الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صرخة ميت

صرخة ميت
21 أغسطس 2014 20:10
قبل ذلك لم أكن أعرف أن كيد الشيطان كان ضعيفا فعلا وأن كيد البشر وخاصة النساء عظيم ومكرهن بلا حدود، وتفوقت بنات حواء على كل ألاعيب إبليس وأعوانه ما حدث لي لا يصدقه عقل ولا يصل إليه خيال كاتب أو مؤلف دراما من بنات أفكاره، فلا أعرف كيف تحول الملاك إلى شيطان، وكيف وقعت في تلك الخدعة الكبرى على مدار سنوات طوال فهذه «سمر» ابنة العشرين ربيعا استوى عودها واكتملت أنوثتها وكأن ذلك يحدث فجأة أمام عيني رغم أنها منذ أن شبت عن الطوق طفلة صغيرة وهي تكبر يوما بعد يوم. إلا أنها لم تلفت نظري إلا في هذا اليوم وأنا عائد من عملي كان إحساسي يومها غريبا فقد استطاعت أن تشق قلبي وأن تسكن فيه وتتربع على عرشه. بوادر عشق لأن الفتاة جارتي وأهلها بمثابة أهلي رغم أننا لا تربطنا صلة قرابة، ولكننا هنا يربطنا ما هو أقوى من صلات الأرحام ونحن نتبادل الود والاحترام ويتفانى بعضنا في خدمة البعض الآخر، الغرباء عنا لا يستطيعون معرفة ما بيننا من وشائج ولا درجة القرابة، وسمر وحيدة أبيها وأمها فنعتبر أنفسنا جميعاً إخوتها نخاف عليها، وبالطبع كلنا تحكمنا الأصول والعادات والتقاليد الراسخة التي لم تتغير مع المدنية ولا مع تطورات العصر، وهي تصغرني بخمس أو ست سنوات، وقد انتهت من دراستها المتوسطة وحصلت على شهادة الدبلوم، ولم تعمل ومنذ أن تقاعد أبوها وهي تتولى مسؤولية تلك الأسرة الصغيرة. كان إحساساً غريباً ما شعرت به في هذا اليوم من شهر يناير، حيث برودة الجو التي لا تحتمل ودرجة الحرارة تقترب من الصفر، وكنت في مثل تلك الليالي أكاد أتجمد أضع فوقي الكثير من الأغطية المصنوعة من الصوف لكي أتدفأ، بينما في تلك الليلة وجدتني لا أريد أياً من هذه الأغطية على الإطلاق، بل أعاني من ارتفاع درجة حرارة جبهتي لا أكاد أستطيع التفكير، ولم أتمكن من توصيف هذه الحالة وخاصة أنني أعتقد أنني لست مريضاً ولا أعاني من أي آلام، أفكاري مشتتة وغير قادر على التركيز في شيء، وفي نفس الوقت لم أتمكن من النوم الذي جافاني على غير العادة وأنا الذي يحسدني من حولي على سرعة النوم بمجرد أن أضع رأسي على الوسادة، أخيرا تنبهت أنها بوادر داء العشق قد أصابني أول سهامه ولا أعرف كيف أتصرف، وخاصة أنني لا يمكنني التخلص منه بسهولة ولا حتى بصعوبة فالأمر في النهاية ليس في يدي وإنما في قلبي ولا أعرف كيف أتعامل معه. أحلام تتحقق عندما رأيتها في اليوم التالي وجدت كل ما فيها جديداً كلها بكامل تفاصيلها مختلفة عن تلك التي عرفتها من قبل زلزلت كياني وأربكت وجداني وهزت استقراري وخلخلتني من ثباتي، ليس أمامي إلا طريق واحد هو الدخول في الموضوع مباشرة ودخول البيوت من أبوابها وطلب يدها من أبيها، وقد حصلت على موافقة أسرتي على ذلك ابتداء، لا أبالغ إذا قلت إن هذا اليوم كان أسعد أيام حياتي كلها على الإطلاق وبدأت أحلامي تتحقق بقراءة الفاتحة، وإعلان الخطبة رسميا وشارك كل أبناء المنطقة في صنع الفرحة وترتيبات الحفل المحدود الذي لم يكن رسميا ولا في فندق من ذوي الخمسة نجوم وإنما جلسة عائلية في بيت العروس وتجمع الشباب في الشارع يرقصون ويغنون ويهنئون. همست سمر في أذني بشكل رقيق متسائلة عن عشنا الهادئ السعيد أين سيكون وفيما أفكر وأين أبحث عن مكان منزل الزوجية ضربت على الوتر الحساس الذي يشغلني فعلا، فإمكاناتي لا تسمح لي بشراء شقة في الوقت الراهن من راتبي الضعيف فكنت أفكر معها بصوت عال، واقترحت أن نلجأ إلى استئجار شقة وهذه تتيح لنا الاختيار المريح، لكنها استأذنت بوداعة شديدة في أن أسمح لها بأن تطرح رأيها في هذه الإشكالية، فقلت بالطبع نحن شريكان في كل ما يخص حياتنا من الآن فصاعدا بل يجب أن تدلي بدلوك، وشعر كلانا بالارتياح من هذا الحوار الرقيق، واعتدلت نحوي وقال لعله من الأفضل أن ننتظر قليلا وأن تسعى للسفر إلى الخارج وبذلك نستطيع أن نشتري شقة تكون ملكنا ولا نكتوي بنار الإيجار الذي يمكن أن يستنزف دخلنا ويؤرقنا ويؤثر على مستوى معيشتنا. رأي سديد استحسنت المشورة وارتضيت بهذا الرأي السديد ومن اليوم التالي توجهت إلى مكتب السفريات وقدمت جواز سفري طالبا البحث عن فرصة مناسبة، ولم تمض إلا أسابيع معدودة حتى وجدت من يهاتفني وطلب مني الاستعداد للسفر خلال أيام بعد أن أعد لي العقد وانتهى من كل الإجراءات، كدت أنا وخطيبتي أن نطير فرحا ولم تسعنا الدنيا من السعادة، ونحن نرى أحلامنا تتحقق كما نريد، وحملت حقائبي وأنا في خليط متناقض من المشاعر بين سعادتي بالانطلاق نحو الأمل وبين ألم فراق خطيبتي، ولأول مرة أكون محروما من رؤيتها لولا الملامة لبكيت حتى أستريح وتماسكت كي لا تفضحني عيوني في لحظات الوداع. تأجج الشوق لرسائل سمر التي تتأخر كثيرا في البريد واحيانا تضل طريقها فلا تصلني لم يكن في هذا الوقت قد انتشر الكمبيوتر ولا الهواتف النقالة، فكنت أعاني الأمرين كي اتصل بها على هاتف المنزل، لم يكن يمنحني الصبر إلا أنني أجمع ما أستطيع من مال لكي نكون معا بلا قطيعة في بيتنا، ولعل ذلك يكون قريبا وتمر ليالي الغربة ثقيلة بطيئة طويلة تكاد تشبه ليالي السجن، لكن هذه أضع نفسي فيها طواعية، وقد أقنعتني خطيبتي بأن أحوّل على حسابها في البنك كل ما يقع بين يدي من أموال حتى إذا وجدت شقة مناسبة اتخذت الإجراءات فورا، وقد كانت تطلعني من خلال الرسائل وفي الإجازات السنوية على جهودها وتستشيرني في كل خطوة صغيرة أو كبيرة. قرار العودة المهم أننا خلال أربع سنوات كنا نتملك شقة صغيرة في مكان قريب من منطقتنا وتزوجنا، وعدت إلى الغربة لأواصل مشوار جمع المال كان بلا نهاية ولا حدود لأحلامها بل قل لمطامعها التي ظهرت جلية تحت ستار تأمين مستقبلنا ومستقبل أبنائنا الذين أنجبناهم تباعا وأصبح عندنا ابنتان وولدان، لكن حتى الآن لن أستمتع بالمعيشة معهم كنت محروما منهم وإن كانوا في حاجة لي فأنا في أشد الحاجة إليهم والأيام تمضي والعمر يجري رغم بطء أيام الاغتراب وزوجتي تنتقل من ذريعة إلى أخرى ومن سبب إلى آخر وهي تؤجل عودتي أو تمنعني من العودة حتى وصلت إلى درجة عدم الاحتمال، ويكفي ما ادخرته حتى الآن، فالمال لا يشبع منه إلا الزاهدون واستجمعت شجاعتي واتخذت قراري منفردا بالعودة وبدلا من أن تسعد زوجتي بذلك وجدت وجها غير الذي عرفته وعشقته من قبل وضحيت كل هذه السنين من أجلها. لم أجد في بيتي مودة ولا رحمة، كل الحوارات بيننا جافة أو نقاشات حادة تنتهي بشجار وخلاف يجعلني أترك البيت ولا أستطيع البقاء فيه وكل هذا لم يكن يساوي شيئا، إلى جانب ما عانيته في فشل محاولات استمالة أبنائي والتعامل معهم مثل كل أب، لأن زوجتي استطاعت أن تخلق بيني وبينهم فجوة كبيرة تتسع كل يوم؛ فقد أقنعتهم زورا وظلما وبهتانا بأنني لا أستحق أن أكون أبا بعد هذا الذي عانيته وقدمته من أجل الجميع، واستخدمت كل الوسائل والقسوة لتخيفهم وتزرع فيهم الرعب مني رغم أنني أبذل جهدي وأتعامل معهم بكل رفق حتى استشعرت أنهم في حالة من الضياع بيننا، ولم أرد أن أضعهم في حالة من التناقض والمعاناة. تصاعد التوتر لم تستمر الحال حتى على هذه الأوضاع المقلوبة، بل هجرتني زوجتي المصون وفرضت عليّ عزلة إجبارية، وباعدت بيني وبين أبنائي أو بالأحرى فصلت بيننا تماما، تتعامل معي بطريقة عسكرية تصدر الأوامر وليس أمامي إلا أن أنفذ بلا نقاش، فليس من حقي الاعتراض، وفي كل مرة يأتي أمرها مصحوبا بالتهديد أنني إذا لم يعجبني ذلك فالباب يتسع لخروج جمل فهي بالفعل تطردني من بيتي الذي لم يعد لي فيه شيء، أدركت مؤخرا أنها قد استولت على كل مدخراتي، وأنفقت منها كما يحلو لها واستغلت أن الحساب باسمها وأنني كنت ارسل لها كل الأموال وأنا الآن صفر اليدين والناس من حولي يتندرون على سذاجتي، ويتساءلون كيف أنني أمنت لها إلى هذا الحد. ليست هذه هي المرأة التي عرفت وضحيت من أجلها، ليست الملاك الذي كنت أعشقه وأضحي من أجله، ليست أم أبنائي، ليست التي من عشت سنوات من الحرمان من أجل إسعادها، ليست الفتاة الرقيقة التي سحرتني بهدوئها ورجاحة عقلها هذا العقل الذي اكتشفت أنه خطط لتدمير حياتي وتلك الرقة والنعومة التي كانت وسيلة لاستدراجي مثل الحية الرقطاء، هذا السحر الذي تمكنت به أن تغيّب تفكيري، وليت الأمر توقف إلى هنا بل كل طعنة كانت أكثر إيلاما من سابقتها فهذه المرة طردتني فعلا من بيتي، واضطررت إلى قبول ذلك حتى لا يتأثر الأبناء بتلك الأجواء المشحونة والمتوترة، وأقمت في غرفة فوق سطح بناية قديمة أغسل ملابسي بنفسي وأنا الذي تخطيت الخمسين من عمري أعيش وحيدا مطرودا لا أجد حتى من أشكو له فأبكي حتى أستغرق في النوم. شهادة وفاة دفعني الحنين لرؤية أبنائي فتوجهت إلى المدرسة لأطمئن عليهم فكانت المفاجأة المذهلة أن مدير المدرسة يخبرني بوجود شهادة رسمية بأنني «ميت» قدمتها زوجتي لكي تحصل على إعفاء من المصروفات المدرسية، بالطبع لم أصدق ولم يصدق الرجل أنني والد هؤلاء التلاميذ وظن في البداية أنني محتال أو لص جئت لأخطفهم، ولم ينقذني إلا أن الأبناء ارتموا في أحضاني وهم ينادونني «بابا» وقد خرجت وأنا لا أعرف إلى أين اذهب ولا من أين أتيت. ومن جبروت المرأة التي لا تستحق أن أقول إنها زوجتي فإنها عندما علمت بتلك الواقعة توجهت إلى المدرسة وأخبرت المدير والمعلمين بأنني لست أباهم وإنما عمهم وفي نفس الوقت هددت الأبناء بالموت إذا قالوا غير ذلك، بل وتأكدت أنها استخرجت لي بالفعل شهادة وفاة رسمية وأصرخ بين جدران المحاكم لأثبت أنني مازلت على قيد الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©