الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«عقدة بينوكيو» حيلة أبدعها كارلو كولودي لتصنيف أكاذيب البشر.. أنف الكذب الطويل

«عقدة بينوكيو» حيلة أبدعها كارلو كولودي لتصنيف أكاذيب البشر.. أنف الكذب الطويل
8 نوفمبر 2018 01:14

د- العادل خضر

من هو «بينوكيو»؟ إنه، من جهة اسمه، يعني حبة بُندق من الصنوبر، ولكنه من جهة السلالة كآدم مخلوق مصنوع لم يولد من أب ولا من أم.
فإذا تأملنا في قصة الخلق في آي القرآن أو في سفر التكوين، من منظور فني تقني «بويطيقي» متخلص من التصورات اللاهوتية التي رافقت هذه القصص وغيرها من القصص الدينية جاز لنا أن نرى في قصة خلق آدم أمراً آخر هي قصة صناعة الإنسان الأول. وهي صناعة قد استمدت تقنياتها في نظر الأنثربولوجيا الفلسفية من صناعة الخزف وعلوم النفخ. ذلك أن خلق آدم، أو الإنسان الأول، كما تنقل لنا القصة التوراتية والقرآنية، قد مر بطورين متواليين في خلقه: تشكيل الطين في صورة قد اتخذت هيئة جسم أجوف، ثم النفخ في تجاويف ذاك الجسم. يؤكد ذلك ما جاء في القرآن: «وَإِذْ قَالَ رَبُكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (سورة الحجر، الآيتان 28 و29)، أو ما ورد في العهد القديم: «وَجَبَلَ الرَبُ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَةً» (سفر التكوين، الإصحاح الثاني، 7). فالخلق لم يكتمل إلا بالنفخ في تجاويف الجسم. ومن دون هذا الصنيع ما كان للإنسان الأول أن ينقلب إلى كائن حي.
كذلك كان «بينوكيو» كائنا مصنوعا، ولكن بيد الإنسان. فهو لم يُخلق من الطين وإنما ابتُدِع من قطعة حطب، بيد نجار يدعى جيبيتو Geppetto صنع منها دمية لم تتحرك بالخيوط على غرار الدمى في مسرح العرائس، بل بمعجزة خارقة جعلت الحَطَبَة الجامدة تتحرك كالحيّ الناطق وتنفلت من قبضة صانعها، وتنقلب في النهاية إلى بشر سوي بعد مغامرات كثيرة.

أنف الكذب
ورغم أن رواية «بينوكيو» تستحضر بقوة قصة الخلق البشري لتقرّبها بلطف إلى ذهن الطفل، فإن «كارلو كولودي» قد أعاد حبكها بطريقة مرحة لما جعل كل عضو من أعضاء «بينوكيو» يعبث بجيبيتو كلما فرغ من نحته وتسويته كالعينين المبحلقتين المتحركتين، والفم الضاحك العابث، والأنف الذي ما إن فرغ من تصويره حتى طال وطال إلى أن بلغ طولا عجيبا، فقصّره النجار، إلا أن الأنف ظل يطول غير عابئ بقلق صانعه. بل ظل يقصر ويطول في مشاهد عديدة من الرواية كلما كذب «بينوكيو» وأمعن في الكذب. ففي المشهد الذي جمعه بالجنية بعد شفائه من المرض، تسأله أين وضع قطع النقود الذهبية؟ فيكذب ثلاث كذبات متتاليات أضحكت الجنية من «بينوكيو». فيسألها عن سبب ضحكها؟ فتجيبه: بسبب أنفك الذي ما فتئ يزداد طولا، «أضحك من أكاذيبك». فيسألها «بينوكيو»: «وكيف عرفت أني كذبت؟». فتجيبه الجنية: «بني، الأكاذيب تُعرف على الفور. منها الأكاذيب التي حبلها قصير، وتلك التي أنفها طويل. ومن الواضح أن أكاذيبك من الصنف الثاني». (بينوكيو، الفصل17، ص101).
هذه الطريقة في تصنيف الأكاذيب تبدو غريبة للوهلة الأولى، إلا أنها تصدق على بعض الوقائع الأدبية النادرة. ففي رواية «مغامرات بينوكيو»، على سبيل المثال، كان الأنف، أو هذا الجزء من «القطعة الخشبية»، ينمو بالكذب ويطول بقوة الكلمة الكاذبة. وفي ذلك إشارة إلى أن الحقيقة يمكن أن تُقال على أنحاء شتى، منها الحقيقة التي تُقال بعدم قول الحقيقة، أو بقول آخر مخالف لها يُخفيها ويُزيّفها. فالأنف الطويل هو طريقة في مراقبة الكلام الكاذب، ليُعرف صدقه من كذبه بنتوء بارز في الأنف وتغيّر في الحجم والطول والهيئة، وهي كلها علامات لا تكشف الكذب، بل تفضح الكاذب وتظهر نواياه. هذا التوتر بين القول والحقيقة، وقد اتخذ في رواية «كولودي» استعارة الأنف الطويل، هو ما نسميه «عقدة بينوكيو».
فقد كان الأنف منذ بداية خلقه وصنعه متمرداً على صانعه يأبى أن يتخذ الحجم المناسب له. فكلما قصّره صانعه طال حتى صار ذلك النتوء البارز على نحو مشط عنوان تمرد المصنوع على صانعه، وخروج الابن على أبيه، وانقلاب العبد على سيده. بيد أن هذا التمرد يبلغ أقصاه حين ينفصل الأنف عن الوجه رغم إرادة صاحبه ودون علم منه. وذاك لعمري شيء غريب بالغ الغرابة بإقرار نيكولاي غوغول Nikolaï Gogol نفسه كاتب قصة «الأنف». ففي نهايتها يعترف ملخصا حوادث القصة الغريبة ووقائعها العجيبة بقوله: «فإلى جانب أنه من غير المعقول أن يختفي أنف بمثل هذه الطريقة الخيالية، ثم يُعاود الظهور في أجزاء مختلفة من مدينتنا في هيئة مستشار دولة، من الصعب الاعتقاد بأن كوفاليوف كان على هذه الدرجة من الجهل بأن يصدق بأن الجرائد ستقبل بنشر إعلان عن الأنوف». (غوغول، الأنف، ص.ص119-120). فقصة «الأنف»، وهي تروي وقائع فرار أنف من وجه صاحبه ومغامرة البحث عنه التي تنتهي بعودته إلى مكانه كأن شيئا لم يقع، إنما تروي بأسلوب عجائبي قصة أخرى موضوعها جدلية السيد والعبد الهيغلية. فالسيد لا يكون سيدا إلا باعتراف العبد. فإن شقّ العبد عصا الطاعة وتمرد نُكل به تنكيلا من آياته الوحشية في تاريخ التعذيب جدع الأنف. يكفي أن نستحضر في هذا المقام قصة المثل العربي الشهير «لِأمرٍ (أو لِمَكْرٍ) مَا جدع قَصِيرٌ أنفه» حتى نعلم أن سلطان الملوك قديما لا يكون جليا مرئيا إلا بوصم الأجساد بالنار والحديد. ولئن كان «قصيرٌ» في قصة المثل قد جدع أنفه بنفسه وأحدث بيده آثارا في مظهره فلأن «الطاغية» في الوعي السياسي القديم يمتلك أجساد العباد وأرواحهم ويمتلك حق الإحياء والإماتة. وليس جدع الأنف سوى سيناريو مقنع دبره «قصير» ليحتال على الزباء ملكة الجزيرة ويحملها على الاعتقاد بأن ملكه عمرو بن عدي هو الذي مثل به تمثيلا، فتصدّقه وتُجِيرَه ويتمكن منها بعدئذ، فينتقم لملكه جَذِيمة الأبرش الذي قتلته الزباء ثأرا لأبيها... ولكن متى أنكر العبد سيده لا يفقد السيد سيادته فحسب، وإنما يتأجج شوقه إليها، وإلى اعتراف العبد به. وقد اتخذ هذا الشوق في قصة غوغول شكل رغبة عاتية في استعادة «الأنف» الهارب من وجه مولاه، والهارب بوجاهته أيضا ومكانته بين وجوه الناس. فالوجاهة من الوجه، والأنف هو جزء من تلك الوجاهة لا يدرك السيد أنه من خواص سيادته ووجاهته إلا إذا فقده.
ولكن إن كان انفصال الأنف عن صاحبه في قصة غوغول يمثل أسلوبا مخصوصا في التمرد على السيد، فإن التمرد قد اتخذ من الكذب وسيلة للانفلات من سلطة الأب في رواية «كولودي». إلا أنه (أي الكذب) في روايات أخرى كان يُترجم، بوجوهٍ مختلفة، «عقدةَ بينوكيو»، أو هذا التوتر الحاد بين القول والحقيقة. ولما كانت الأكاذيب أصنافا «منها الأكاذيب التي حبلها قصير، وتلك التي أنفها طويل» كانت الأنوف بدورها أنواعاً مختلفة لا قاسم مشترك بينها سوى أنها صارت قبل أوانها آلات لاكتشاف الأكاذيب.

أنواع الأنوف
من هذه الأنوف نوع استثنائي احتدت عنده حاسة الشم وقويت ولطفت حتى صارت تكتشف ما لا تستطيع أنوف البشر اكتشافه، «ذلك أن شم الإنسان ضعيف، وليس يُحسِن شيئا من الأشياء المشمومة إلا من جهة ما هو مُلِذٍ ومُؤْذٍ»، (أبو الوليد ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، ص85). ورغم هذا الضعف الذي جُبِلَ عليه، نجد دائما الاستثناءات العجيبة. من هذا النوع الاستثنائي بطل رواية «العطر» جان باتيست غرونوي (الضفدع) Jean-Baptiste Grenouille، الذي كان يمتلك أنفا خرافيا يتشمم به كل الروائح من مسافات بعيدة. وفي رواية «الحب في زمن الكوليرا» لغابريال غارسيا ماركيز كانت شخصية «فيرمينا داثا» زوجة الدكتور «خوفينال أوربينو» تمتلك أنفا من طراز خاص. فقد كان من عادتها شم الملابس التي يخلعها أفراد العائلة. ولم تكن هذه العادة تفيدها «في غسل الملابس أو في العثور على أطفال ضائعين» فحسب، وإنما في شم «الملابس التي استخدمها زوجها مساء اليوم السابق بشكل روتيني محض، فأحست بقلق أن رجلا آخر هو الذي أمضى الليل في فراشها. شمت السترة أولا ثم الصدرية [...] ثم شمت القميص المجعد وهي تحل ياقة ربطة العنق [...] ثم شمت البنطال وهي تخرج من جيوبه حمالة المفاتيح [...] وشمت أخيرا السروال الداخلي والجوربين والمنديل المطرزة عليه الحروف الأولى من اسمه. ولم يكن هناك من ظل لأدنى شك. ففي كل قطعة من ثيابه كانت تجد رائحة لم تكن فيها خلال سنوات حياتهما المشتركة الطويلة، رائحة يستحيل تحديدها، لأنها ليست رائحة زهور ولا رائحة مستحضرات اصطناعية، وإنما رائحة خاصة بالطبيعة البشرية. لم تقل شيئا، كما لم تعد تجد تلك الرائحة كل يوم، لكنها ما عادت تشم ملابس زوجها بفضول لتعرف ما إذا كانت بحاجة للغسيل، وإنما بجزع لا يُطاق كان يكوي أحشاءها». (الحب في زمن الكوليرا، ص211).
فأنف فيرمينا الذي كانت تفتخر به بقولها: «إن الله لم يضع لها في وجهها ذلك الأنف المدقق لمجرد الزينة» لم تكن تعلم أنها ستستخدمه ذات يوم لاكتشاف خيانة زوجها لما تشممت رائحة عشيقته الملتصقة بثيابه. فالخيانة قد اتخذت هاهنا شكل سر لا يُستحب إفشاؤه، ولأجل ذلك كان يُحْظَر قوله. فالسر لا يكون سرا إلا إذا كان مصونا محفوظا. فهو قول لا يُقال وحقيقته لا تقال، ولكنه حين يُفتضح نعلم في النهاية حقيقة السر. فهو «لا يخفي أبدا الحقيقة، وإنما يحجب أكذوبة. فإستراتيجية السر تنهض على إرادة مخادعة الآخر». هذه الإستراتيجية تترجم «عقدة بينوكيو» لما افتضح أمر «تلك الرائحة»، فلم تفلح استراتيجية السر في حجبها أو إخفائها. فالرائحة في هذه الأمثلة تُذكر بدور الأنف المنسي في تاريخ الفلسفة والأدب وعلاقته العجيبة بالحقيقة والكذب والتفكير والتأمل، بل هي تذكر بهيمنة العين والأذن على حساب الأنف والفم، لأن استنشاق الروائح وتذوق المآكل، إنما هي من الأنشطة الحسية القريبة من نشاط الحيوان. فالأنف يذكر بحيوانية الإنسان، مثلما تذكر بوجود الأنف رائحة العطر الطيبة، وكذلك الرائحة الكريهة.

الحقيقة والشمّ
في هذا السياق يمكن أن نتساءل: ما العلاقة بين قول الحقيقة والأنف؟ هل للحقيقة رائحة تُشم بالأنف؟ أم توجد فئة من الحقائق لا تدرك إلا بالشم؟ يبدو أن هذا الأنموذج من حقائق الأنف قد كان لنيتشه فضل استخدامه في الحقل الفلسفي. أو لم يقل في بعض ما باح به: «إنني أول من اكتشف الحقيقة، بسبب أنني أول من تشمم، وأول من تنسم الأكذوبة على أنها كذب [...] فعبقريتي برمتها تكمن في منخري». (نيتشه، ذلك هو الإنسان، ص187.). فعبقرية الأنف صارت تتمثل في عدم اعتبار الرائحة من نسق ما يشم فحسب، وإنما من نسق فكري قريب من التحقيق البوليسي، أو التشخيص الطبي، حيث يُعرف جوهر الحقائق بتحليل روائحها.
ولعل أول من اكتشف روائح الحقيقة قبل نيتشه فيلسوف إغريقي من الذين طمس تاريخ الفلسفة الغربية ذكرهم، فلم يبق من رسمهم سوى الاسم وبعض الطرف والنوادر التي تشير إلى أن فلسفتهم كانت تدور على اللذة، وفن المتعة. هذا الفيلسوف الما قبل سقراطي هو أريستيبوس Aristippe صاحب مدرسة القورنيائيين les cyrénaïques الفلسفية. ومما اشتهر به هذا الفيلسوف أنه كان يتعطر إذا انتصب في الأغورا Agora، الفضاء العمومي بأثينا، لابسا زيّ النساء مخالفا سمت الفلاسفة الكبار الذين كانوا يعلّمون وهم جلوس لا يتحركون. وهو يتعطر لأنه كان يعلم أن الحقائق لا تثني الأعناق إليها ولا تُشنف الآذان ولا تكون لائذة بالقلوب إلا إذا تعطرت روائحها، واستعذبت الأنوف ريح الكلام العَطِر.
ويبدو أن هذا البرنامج الفلسفي في كشف الحقيقة بالأنف قد نُفِذَ في بعض الروايات العربية. آية ذلك أن رواية فقيد الأدب التونسي الأستاذ حسين الواد «روائح المدينة» تكاد تكون تنفيذا روائيا لهذا المنحى الفلسفي في تنسم الحقائق باستنشاقها. فقد كان كل فصل من فصولها ينفتح بهذه اللازمة الثابتة «أنا لا أتحدث عن...»، لا يتغير منها سوى الموضوع. وهو دائما مكان من أمكنة المدينة المختلفة كان قادح الحديث عنه ما ينبعث منه من الروائح. من ذلك الروائح المنبعثة «من ميضأة جامعها القديم»، أو«من خنادق معاصر الزيتون»، أو «من أسواق مدينتي يوم سوقها الأسبوعية»، أو «من الحوانيت الكبيرة...»، أو «من أفران حرق الدخان والآجر...»، أو «روائح أخرى تعبق بها مدينتي مخيمة عليها أخشى أن يغضب علي أهلها إن أنا هتكت لهم سترا أو عريت من غير قصد فضيحة كانوا يسترونها عن أجوارهم...»، أو «روائح بمدينتي كانت تنبعث لينة صبا خفيفة رخية ثقيلة قوية عاصفة فظة حامضة مُرة كاوية محرقة جحيما من حاراتها الأربع...»، أو «من ناحية الحبس»، أو «من ناحية السبخة بجنوبها...»، أو «رائحة أخرى أصبحت شديدة التضوع بمدينتنا.»، أو «رائحة أخرى أصبحت بمدينتي [...] طلبوها أكثر ما طلبوها في المقاهي».
وقد اجتمعت في فصول هذه الرواية «روائح المدينة» وتضافرت لصياغة هوية المدينة السردية انطلاقا من تجربتها الأنفية. وقد شكلت كل الروائح المنبعثة من أفضية المدينة المختلفة، «شلالا من الاستعارات الفضائية»، هي خليط من الانطباعات التي مضت وأخرى بقيت، كرائحة كعكة «المادلين» عند بروست، متى فاحت لا تخلف شيئا سوى مذاق غريب نفاذ هو مذاق الزمن المحسوس. فهذه الاستعارات تسعى إلى قص زمن المدينة المحسوس انطلاقا من روائح أمكنتها المختلفة. فلا بطل في هذه الرواية سوى «روائح المدينة» ذاتها. وهي لا تقص علينا «فساد الأمكنة»، وإنما فساد الروائح وتحولاتها المنبئة بتحولات المدينة ذاتها.
غير أن أطرف ما في هذه الرواية هو علاقة الحقيقة بالأنف. ففساد الروائح ليس نابعا من فساد الأشياء والكائنات والموجودات التي تعمر فضاء المدينة بأسره، وإنما من فساد الأنوف نفسها. فهي تشم روائح فساد «خبيث الإيذاء معدي النتن»، ولا تقول حقيقة ما شمته، ولا تبوح بحقيقة المشموم. فبين الرائحة وحقيقة الرائحة التي لا تُقال توتر شديد تمثل في «قول ما لم يشمه الأنف» و«عدم قول ما شمه الأنف».
وهذا التوتر بين الحقيقة والأنف، أو بين الحقيقة والرائحة، هو وجه آخر من «عقدة بينوكيو». وهو يحملنا على طرح الأسئلة التالية: هل يمكن كتابة قصة مدينة انطلاقا من روائحها؟ ثم إذا كانت «روائح المدينة» قصة كبرى صنعت من أكاذيب سكانها، بجعل روائح المدينة الكريهة طيبة، ألا تكون الرواية، وهي تُحاكي القصة الكبرى، عملَ فضحٍ طويلٍ لا يقتصر على نقل ما قيل عن الروائح، وإنما يقوم على فضح أنوف المدينة وقد أصابتها عقدة بينوكيو؟ فبين حقيقة الروائح، وأسرار الأنوف، مسافة لم تعد تُقاس بطول الأنف أو قصره، بل بما بين القول والحقيقة من خطأ وصواب، خاصة حين يُخلف القول مقصده فلا يُصيبه، وهو إخطاء تستشعره الأنوف فتطول أو تقصر بحيث أن مقياس الحقيقة هو الأنف. إلا أنه مقياس لا يمثل في كل الأحوال سوى الصنف الأول من «الأكاذيب التي حبلها قصير».

الأدباء وأنوفهم
أما صنف «الأكاذيب التي أنفها طويل» فإنها تتميز بأن الكاذب فيها أنفه طويل كأنف بينوكيو، أو كالشاعر الروماني أوفيد Ovide المُكنى بصاحب الأنف الكبير أو «نازون«Nasone، أو كشاعر البصرة أبي الشمقمق، وكان عظيم الأنف، كان يأخذ من جوائز الشعراء «الجزية» أو نصيبا منها حتى لا يهجوهم بسخيف أشعاره التي كان يغنيها الصبيان، أو كأنف»سيرانو دو برجراك «بطل مسرحية» سيرانو دو برجراك«Cyrano de Bergerac لإدموند روستان Edmond Rostand، فهذه الشخصية الفريدة التي صارت تضاهي بشهرتها الواسعة أبطالا آخرين كهاملت ودون كيخوته وفاوست، كانت تفوقهم بفصاحتها المفرطة، وبعظمة أنفها وطوله. وهو طول قد افتخر به»سيرانو دو برجراك«أيما افتخار في»معرض الأنوف» la tirade des nez الشهير الوارد في المشهد الرابع من الفصل الأول من المسرحية. ففيها أصبح الأنف موضوعا أدبيا وتمرينا من تمارين الأسلوب والبلاغة والمبالغات التي بلغ فيها الأنف حجما عظيما دفعت سيرانو إلى أن يقول مفتخرا: «ليس هذا بأنف، إنه لصخرة ناتئة من جبل، [...] أو رأس مشرف على بحر، لا والله، بل إنه في الحق أدنى إلى شبه جزيرة شبها». وإذا كان أنف سيرانو عظيما بفضل قوة العارضة وفصاحة اللسان فإنه في دائرة الحب يصبح عائقا العوائق. فقد كان ذاك الطول البارز في أنفه يمنعه من أن يبوح لروكسان، ابنة عمه، بحبه لها. وهو حب يكاد يكون مستحيلا، لأن روكسان نفسها كانت عاشقة للبارون كريستيان الذي كان يبادلها الحب، ولكنه كان بدوره عاجزا عن الفوز بها، لأنها كانت بلغة ذاك الزمان الأدبية، «ثمينة» précieuse، تنتمي إلى حلقة «الثَمِينَات»، وهي موضة أدبية أطلقتها عاشقات الأدب من نساء الطبقة النبيلة لتجميل اللغة الفرنسية في منطوقها ومكتوبها.
وبسبب قصوره اللغوي وتقصيره الأدبي كان كريستيان عاجزا عن الكلام على الحب بالأسلوب الراقي. فأنجده «سيرانو دو برجراك» ببلاغته ورونق عبارته حتى يبوح على لسانه بحبه الشخصي لروكسان. وقد استمرت هذه الخدعة إلى آخر مشهد من المسرحية لما اكتشفت روكسان أن «سيرانو دو برجراك» كان يقرأ في الظلام آخر رسالة بعثها كريستيان إليها قبل موته. وهذا يعني أنه كان يحفظها عن ظهر قلب لأنه كان كاتبها الأصلي، بل كان كاتب كل الرسائل، وناظم جميع كلمات الحب التي قرأتها وسمعتها دون أن تعرف الحقيقة. فالأنف الطويل كان يمنع صاحبه من البوح بحبه والجهر بالحقيقة إلا من وراء حجاب وباسم آخر وبوساطة عاشق آخر. هذه الطريقة في الكلام تسمى انتحالا، وهي أن يُوقع العاشق كلامه باسم آخر غير اسمه. وهذا الانتحال يزج بأقاويل سيرانو المنطوقة والمكتوبة في الصنف الثاني من الأكاذيب التي أنفها طويل. أَوَ لم يكن سيرانو طويل الأنف كبينوكيو؟ ألا يعرب الانتحال بأسلوبه الخاص عن «عقدة بينوكيو»؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©