الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعارات الإسلام السياسي الفارغة أفشلت تطبيق الشريعة

شعارات الإسلام السياسي الفارغة أفشلت تطبيق الشريعة
4 أغسطس 2013 22:19
حسن عبدالله- الكويت بعد أن تحدثنا في الحلقة السابقة عن بدايات دخول القوانين الغربية الحديثة إلى المجتمعات الإسلامية، ومحاولات أسلمة هذه القوانين أو صياغة وتقنين مشروعات قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية في المدونات والدساتير الخاصة بالبلاد الإسلامية، نكمل الحديث عن تجربة السودان التي تحولت إلى «فزاعة» أو شبح يهدد كل من يسعى لتطبيق الشريعة. رائد تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان ومنظرها هو الدكتور حسن الترابي الذي يحمل فكر «الإخوان المسلمين»، ويسير وفق منهجهم. كان الترابي المستشار القانوني الخاص لنميري ثم تولى وزارة العدل، وأصبح يشرف بنفسه على تطبيق «قوانين سبتمبر» أو الشريعة الإسلامية، وفي يوم البيان نفسه الذي أعلن تطبيق الشريعة، أعفى الرئيس جعفر نميري الترابي من كل مناصبه، وعينه في وزارة الخارجية السودانية، حتى لا تنسب تلك الخطوة إلى الترابي بوصفه زعيماً إسلامياً، لكن الترابي قاد بحماس جارف «الإخوان المسلمين» وبقية الحركات الإسلامية إلى مناصرة قوانين النميري الجديدة بأشكال الدعم كافة، على صعيد الطلاب أو المنابر العامة في المساجد والمنشآت العامة، وشارك أفراد من الإخوان في تطبيق التشريعات الجديدة عبر الجهاز القضائي، لأن القضاة آنذاك لم يكونوا مؤهلين بقدر كافٍ، وقامت القيادات الحركية الإسلامية بزعامة الترابي بالمشاركة في لجنة مراجعة القوانين السارية في البلاد، وإعادة النظر فيها حتى تتناسب مع تعاليم الإسلام، وهي اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء وقتها الرشيد الطاهر بكر، بالإضافة إلى لجنة فنية ترأسها الترابي بنفسه بصفته نائباً عاماً للبلاد، وقامت بإعداد الدراسات حول تنظيم المعاملات بين الأفراد والمؤسسات، وما يتناولها من الحقوق والواجبات وقواعد الإثبات في جميع فروع القوانين. سياسة أم شريعة؟ ونظم الترابي مظاهرة مليونية في الذكرى الأولى لإعلان تطبيق الشريعة، ما أعطى التجربة قوة شعبية هائلة. «محاولة تفسير ما أقدم عليه نميري، وكأنه مناورة سياسية ضرب من المجازفة»، هكذا يقول المستشار طارق البشري ويكمل: «أعتقد أن حدثاً بهذه الضخامة والجرأة كتطبيق الشريعة لا يقدم عليه إلا من كان يؤمن به، المشكلة أن الجانب السياسي طغى على الجوانب الأخرى في عملية التطبيق». شكل الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري لجنة لمعالجة الجانب القانوني في الشريعة، وعملت اللجنة على إرساء منهج أصيل مستمد من التراث الفقهي للأمة. وسارت اللجنة في مهمتها على نهج التدرج والميل لتيسير الأحكام، والأخذ من الأحكام بما يوافق المشهور عند الناس وعدم التقيد بمذهب. لكنه - أي نميري - وقع في أخطاء - أو قل خطايا - نتيجة سعيه لتوظيف الشريعة الإسلامية لحماية حكمه. فقد أدخل النميري قانون أمن الدولة ضمن قانون العقوبات الجنائية، وهو قانون يحجر على الحريات السياسية، ما دفع معارضيه إلى اتهام القوانين الإسلامية بأنها صيغت لحماية الحكم العسكري، ولجأ نميري كذلك إلى تكوين محاكم طوارئ من قانون من خارج النظام القضائي، ما أعطى صفة الاستثنائية لهذه الأوضاع، ومنها التشهير بالمحكومين- وفقاً لما وصفوه بالقوانين الإسلامية في وسائل الإعلام - ما جعلها مثار انتقاد كبير.. ولأن هذه القوانين الإسلامية صدرت دون مشورة واسعة ومراجعة من القانونيين والسياسيين، فقد جاء إعلانها مفاجئاً للناس، كما جاءت غير محكمة في صياغتها القانونية. «والأهم أن نميري والترابي بدآ تطبيق الشريعة الإسلامية بالعقوبات والحدود، فكان لا بد أن تفشل»، يقول رئيس لجنة الشريعة الكويتية الدكتور خالد المذكور ويضيف: «يمكنني أن أصف تجربة السودان بأنها تجربة خائبة جداً». وإلا فكيف تطبق الحدود على شعب جائع متقاتل! المعيار الدائم والشرط الأساسي لتطبيق الشريعة هو: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، فلا حديث عن تطبيق الشريعة إلا بعد أن تمتلئ البطون الجائعة وينتشر الأمن والأمان. كل شروط تطبيق الشريعة مفقودة في السودان، وبالتالي فإخفاقها كان محققاً. انتفاضة شعبية لم تمر سنتان على بيان النميري لتطبيق الشريعة الإسلامية إلا وانتفض الشعب السوداني كله ضده وسقط نظام الرئيس جعفر نميري عام 1985، وسلم قائد الجيش عبدالرحمن سوار الذهب السلطة إلى زعيم حزب الأمة ورئيس الوزراء الصادق المهدي، الذي أوقف العمل بقوانين سبتمبر - حسب وصفه - معلناً التزامه بالنهج الإسلامي، وشكل الصادق المهدي لجنة من عدد من الشخصيات الإسلامية كالدكتور محمد سليم العوا وغيره - وهي الشخصيات نفسها التي استشيرت في طور من أطوار الإعداد لإعلان تطبيق الشريعة - وخلصت اللجنة بعد مراجعات دقيقة بأن المآخذ التي أخذت على هذه القوانين لا تقتضي إلغاؤها، بل تصحيحها وتعديلها. ثم جاءت حكومة «الإنقاذ» عام 1989 لتؤكد التزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية عام 1991، لكنها أوقفت العمل بالكثير من قوانين نميري واستبدلتها بتشريعات أخرى. تجربة باكستان وعلى المنهج نفسه في التطبيق المفاجئ للشريعة الإسلامية، سار رئيس باكستان الراحل الجنرال ضياء الحق الذي قام بانقلاب عسكري عام 1977 ضد ذو الفقار علي بوتو، وأعلن أن مهمته الأساسية هي تطبيق الشريعة الإسلامية. وارتبط الرجل بالإسلاميين وبالجماعات الإسلامية التي ظلت تطالبه بالوفاء بوعده، وبعد 11 عاماً ألقى ضياء الحق خطاباً مؤثراً كان يبكي فيه ويمسح دموعه وهو يقول: «إنني أخاف الله وأخشاه وأعلم أنه سيسألني غداً: لماذا لم تحكم بالشريعة الإسلامية». وبالفعل صدرت قوانين عدة مستمدة من الشريعة، فأقام الحدود، وألغى الربا من المصارف، ووضع خريطة طريق للتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية، ولم يمر سوى شهرين وتحديداً في 17 أغسطس 1988 وأثناء جولة سرية بطائرة مروحية بصحبة كبار ضباط جيشه، وأيضاً السفير الأميركي في باكستان، انفجرت قنبلة وضعت تحت مقعد ضياء الحق لتودي بحياته وحياة كل من معه. وتوجهت أصابع الاتهام إلى أطراف عدة منها الروس والهنود والأفغان والمعارضون في باكستان وإيران، حيث كانوا جميعاً يسعون للتخلص من الجنرال ضياء الحق الذي ساعد الأفغان ضد الروس ووقف ضد الهند وحجّم النفوذ الإيراني في باكستان. وكان بطل التجربة الباكستانية فقيهاً مصرياً هو الدكتور حسين حسان الذي أعير لإنشاء الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد عام 1979 عقب إعلان باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية، وتولى رئاستها لمدة 14 عاماً. وكان الجنرال ضياء الحق قد كلف الدكتور حسين حسان بإعداد مشروع لتطبيق الشريعة، وتم إعداد إعلان دستوري ومشروع قانوني متكامل لتطبيق الشريعة وتنقية القوانين مما يخالف أحكام الشريعة، وتم إقرار المشروع وأرسل ضياء الحق خطاباً للدكتور حسين حسان يشكره فيه على هذا المشروع ويبلغه بالإعلان عن بدء تطبيق الشريعة، إلا أنه بعد وفاته – ضياء الحق - قامت الحكومة التي جاءت بعده بتعطيل الإعلان الدستوري، ووقف العمل بتطبيق الشريعة عن طريق المحاكم والقضاء. والدكتور حسين حسان، هو أحد الذين أسهموا في عصر السادات في إعداد القانون المدني وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وأعد مذكرته التفسيرية، وأسهم في جهود تطبيق الشريعة بالكويت، وأعد مشروع قانون الأحوال الشخصية بليبيا على الراجح من مذهب الإمام مالك، وخلال عمله مستشاراً قانونياً لرئيس كازاخستان، أسهم في إعداد القوانين المكملة للدستور، حيث استوحى مبادئه من روح الإسلام ومقاصد الشريعة وأخلاق المجتمع الكازاخي، وإنْ لم ينص على مصدره وهو الشريعة، وللدكتور حسين حسان مساهمات مهمة فيما يخص تجربة البنوك الإسلامية في دولة الإمارات. تجربة إيران فيما يخص تجربة إيران، ثمة من لا يعتبرها جزءاً من تجارب تطبيق الشريعة الإسلامية بالمعنى العام، لأنها تجربة مذهبية، فحسب كلام المفكر الكويتي الدكتور إسماعيل الشطي، فإن مادة الإسلام التي وضعت في دستور إيران الإسلامية جاء معظمها لخدمة تركيز السلطة بيد القائد، فلقد استخدمت فكرة أمير المؤمنين السُنية أو فكرة نائب الإمام أو الولي الفقيه الشيعية لتكرس النظام الديكتاتوري باسم الإسلام، فكلتا الفكرتين تنصبان شخصاً آمراً تجتمع بيده كل السلطات والصلاحيات، ويمتد منصبه إلى مدى حياته كلها، وتجعل من هذا التكريس شأناً فقهياً غير قابل للجدال لأنه – كما يزعمون – من عند الله. كما استخدمت فكرة أهل الحل والعقد المعينين لتهميش فكرة التمثيل الشعبي بالنظام الديمقراطي، واعتبرت أن تفعيل مبدأ الشورى القرآني هو بتشكيل مجلس الحل والعقد من المعينين (مجمع تشخيص مصلحة النظام)، ووضعت هذا المجلس رقيباً على ممثلي الشعب المنتخبين المسمى مجلس الشورى يضيف الدكتور إسماعيل الشطي، كما أن مشروع الأسلمة وتطبيق الشريعة أخذ منحى طائفياً في الدستور الإيراني بإلزام الدولة بعقيدة الطائفة الشيعية الاثنى عشرية ومذهبها الجعفري، ولذا تحول إلى مشروع تشيع بدلاً من أسلمة، وانحاز إلى الطائفة بدلاً من الأمة. ويضيف رئيس لجنة الشريعة الكويتية الدكتور خالد المذكور «إنهم لم ينجزوا الكثير فيما يخص تطبيق الشريعة الإسلامية، لقد اطلعت على تجربتهم واكتشفت أنهم يهتمون بالمظاهر الإسلامية مثل الحجاب والأفلام المحتشمة، لكنهم لم ينتهوا من إعداد معظم القوانين الإسلامية، وإن كانوا قد حرصوا على ألا تتعارض قوانينهم مع الشريعة الإسلامية، حسب المذهب الجعفري». كما أنهم لم يعملوا على تهيئة الأجواء لتطبيق الشريعة عبر توفير الحياة الكريمة للمواطن الإيراني الذي يعاني كل المشكلات التي يعانيها الإنسان في الدولة الإسلامية الفقيرة على الرغم من كون إيران دولة نفطية وغنية. «طالبان» وما بعدها أسست جماعة «طالبان» دولتها في أفغانستان عام 1996 بعد الاستيلاء على مناطق عديدة من البلاد ومبايعة الملا محمد عمر أميراً للمؤمنين، وبعد خمسة أشهر من هذه المبايعة سقطت العاصمة كابول بيد جماعة «طالبان» وشكل بعدها أمير المؤمنين الملا محمد عمر لجنة لإدارة البلاد (بمثابة مجلس وزراء) بقيادة نائبه الأول محمد رباني، واستمرت هذه الدولة خمس سنوات ونيف في ظل حروب داخلية بينها وخصومها ومنافسيها من التيارات الأفغانية الأخرى، إلى أن جاءت الولايات المتحدة الأميركية بقوات «الناتو» وأسقطت دولتهم. وخلال السنوات الخمس لدولة «طالبان»، لم يصدر عنها دستور أو نظام أساسي أو وثائق منشورة تقدم لنا الفكر الذي تأسست عليه الدولة، لذا اعتمدت كل الدراسات على ممارسات حكومة «طالبان» والتصريحات الشحيحة التي صدرت من الملا محمد عمر زعيم حركة «طالبان»، ثم بعد ذلك الدستور الذي أصدروه عام 2006 بعد زوال حكمهم. ومن هنا جاء التضارب حول تقييم تجربة «طالبان»، فحسب ما نشرته الحركة عن أهدافها من تطبيق الإسلام عام 1996: - إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة. أن يكون قانون الدولة مستمداً من الشريعة الإسلامية. - اختيار العلماء والملتزمين بالإسلام للمناصب المهمة في الحكومة - قلع جذور العصبيات القومية والقبلية. - حفظ أهل الذمة والمستأمنين. - التركيز على الحجاب الشرعي للمرأة وإلزامها به في جميع المجالات. - تعيين هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع أنحاء الدولة. - التحاكم في جميع القضايا السياسية والدولية إلى الكتاب والسنة. - استقلال المحاكم الشرعية وفوقيتها على جميع الإدارات الحكومية. عوامل الفشل غير أن ثمة عوامل أدت إلى إخفاق تجربة «طالبان» في أفغانستان، منها أن النظام «الطالباني» شغل نفسه ببعض المسائل الشكلية التي تتعلق بنمط المعيشة العصرية، ما زاد من تعتيم صورته المنفرة، فمثلاً حظر استيراد الآلات الموسيقية وهوائيات التقاط محطات التلفزة الفضائية، في الوقت الذي كان قادة الحركة يتابعون أخبار العالم عبر أطباق الاستقبال، وكذلك منع استيراد كاميرات التصوير والتجهيزات السينمائية وشرائط الفيديو وآلات التسجيل، وحظر استيراد الألعاب المسلية كافة وطاولات البلياردو والأسهم النارية وطلاء الأظافر ومجسمات عرض الأزياء، وحظر أيضاً استيراد ربطات العنق والدبابيس المزينة لها وبطاقات المعايدة، وكل أنواع البطاقات التي تتضمن صور الأشخاص. والأهم من ذلك يقول الدكتور إسماعيل الشطي – إن دولة «طالبان»، لم تستطع أن تقدم نظاماً بديلاً للاقتصاد الرأسمالي، حيث كان اقتصادها داخلياً منغلقاً يعيش على الواردات القادمة من باكستان دون أن يخلق صادرات حقيقية، وكان لغياب بنك مركزي يشرف على إصدار النقد الأفغاني أن غرق السوق المحلي بأوراق نقدية أفغانية مطبوعة في الأقاليم التي هي خارج سيطرة «طالبان»، ولقد أسهمت روسيا في ذلك سعياً لإضعاف «طالبان»، ولقد أدركت «طالبان» في سنواتها الأخيرة أن الاقتصاد ليس كالقتال، فهو نظام دولي يشكل شبكة تغطي كل دول العالم وذات طبيعة مفصلية ومتشابكة بشكل معقد مع الاقتصادات المحلية. ثلاثة تيارات ويقول المفكر الإسلامي والفقيه الدستوري الدكتور أحمد كمال أبو المجد «مبدئياً لا بد من الوعي بأن الشريعة الإسلامية تمثل هوية للمسلمين لا يمكن التنازل عنها»: كما أن الفرنسي أو الانجليزي أو الأميركي يعتز بقانونه، فلا بد أن يعتز المسلم بشريعته، ومن الخطأ العلمي الفادح محاولة الفصل بين أي حكم تشريعي وبين أصوله الحضارية والفكرية. ولذلك يمكنني أن أحصر الخلاف الدائر حول تطبيق الشريعة في ثلاثة تيارات: الأول يبدأ من النصوص الشرعية وينتهي إليها ويطالب أصحابه في إصرار شديد بضرورة إعلان الالتزام المطلق بتلك النصوص، ففي كلماتها وحروفها وخواطرها مع ما في ذلك من إهدار صريح للقاعدة التي تقضي بأن العبرة في ممارسة التشريع وفي تطبيق النصوص الملزمة «إنما هي المقاصد والمعاني وليس بالألفاظ والمباني. ويرى أصحاب هذا الموقف أن التردد في تطبيق الشريعة الإسلامية تردد في الإيمان واهتزاز في العقيدة ومخالفة لأمر الله تبارك وتعالى». والتيار الثاني من تيارات تطبيق الشريعة يرى أن الدين في جوهره دعوة للعقيدة الخالصة وللأخلاق الفاضلة ولإقامة التنظيمات العادلة التي صحبتها توجيهات عامة لتنظيم المجتمع عن طريق التشريع، ضربت لها الأمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومارسها المسلمون ممارسات متعددة ومختلفة فيما بينهم خلال عصور التاريخ الإسلامي المتعاقبة، وهم لا يرون في هذه الممارسات إلا أنها اجتهادات بشرية مشكورة ومحمودة، وأنها تستحق لذلك أن تستأنس بها الأجيال اللاحقة دون أن تقف بالضرورة عندها، أو تلزم نفسها بها إلزاماً حرفياً جامداً بنصوصها، وذلك كله بشرط ألا يخالف الاجتهاد نصاً قطعي الدلالة قطعي الثبوت. أما التيار الثالث فنحن من جانبنا - يقول الدكتور أبو المجد - نرى أن في كل من الموقفين السابقين جانباً من الحقيقة يستحق أن نأخذ به وندعو إليه، وأن الجميع بينهما جمع بين الحسنيين، يتحقق به معنى «الطاعة لله» تحقيقاً مبصراً حين يكتمل معنى «الطاعة» بمعنى الاستبصار بمواقع المصلحة، وعناصر الاستجابة الواعية لما يطرأ على مجتمعات الناس والشعوب من تغير لا يتوقف، وهو تغير يدخل في عموم سنة الله. وهذه الاستجابة تتمثل في تحقيق التوافق والانسجام بين «شريعة الإسلام» المتمثلة في النصوص القرآنية والنبوية وفي سيرة النبي.. ونعمة قبول الإسلام المتمثلة في استخدام العقول وقدح زناد الاجتهاد، وهما نعمتان متكاملتان «وفي كل خير». يضيف الدكتور أحمد كمال أبو المجد: ومعنى ذلك كله أن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا اختار الالتزام بشريعة الإسلام وأيقن أن ما ثبت عن الله تعالى أو عن نبيه هو المصلحة بعينها، والرحمة كلها، والعدل كله، وإلا إذا أدرك الفارق الجوهري بين أحكام البشر وحكم الله، والمسلم مع ذلك كله يعرف أن النصوص لم تتناول بالتفصيل كل شيء، وأن الله تعالى بين حكمه في أشياء وسكت – رحمة بنا – عن أشياء. وهذا المنهج في التشريع تفوض لنا بالاجتهاد – ودعوة إلى استعمال العقول، واستجلاء وجوه المصالح، والمفاضلة بين الحلول والبدائل. وممارسة هذا الاجتهاد ليست كما يتوهم البعض عدواناً على النصوص، بل هي التزام بها، وبالأصول والمبادئ الكلية التي تحكم تشريع الإسلام. بين الشريعة والفقة ويؤكد الدكتور أبو المجد أن الشريعة غير الفقه، كما أن الدين غير التدين، فالشريعة هي مجموع أحكام الله تعالى الثابتة عنه وعن نبيه عليه الصلاة والسلام التي تنظم أفعال الناس، ومصدرها كتاب الله سبحانه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. أما الفقه فهو عمل الرجال في الشريعة استخلاصاً لأحكامها وتفسيراً لنصوصها. وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال بحق – فإن الفقه محكوم بكل ما يحكم عمل الرجال وسلوكهم في الجماعة. والطاعة الواجبة على المسلم إنما هي طاعة الشريعة.. وليست طاعة الفقه ورجاله. إن من حق بعض الناس – يقول الدكتور أبو المجد – إن يعجزوا عن رؤية الدنيا وهي تدور وتتغير، ولكن ليس من حقهم أن ينكروا هذه الرؤية على من أمكنه الله منها، وليس من لم يرجحه على من رأى. والذين يرفضون أن ينظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، أو يتخيلوا أن المسلمين يستطيعون أن يقيموا مجتمعهم على صورة نماذج المجتمعات الإنسانية التي قامت منذ مئات السنين، وأن يستغنوا بذلك عن الاجتهاد من جديد، أولئك يحرثون في البحر، ولن تتوقف الحياة لتناقش أوهامهم. وبعد.. فالحصيلة النهائية لإخفاق الغالبية العظمى من تجارب تطبيق الشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي، تتلخص في أنه لا يمكن أن يقيم نظام «غير إسلامي» - كما هي الحال في سودان النميري – الإسلام بأي صورة من الصور، وأن الانفصال عن الواقع والعزلة والاكتفاء بما في بطون الكتب من أحكام دون أي اجتهاد – كما هي حال تجربة «طالبان» الأفغانية و«طالبان» الصومالية أو حركة شباب المجاهدين – ستؤدي في النهاية إلى الاصطدام بالواقع وتحميل الإسلام عبء التجربة الفاشلة والإسلام منها براء. كما أن تقنين الشريعة وتطبيقها يحتاجان إلى إرادة قوية تدفع باتجاه الاستفادة من تراث الإسلام التشريعي الهائل.إن أمتنا تحتاج إلى إسلام «غير إسلامي»، أي متحرر من شعارات جماعات الإسلام السياسي التي كبلته لأكثر من قرن، وقدمت صورة مغلوطة للشريعة تتمثل في «المظاهر» دون اجتهاد وعمل حقيقي في فهم الواقع، والبحث عن حلول له تنطلق من حقيقة عبر عنها ابن القيم وهي «حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله». وقد أثبتت تجربة لجنة استكمال تطبيق الشريعة في الكويت - وهي المؤسسة الرسمية الدائمة الوحيدة في العالم- والتي لم تقدم سوى 11 مشروعاً بقانون مستمدة من الشريعة، أو مجرد تعديلات على القوانين القائمة، أن الأمر أكبر وأصعب من مجرد ترديد الشعارات الفارغة أو التعامل بالعواطف المشبوهة. وسنتوقف في الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا الملف في حوار مع رئيس اللجنة الدكتور خالد المذكور كي يتحدث عن تجربته تقنين الشريعة في الكويت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©