة الصحراء. يقطنها البربر الزناتيون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©