الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابني في الطريق المسدود

ابني في الطريق المسدود
4 نوفمبر 2010 20:35
رحل أبي رحمه الله عن الدنيا، لم يترك لي من متاعها قليلا او كثيرا، كنت في مفترق طرق، مازلت في السابعة عشرة من عمري أدرس في المرحلة الثانوية، لا اختيار أمامي إلا أن أتحمل مسؤوليتي ونفقات دراستي واحتياجاتي علاوة على احتياجات أختي الصغرى التي لم تشب عن الطوق، وصلة الرحم لأختين متزوجتين، التفكير في هذه الأحوال والظروف طغى وطفا فوق أحزاني على فراقه، فكل ما يشغلني تساؤلات متلاحقة متداخلة متسارعة، كيف سيكون حالي في المستقبل القريب؟ هل سأترك الدراسة والتحق بأي عمل؟ أم استطيع أن أوفق بين الدراسة وتلبية الاحتياجات المالية؟ وقبلت التحدي وقررت أن أخوض المغامرة وألا ألجأ إلى الطريق السهل وإنما الصعب الذي يحقق لي طموحاتي، وعملت في عدة حرف بسيطة، أتفانى ليل نهار لتحقيق الهدفين في نفس الوقت، الدراسة والمال وتناسيت أي شيء ما عدا ذلك حتى تخرجت في الجامعة، والتحقت بوظيفة جيدة تدر عليَّ دخلا لا بأس به، وأعانني الله على تدبير احتياجات أختي في زواجها بعدما جاء من يخطبها ورأينا أنه يناسبها، وتنفست الصعداء وشعرت بأنني أنجزت أصعب المهام في حياتي، لم يبق إلا أنا وقد اقتربت من الثلاثين اعني أنني الآن استطيع أن ابدأ العيش مثل الآخرين، ولست من الطامعين في الثراء الشديد وحياة الرفاهية، صحيح أنني أتمنى ذلك مثل أي إنسان، ولكن القناعة كانت هي الكنز الذي أملكه لذلك سأكون راضيا بشقة متواضعة في حي متوسط المستوى، وان حصلت على سيارة مستعملة فهذا خير وفير كثير، وأصبح بين يدي بالفعل شقة وسيارة بل وبعض الأموال التي مكنتني من الزواج من فتاة ريفية مثلي، محافظة لا تعرف الموضة ولا الإتيكيت وقد تعمدت هذا الاختيار حتى تكون قريبة من طباعي وأحوالي وظروفي واستطيع أن اشكل شخصيتها بما يتوافق معي ولا أقصد أن ألغي وجودها، بل أردتها أن تشاركني كل صغيرة وكبيرة ولكن بعقلية بسيطة وبلا تعقيد كما تفعل الفتيات المتفرنجات في المدن. سارت حياتي طبيعية عادية، أشعر أنني حصلت على أضعاف أضعاف ما أستحق، وحمدت ربي على هذه النعم، التي اكتملت بأن رزقني الله بثلاثة أبناء، ولد وبنتين، كانوا كل شيء لي في الدنيا الواسعة وهم زينتها مع كثير من المال الذي يفوق حاجة الأسرة، بما يمكنني من ادخار بعضه لمستقبل الصغار. إلى هنا كل شيء كان يسير طبيعيا وعاديا وأفضل مما أرجو وأتمنى إلى أن حصل ابني على الثانوية العامة، ومثل كل أب أريد أن يكون ابني أفضل حالا مني، فكما ضحيت طوال حياتي من أجل أسرتي الكبيرة ومن أجل أسرتي الصغيرة، واصلت تضحياتي وأغدقت على زوجتي وأبنائي حتى لا يعيشوا الحرمان والعوز ولا يعانوا ما عانيت منه، ولا يشعروا بالنقص مثلما حدث لي، لذلك شاركت ابني في اختياره لدراسته الجامعية ورغم أن الكلية التي تم اختيارها بالاتفاق بيننا يتطلب القبول بها اختبارات خاصة وهو الذي كان يقوم بها بنفسه وليس أنا ولا أمه، لكننا فوجئنا بعد عام من دراسته الجامعية بأنه يحملني مسؤولية هذا الاختيار، بل تمادى أكثر من ذلك وأفهمني أنني أجبرته وأنني الذي اخترت رغما عن أنفه، وان هذا النوع من الدراسة لا يروق له ولم يكن يريده ولا هو حلمه ولا أمنيته، حتى أنه أهمل دروسه وكان ينجح بالكاد بدرجة مقبول وينتقل إلى السنة التالية وقد اكتشفت انه يتعمد الإهمال إمعانا في الضغط على أعصابي عندما شعر بأنني أتألم خوفا عليه وخشية رسوبه أو تعرضه لأي عقوبات من الجامعة قد تؤثر على مستقبله. انتهت سنوات الدراسة وتخرج ابني والتحق بوظيفة يتمناها ويحلم بها آلاف الشباب، واعتقدت أنني نجوت من هذه الأزمة وأنها انتهت، ووجدتني واهما، وان الأمر يزداد سوءا، إذ أن ولدي واصل الضغوط مستغلا نقاط ضعفي، أصبح أكثر إهمالا في عمله الذي يريد منه انضباطا والتزاما بالمواعيد والواجبات الملقاة على عاتقه، أراقبه من بعد لأعرف كل تصرفاته حتى أتدخل في الوقت المناسب قبل أن يصيبه مكروه، وعندما علمت انه مازال في غيه القديم، يتغيب عن العمل ولا يؤديه كما ينبغي أن يكون سارعت بالتدخل لأنصحه حتى لا يصيبه أذى، لكنه كال لي سيلا من التوبيخ، مستنكرا كيف أسمح لنفسي بالتدخل في حياته الخاصة وعندما أفصحت عن مخاوفي، وجدته لا يكترث ولا يهتم بالنتائج مهما كانت لأنه - كما يرى - يتمنى أن يحدث ما أتخوف منه حتى يتخلص من هذا العمل الذي لا يرغب فيه، وحجته في ذلك أن أقرانه يحصلون على رواتب أعلى منه من وظائفهم، ثم علمت انه تمت مجازاته وتوقيع عقوبات إدارية ومالية عليه، كنت أحترق من داخلي لكنه جعلني عاجزا عن التدخل، فقد أغلق أمامي كل الأبواب ولم أستطع السكوت او الوقوف مكتوف اليدين، ولم أرضخ له، فكيف أتركه ليدمر نفسه بيديه، فعلت كل ما في وسعي لتخفيف العقوبات عنه، وعندما علم لقنني درسا قاسيا، مستنكرا تصرفي وخوفي عليه باعتبار انه الآن أصبح رجلا رشيدا ويعرف مصلحته وما يضر وما ينفع، ولا يجوز على حد تعبيره أن أعامله مثل التلميذ في المدرسة وأذهب إلى المدير كي لا يضربه، وقد فشلت في إقناعه بأن الأمر ليس كما يتصور. كل ذلك وأمه متخبطة في موقفها أحيانا تكتفي بالبكاء وعندما تسمع وجهة نظره تقتنع بها وتلوموني وتتهمني بأنني أتعامل معه كطفل وأن هذا لا يجوز لانه أصبح رجلا ويجب أن تتغير طرق التعامل معه، وهذا الرأي تفصح عنه عندما تتأثر برأيه ويستطيع أن يقنعها بالباطل، وسرعان ما تعود إلى رشدها حينما أقدم لها الحقيقة المجردة. لم تقف المصائب عند هذا الحد بل فوجئت بمصيبتين أخريين تأتيان معا لتضافا إلى جملة المصائب التي يلقي بها ابني على رأسي متواصلة فقد عرف طريقه إلى السهر مع شلة من أصدقاء السوء لا أعرفهم، زادوا المعاناة والألم، ومعهم أصابته عدوى التدخين بحجة انه الآن رجل ذو شخصية مستقلة لا يحق لاحد أن يتدخل في حياته، أما المصيبة الأعظم فإن هؤلاء يشجعونه على أفعاله ويطلبون منه أن يقيم معهم باستمرار وان يترك البيت حتى لا نتحكم في تصرفاته ولا نحاسبه على أفعاله ونحن من الأساس لا نفعل ذلك ولا نجرؤ عليه، وهو يستجيب لهم كأنه مسحور فقد عقله وترك نفسه لأصدقائه وسلم لهم المقود، ولديه قناعة تامة بأنهم يحبونه أكثر مما نحبه. كما تدخلت في الماضي، كان يجب أن أتدخل الآن قبل الضياع الكامل واستطعت بعد جهد جهيد أن أصل إلى بعض أصدقائه وأتودد اليهم لأكتشف شخصياتهم، كلهم من أسر مفككة، منهم من يعيش مع أم تركها أبوه، ومن يقيم بمفرده في حرية مطلقة بلا حدود، ولا رقيب ولا حسيب، وآخر منحل مثل أبيه لا يعرفان طريقا للالتزام وحسن الخلق، ولنفس أهدافي ومخاوفي السابقة المستمرة، حاولت أن أتقرب من ولدي، لكنه كان يتباعد عني، وعندما حاولت أن أكشف له حقيقة هؤلاء الأصدقاء الذين سلبوا عقله وتفكيره، كان الويل والثبور وسوء الأمور هو نصيبي منه، بل حذرني من التدخل مرة أخرى او تكرار هذه الأخطاء التي أرتكبها بحماقتي. تقطعت بي السبل ولم أعد أجد لي مخرجا من هذا النفق المظلم المؤلم، ولم أجد إلا أن أهرب من المكان والأيام، قررت أن أترك له البيت تماما وأختفي في منطقة بعيدة لا يصل فيها احد إليَّ وأمارس عملي وأعود إلى مسكني الذي سيكون مثل مخبأ لي، وعندما أعلنت ذلك قوبلت بعاصفة من الصياح والنواح والعويل من زوجتي وابنتي، قالوا ان ذلك حكم عليهن بالإعدام بلا ذنب او جريمة، وأنني إذا نفذت ذلك فسأكون قد جنيت عليهن، وعاقبت الضحية وتركت الجلاد وعلى الأقل سأكون تسببت لهن في الضياع، وفطنت للنتائج الوخيمة لهذا القرار انه مثل قرار النعامة التي تدس رأسها في التراب عندما ترى الأعداء، فيكون مصيرها الهلاك الحتمي. بدأت التفكير في وسيلة أخرى وقد أعيتني الحيل، واستقر الرأي مع زوجتي على أن نشتري شقة ونزوج ولدنا كي يتحمل مسؤولية زوجة وأسرة وينشغل بها، ويجد من تشاركه حياته وتقومه وربما تكون سببا في هدايته وأوكلت إلى امه مهمة مفاتحته وإذا به يكاد يضربها ويعتدي عليها رافضا ذلك كله جملة وتفصيلا، لانه ليس عاجزا أو أعمى حتى نتولى نحن الاختيار له فذلك حقه ويخصه وحده وليس لأحد أن يتدخل فيه ولا حتى يتحدث عنه، واحترمنا وجهة نظره وتركنا له الاختيار، لكننا فوجئنا به بعد عدة أشهر يأتينا بفتاة مثل الراقصات بل هي في الحقيقة لها صلة بالفن وتعمل في هذا المجال، ملابسها خليعة وتفتقد حياء الأنثى، فلديها جرأة غير معهودة، واخبرنا أن هذه هي التي اختارها عقله وقلبه وعندما أبدينا تلك الملاحظات أعاد علينا ما يوهمه به اصدقاؤه بأننا لا نحبه ونعانده ولا نلبي رغباته متعمدين، بينما هو لا يريد أن يتفهم أراءنا ووجهات نظرنا، قد لا يصدق أحد أننا قبلنا صاغرين هذه الزيجة، نزولا على رغبته وأملا في صلاح حاله رغم أن أباها بالغ كثيرا في مطالبه مستغلا تمسك ابننا بها وقد جعلته دمية في يدها. مر شهران على إعلان خطبتهما وزالت الغشاوة من على عينيه بعدما بدأ يلاحظ كل المآخذ التي ذكرناها له، ولأنها تمس رجولته كان لها أثر واضح في اتخاذ قراره عن قناعة تامة بأن يفسخ هذه الخطبة، وتأكدت نظرتنا له بعدما وجد منها عدم تمسك به وأنها ترحب بقراره، بل انه قرارها قبله، فإنها ليست حريصة عليه، ورغم ذلك تأثر نفسيا بهذه التجربة وعاش في جلباب شهيد الحب وضحية الغرام، وارتدى ثوب الكآبة والحسرة. مر عامان على تلك الواقعة وفشلنا أيضا خلالهما في أن نشاركه الاختيار، فأخبرنا بأنه لن يفكر أبدا في الزواج، بل هددني عدة مرات بالقتل والتخلص مني، والان يريد أن يكرر هذه التجربة بكافة تفاصيلها مع فتاة مماثلة، وهو يسومني سوء العذاب ليحملني ليس على الموافقة وإنما على تدبير ما يريد من أموال.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©