الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لحظة جنون حتى الموت

لحظة جنون حتى الموت
4 أغسطس 2011 22:51
كاد الليل يذهب ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، واقترب الفجر الذي سيلوح قريباً، ولم يعد ابن رجل الأعمال إلى المنزل بعد، صحيح أنه اعتاد على التأخر والسهر خارج المنزل مع أصدقائه ربما كل يوم، لكن لم يكن يبيت بعيداً عن البيت إلا في أضيق الحدود وبعد الاستئذان من أبيه وأمه اللذين لا يضيقان عليه في الخروج أو الدخول؛ لأنه أنهى دراسته منذ ثلاثة أعوام وحصل على مؤهل جامعي في السياحة ولم يعمل به خاصة أنه ليس في حاجة للعمل؛ لأن أباه ثري ويمتلك عدة شركات متخصصة في صناعة الأجبان وسلسلة مطاعم مشهورة، ويكفي أن يكون مديراً لكل هذا ولو بالمسمى فقط. بدأ الأب يشعر بالقلق لعدم عودة ابنه وطلبه على هاتفه المحمول، لكن المفاجأة أن الهاتف مغلق رغم أنه لم يعتد على إغلاقه، مما جعل القلق يزداد أكثر ويتحوَّل إلى توتر مع مرور الوقت، خاصة أن الوقت يمر وهو واقف في الشرفة يترقب عودته عساه يراه فور وصوله، فيبتلع ريقه بعد أن جف حلقه وهو يمني نفسه بأن يكون عطل طارئ وراء إغلاق الهاتف أو انتهاء شحن البطارية، لكن الوقت يمر بلا بارقة أمل وانفلق الصبح وانتشرت أنوار الشمس على الأرض بينما الأم بدأت البكاء وهي تطالب زوجها بالتصرف السريع والبحث عن ابنه، لكن الأب وقف عاجزاً؛ لأنه لا يعرف بماذا يبدأ وهو في حيرة من أمره ويصيبه الخجل من الاتصال بأصدقاء ابنه في هذا الوقت من الصباح الباكر، إذ إن معظم الشباب قلبوا ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً ومن المؤكد أنهم جميعاً مستغرقون في نوم عميق وربما آووا إلى فراشهم منذ لحظات، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يبدأ بالفأل السيئ ويبلغ الشرطة وآثر الانتظار ولو كان على أحر من الجمر أملاً في الاطمئنان على فلذة كبده، لكن زوجته لم تكف عن الإلحاح عليه في التصرف فتزيده توتراً وقلقاً وتشعره بعجزه عن التصرف واتخاذ أي موقف، إلا أنه الآن في الضحى ولا بد أن سبباً قوياً ومانعاً عارضاً فوق قدرات واحتمال ابنه حال دون اتصاله أو عودته حتى هذا الوقت. تجرأ الرجل وقام وهو يقدم إصبعاً ويؤخر آخر وراح يضرب أرقام هواتف أصدقاء ابنه ويبدأ حديثه معهم بالاعتذار عن الاتصال في هذا الوقت المبكر، لكن مضطر لذلك؛ لأن ابنه حتى الآن أم يعد إلى البيت، ومع ذلك جاءته الردود كلها مخيبة لآماله، بعضهم قال إنه لم يره أمس مطلقاً وآخرون قالوا إنهم لم يلتقوه ربما منذ أسابيع، وهؤلاء قالوا إنهم غير موجودين في البلاد، وقد سافروا لقضاء الصيف في الخارج، وأبدوا جميعاً انزعاجهم من الخبر وتوالت الاتصالات الهاتفية بينهم مشاركة في البحث عن صديقهم. لم يعد أمام الأب الآن إلا إبلاغ الشرطة وهم أكثر قدرة في الوصول إلى مكان ابنه ومعرفة السبب في اختفائه، وبالفعل حرر محضراً وسجل فيه المعلومات الأساسية والتعريفية وظروف ابنه وأرقام سيارته الخاصة التي كان يستقلها، إلا أنه في نهاية أقواله لم يتهم أحداً بأن يكون وراء هذا الاختفاء، بل ان الرجل أكد أنه لا توجد أي خلافات بينه وبين أي شخص، لكن شخصاً بهذه الظروف لا بد أن يكون هناك من يتربص به سواء من المنافسين له في الأسواق أو من العاملين لديه، ولذلك قبل وضع أي خطة بحث لا بد من وضع ذلك في الحسبان. البداية اتصالات بجميع المستشفيات لمعرفة ما إذا كان أصيب في حادث من عدمه، وبجانب ذلك مخاطبة أكمنة الشرطة على جميع الطرق السريعة وفي الداخل، وخلال اقل من ساعة جاءت جميع الردود سلبية ولم يعثر على أي أثر للشاب، وقد يعني هذا أنه ربما يكون قد تعرض لحادث اختطاف لابتزاز الأب الثري، إذ لا بد من وضع كل الاحتمالات قبل أن يتعرض لمكروه، لكن في الحقيقة وقعت الفأس في الرأس، وجاء إخطار بالعثور على جثة الشاب قتيلاً في منطقة صحراوية، وتم الانتقال إلى مسرح الحادث على الفور وتبين أن جثة القتيل تعرضت لضربات مميتة بأداة حادة يبدو أنها من الحديد على أم رأسه وعلى مختلف أنحاء جسده، كما يبدو أنه أخذ على حين غرة ولم يقاوم، أما المؤكد فإن الحادث بسبب السرقة؛ لأن المجرم سرق السيارة وأموال الضحية وهاتفه المحمول، وقد انهار الأب والأم وفقدا الوعي وسقطا منهارين على فقد ابنهما ونهاية حياته بهذه الطريقة البشعة بلا سبب جنته يداه. إذا كانت الأحزان قد أحاطت بأسرة القتيل، فإن الصعوبات التي أمام رجال المباحث قد تكون أكبر؛ لأنهم في أجواء غاية في الغموض خاصة بعد أن أكد الأب أنه لا خلافات له مع أي شخص ولا يتهم أحداً والبحث عن القاتل قد يكون مثل البحث عن إبرة في كومة قش، غير أن التقنيات الحديثة يمكن أن تساهم بشكل كبير في حل هذه الألغاز، إذ بتتبع الهاتف المحمول الخاص بالقتيل تم التأكد من أنه بحوزة صديق عمره الذي أكدت التحريات السرية أنه كان معه طوال يوم أمس وفي جزء كبير من الليل، والذي حاول أن يكون بجانب أسرته في هذه المحنة الكبرى، وقد ادعى الحزن عليه وشارك في البحث عنه معهم تسبقه دموعه التي لم تتوقف، وفي الواقع لم تحم حوله الشبهات في البداية؛ لأنه الصديق الصدوق للقتيل منذ أيام الطفولة وأنهما مثل الشقيقين ولا يفترقان إلا قليلاً، وأيضاً عندما تم اكتشاف سرقة المتعلقات لم يشك أحد فيه أيضاً؛ لأنه شاب ميسور الحال هو الآخر ووالده صاحب مزارع ولديه مشروعات واسعة في تربية وتجارة الماشية بجانب الإنتاج الزراعي الكبير الذي يوجه جزءاً كبيراً منه للتصدير؛ لذا لا يمكن أن يكون وراء السرقة؛ لأن المبلغ المسروق ليس مغرياً لأي شخص حتى لو كان لصا محترفاً، ولن يلجأ لقتل إنسان من أجله إلا إذا كان في غير وعيه أو تحت تأثير مخدر. ألقي القبض على الصديق الذي حاول أن يراوغ وينكر ويستنكر وينفي ويتملص ويناور، لكن كل ذلك باء بالفشل عندما تم ضبط الهاتف بحوزته بعدما أغلقه واحتفظ به في غرفته معتقداً أنه بذلك لن يتم الوصول إليه، ولكن مع ظهور هذا الدليل الدامغ انهار وبدأ يعترف، قال إنه لا يدري كيف طاوعته يداه ليمدهما بسوء لصديق عمره الذي يعتبره أكثر من أخ ويسر له بكل أسراره ويأتمنه عليها، ولم ير منه أي خطأ طوال هذه السنين، ولم يجد تفسيراً لجريمته إلا أنه كما لو كان مغيباً، فلم يكن يعتزم ذلك على الإطلاق. قال: لقد اتصلت بصديقي لنتفق على مكان قضاء سهرتنا في تلك الليلة والبحث عن منطقة مختلفة وأجواء جديدة بعيداً عن المعتاد الذي مللنا تكراره كثيراً، وعندما التقينا كانت أفكاري مشوشة وكنت مشغولاً بحالة الإفلاس التي أعانيها بعد المشادة بيني وبين أبي وأنه رفض أن يعطني المزيد من المصروف ويعيرني بأنني لا أعمل وأنني أعتمد على أمواله وأعب منها وأنفق ببذخ من دون تحمل للمسؤولية خاصة أن أمي تدعمني وتقف في صفي دائماً وتطالبه بالاستجابة لمطالبي، غير أنها هذه المرة لم تستطع الصمود وخرجت وأنا غاضب ولم أستطع أن أتراجع عن الخروج مع صديقي بعدما اتفقنا على السهرة. جلست بجانبه في سيارته وهو يدير المذياع بحثاً عن الأغاني الحديثة الصاخبة التي نفضل سماعها خاصة التي تحدث ضجيجاً يلفت الانتباه في الشارع، وأنا مستغرق في التفكير في موعد الغد مع فتاتي التي أحبها ولا أدري من أين سآتي بتكاليف لقائي معها وقد اعتدت على البذخ وهي تعلم إمكاناتي وثراء أبي ولم يلاحظ ما أنا فيه ومددت يدي إلى عصا الجولف الحديدية ورحت أعبث فيها ثم طلبت منه التوقف بجانب الطريق في المنطقة الخالية من المارة والسيارات؛ لأنها منطقة صحراوية وبمجرد نزوله انهلت على رأسه بالعصا الحديدية، وكانت ضربة واحدة قوية كافية لإسقاطه على الأرض وواصلت الضربات إلى أن تأكدت من أنه فارق الحياة وأخذت هاتفه وأمواله والسيارة وتوجهت إلى إحدى مزارع أبي ليلاً ولم يكن أحد موجوداً بها وقمت باستخدام لودر في تحطيم السيارة ودفنها تحت الأرض حتى لا يبدو لها أثر. اعتقد بل أنني متأكد من أنني لو كنت طلبت كل ما لديه وكل ما يملك ما تردد لحظة، ولا بد أنني أصابني الجنون وفقدت عقلي قبل أن أفعل فعلتي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©