الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيان شهرزاد في لياليها

بيان شهرزاد في لياليها
3 نوفمبر 2010 21:15
ألف ليلة وليلة نص مركزي في الثقافة العربية، أنتجت رمزيته، رحلة طويلة في الذاكرة الجماعية، وجغرافية الإبداع، تحول معها إلى صور ذهنية، كثيفة، ملتبسة. ولأن رمزيته في المتخيل الثقافي العام ثابتة، لم تعد ماهية صور الليالي، أو نسق تشكّلها، أو مقومات بلاغتها، فهي صور إنسانية، حاضرة على جهة البداهة، تتلون بطبيعة الإدراك، وتتشرب مضمون الخبرات، وبما أن المدارك والخبرات غير حصرية، فتلك الصور في تغاير لا ينتهي. يعرض المؤلف د. شرف الدين ماجدولين في كتابه “بيان شهرزاد/ التشكلات النوعية لصور الليالي” أن صور الليالي، وجود ممتد بين الظاهر والمجرد، ينطلق من العام الذهني إلى الخاص اللفظي، ومنه إلى الأخص السردي. فهي صور ذات قواعد إنشائية ومقومات بلاغية نوعية، يمكن أن تضبط مناحي تشكلها، وتحدد آفاق أدائها المعنوي الجميل. ولما كانت صور الليالي في مسار تحققها الجمالي لا تفارق حدود الـرسم بالكلمات، فإنها تهم مسار تشكل الصور الأدبية عموما، قبل أن تتحدد جنسيا بانتمائها إلى السرد الشعبي، ونوعيا بإنجازاتها المختلفة: عجائبية وخرافية وأسطورية وهزلية... وكل التشكلات الممكنة في القص الشعبي. بالطبع فإن البلاغة تتسع باتساع قدرات التعبير النوعي المفرد، غير أنها لا تفتأ تترجم خصائص التقليد اللغوي الحاضن، والإمكانيات السردية الشاملة، قبل أن تشترط باختيارات النوع، وتقنيات النصوص المفردة. وفي هذا السياق فإن صور الليالي قد تكون استعارية، أو مجازية، أو طباقية، أو رمزية؛ غير أنها لا تقف عند هذه الحدود المشاعة بين مختلف الأجناس التعبيرية، إنها تجتبي لتكوينها الأسلوبي صور جمالية مضافة من خارج قوالب المجاورة والمشابهة، تكفلها قدرات النوع الحكائي على ابتداع وسائل تمثيلية مميزة لـرسم بالكلمات، كما تتيحها دينامية السياق النصي في تخطيط مسارات التشكيل ( طولا، وإيقاعاً، ومدارات امتداد)، وتترجمها كفاءة الذهن في تخيّل إيحاءات الصور الحسية والتجريدية، ووصل تنويعاتها المتحولة بأصولها الثابتة، بما يمنحها القدرة على الخلود في الذاكرة الجماعة صورا باذخة الأثر والظلال. استخلاص المكونات وتحوط مهمة ضبط البلاغة النوعية لصور الليالي صعوبات جمة، لعل أجلّها ما يعترض استخلاص المكونات والسمات النوعية من ضغوط الخبرة الجمالية التي تدين بأصولها إلى الزمن الحاضر، مما ينجم عنه تداخل إشكالي معقد بين مضمون تلك الخبرة، والتشكيل الفني الذي تتخذه السمات والمكونات في نوع معين من أنواع السرد الشعبي في الليالي. ويقول المؤلف إنه غالباً ما ينعكس أثر هذا الاحتدام في وعي الدارس على ما يحصل من ضوابط؛ والحق أن عملية الفصل البائن بين أجنحة الوعي تلك، وتمييز مضمون الخبرات بعضها عن بعض ليست المهمة الممكنة بشكل حاسم، بل إن كل ما بوسع الناقد المعاصر أن يقوم به، في هذه الحال، هو أن يسعى إلى الارتقاء برؤيته التحليلية إلى الأفق الذهني الثقافي الذي أطر تشكيلات صور الليالي، وأن يجهد نفسه في تمثل ملامح اشتغال كل تشكل أسلوبي على حدة، واستيعاب مناحي الجدل بين نظامه الجمالي والقيم البلاغية العامة، على ضوء ما أكسبه إياه النقد المعاصر من دربة في التمييز بين أساليب الصور التعبيرية المختلفة في السينما والشعر والتشكيل والفوتوغرافيا... ما يميز كتاب ألف ليلة وليلة، ويحشره في زمرة النصوص الخطيرة والمركزية في الثقافة الإنسانية، أنه حمّال أوجه، وأنه تحول في حاضر الثقافة العربية إلى نموذج اختباري لرصد تطور آليات البحث النقدي، والوعي بمشروع الأدبية. ومن هذا المنطلق فليس من المستغرب أن تظل الليالي العربية إلى ما شاء الله موضوعا متقد الغواية في نظر الباحثين، يفجر باستمرار أسئلة قلقة، ويوحي في كل مرة بشتى ألوان الرؤى والمقاربات؛ كشأن البحث في الصور الذي نزمع من خلاله معاودة النظر في الكتاب، باعتباره موضوعا قابلا لقراءة جديدة من منظور التنوع البلاغي الذي يفترضه، وأنطولوجييا بالغة الثراء لتداخل قيم الأساليب والأنواع، وتقاطعها مع مرجعيات الواقع الحسي الأكثر جلاء وإشراقات الحلم الغامض الأكثر انغلاقاً. فإذا كان كتاب ألف ليلة وليلة نسيجاً من الأنواع القصصية القائمة على التأليف بين ثنائيات: الواقع والخيال، التاريخ والأسطورة، الحقيقة والمثال، اليومي، الشعري والنثري... إحالة ذهنية يعرض المؤلف أيضاً كيف ترتكز صور الليالي في أنواعها المتعددة على العنصر الصوري المهيمن، الذي يضحى عمادها في الإحالة الذهنية والجمالية على سياق التأليف الأسلوبي، وكذا على الوقائع المرجعية. فهو الضابط لإيقاع تصاديها وتساندها البنائي، وهو دعامة توالدها وتناميها النصي. وهكذا لا تستوعب الصور العجائبية بمعزل عن العنصر الخارق، ولا الصور الخرافية بمعزل عن العنصر الرمز، كما لا تتجلى تقاسيم الهزل النوعي في صور الحكايات المرحة بمعزل عن عنصر المفارقة، فتلك العناصر وغيرها في باقي الأنواع هي مفتاح التمايز النوعي للصور، والمكون الأكثر بروزا لمحلل الأسلوب الحكائي. ويقول المؤلف: لن تتجلى الفوارق النوعية بين صور الليالي دون أن تحيل على نظم بلاغية متباينة بيد أن هذه النظم لا تختلف كل الاختلاف، إذ يصل بينها السياق التخيلي العام الذي هو السرد الشعبي. ومن ثم فإن ائتلافا ما ينهض بين مقوماتها الجمالية، بالنظر إلى حجم وكيفية ارتكازها على إحدى صيغتي الأسلوب في الإحالة على الواقع، وتمثيل مظاهره. وبذا نكون إزاء نسقين بلاغيين جامعين، أولهما وليد الصيغة العليا للأسلوب، والثاني وليد الصيغة الدنيا. ثم إن صور الليالي نموذج مثالي للمزاوجة الأسلوبية بين الشعر والسرد، نتاج لتلاقي إمكانيات الصور الشعرية والسردية بوصفها وسائل تعبيرية متمايزة، لا يعوض بعضها الآخر، ولا يجاوزه، وإنما يستكمل وظائفه الإبهامية، ومقاصده التخيلية، ومراميه التأثيرية، وإنفاذ مغزاها، على نحو منسجم لا يشوبه خلل أو تعارض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©