الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قلوب مخطوفة

قلوب مخطوفة
20 يناير 2011 20:11
شردت «دلال» بخيالها وهي تحمل طفليها وسالت دموعها على خديها بلا توقف وهي غير قادرة على حبسها فالأحزان أكبر من احتمالها فهذا «أحمد» عمره ثلاثة أشهر فقط لا تستطيع أن تتركه في البيت، لأنه يعتمد في غذائه على الرضاعة فقط ولا يوجد من يمكن تتركه معه وابنتها «شهد» ذات السنوات الثلاث أصيبت منذ ستة أشهر بأورام سرطانية أكدتها الأشعة والتحاليل وتضطر للمجيء إلى المستشفى المتخصص في علاج الأورام مرة أو مرتين في الشهر حسبما يقرر الأطباء وهي التي تتولى هذه المهمة لأن زوجها عامل أجر يسعى لكسب الرزق يوما بيوم للإنفاق على أسرته. رحلة العلاج شاقة فبجانب الألم النفسي لمرض الطفلة فإنها تقطع أكثر من مئتي ميل من مسكنها إلى المستشفى في كل مرة تستيقظ قبل الفجر وتستقل ثلاث وسائل مواصلات واحيانا أكثر وتخرج قبل أن ينقشع الظلام وقبل أن يرسل الصبح أنواره ويتملكها الخوف فهي امرأة، لكن ما باليد حيلة ويصطحبها زوجها إلى اول وسيلة مواصلات ثم يتركها تواصل الرحلة المتعبة وحدها ويتجه هو الى عمله حيثما كان، وكل مواصلاتها من الاتوبيسات العامة الرخيصة فهي لا تستطيع ولم تفكر يوما في أن تستقل سيارة تاكسي حتى عندما تضع أول قدميها في المستشفى تتنفس الصعداء وتحمد الله أن وصلت بالسلامة فها قد انتهت من السفر الذي هو قطعة من العذاب وبالنسبة لها مجموعة قطع من العذاب، لتبدأ نوعا آخر من العذاب هو الانتظار الى أن يأتي دور ابنتها في تلقي العلاج الكيماوي وقد تنتظر ساعات وفي كل لحظة تتعجل الثواني خشية التأخير لأنها مازالت تحمل هموم عذابات العودة التي لا تقل عن عذاب المجيء، حتى أصبحت مجمع هموم وأحزان متنقلا. كل ذلك جعل دموعها تنساب بجانب ظروف الحياة الصعبة التي تعانيها هي وأسرتها وتضطر في كل مرة إلى أن تحمل الطفلين وتتكبد عناء الذهاب والعودة والانتظار علاوة على الألم الذي تعانيه الصغيرة بجسدها النحيل الذي لا يقوى على هذا المرض العضال، صحيح هناك كثير من النساء حولها يملأن المكان جئن جميعا لنفس السبب لكن قد يزداد عندها العناء بسبب الفقر الذي يطاردها ويعرقل حركتها فربما تجد هؤلاء النسوة سيارات خاصة يأتين بها أو على الأقل يقمن في نفس المدينة ولا يتحملن وعثاء السفر. حاولت أن تجفف دموعها عدة مرات لكنها تنهمر متواصلة حتى احمرت عيناها وتشعر بأن السبل قد تقطعت بها وليس أمامها خيار آخر غير الصبر وبجوارها امرأة أخرى تحمل طفلين يبدو بسهولة انهما توأم وإحداهما تعاني نفس المرض اللعين فقد شحب وجهها البريء وسقط شعرها وتحاول أمها ان تداعبها لتجعلها تبتسم لتنسى ما هي فيه، لكن الصغيرة قلما تستجيب وتقدمت هذه المرأة الى «دلال» بعد أن لفتت انتباهها دموعها الغزيرة المتواصلة وحاولت أن تخفف عنها همومها وآلامها فيكفي أن تستمع اليها وهذا وحده متنفس لها عرفتها بنفسها وبدأت الحديث عن ابنتها المريضة وكيف تعاني الأمرين في الحضور بها إلى المستشفى ثم سمعت من «دلال» مأساتها بكاملها ومعاناتها مع رحلة العلاج والألم النفسي والبدني وحاولت أن تخفف عنها وتواسيها ببعض الكلمات التي تقال في مثل هذه الأحوال واهمها الدعاء واللجوء الى الله والصبر. لم يقطع حديث المرأتين إلا صوت الموظف الذي نادى على «دلال» فقد حان موعد ابنتها لتلقي العلاج الكيماوي وعليها أن تتوجه فورا إلى الغرفة المخصصة لذلك، وتنفست الصعداء في تلك اللحظة وشرعت في حمل الطفلين على يديها متجهة إلى مقر العلاج، فإذا بهذه المرأة تعرض عليها ترك «الصغير» لها تحمله عنها لحين خروجها طالما يمثل عبئا عليها، وهي في كل الاحوال ستنتظر لحين انتهاء وقت تلقي العلاج، فهي التي ستدخل بصغيرتها بعدها، ووجدت «دلال» في العرض السخي شهامة غير معهودة، فقدمته لها وهي تكيل لها الدعوات ومعها الشكر والامتنان، ومازالت دموعها تنهمر وحملت ابنتها وطارت إلى غرفة العلاج. جلست «دلال» بجوار ابنتها «شهد» وهي تراقبها خلال تلقي جرعة العلاج وقلبها يتمزق، وفكرها مشتت، ما بين الم هذه، وصغيرها الرضيع في الخارج، وأمنيات الشفاء وظروف الحياة وبدت متوترة، تعد الثواني ومازالت تحمل فوق هذا كله هموم العودة، حتى مر كل ذلك وحملت «شهد» وهي تضمها إليها وقد بدت الطفلة أكثر انهاكا بعد تلقي العلاج الذي يؤدي إلى مزيد من الهزال والضعف عندها لعدة ساعات متواصلة، خرجت حيث تركت المرأة والرضيع، فلم تجدهما، جابت المكان بسرعة بعينيها، لكن لا اثر لهما، هرولت هنا وهناك والنتيجة واحدة، صرخت بأعلى صوتها، صرخة كانت كافية لجذب أنظار الجميع من المترددين والمرضى والأطباء وطاقم التمريض وحتى المارة في الشارع، صرخة تنم عن كارثة حقيقية، الاعتقاد الأول عند كل من سمعها أن المرأة تبكي على ميت عزيز جدا لديها، وبما ان المستشفى مخصص لعلاج سرطان الأطفال، تبادر إلى ذهنهم ان ابنها قد مات، وواصلت صرخاتها، إلا أن مسؤولي المستشفى التفوا حولها ليتبينوا الأمر وكان ما لم يتوقعه عقل، تلك المرأة المجهولة خطفت طفلها الرضيع واختفت، وانهارت «دلال» وسقطت مغشيا عليها فقد جاءتها مصيبة أخرى تضاف إلى مصائبها، والمصائب لا تأتي فرادى، وانشغل الأطباء بإفاقتها، وما أن استردت وعيها حتى قدمت لمسؤولي الأمن ورقة بها اسم المرأة ورقم هاتفها المحمول، وعندما تم الاتصال بها تبين انه رقم وهمي، فتأكدوا انها تعمدت خطف الصغير. حضر رجال الشرطة وتم استرجاع كاميرات المراقبة وبيانات المترددات في هذا اليوم، ولحسن الحظ ان الكاميرات رصدتها وهي تخرج بالرضيع من الباب وايضا كان بين الموظفين من يعرف اسمها لكثرة ترددها على المستشفى لعلاج ابنتها، وبينما كان اليوم يقترب من النهاية، تم الاتصال بزوجها على هاتفه المحمول المسجل بالمستشفى، فإذا به يؤكد أنها لم تعد إلى البيت، وبدأ البحث عنها في كل مكان يمكن ان تذهب إليه. في مساء اليوم نفسه القي القبض عليها، وتبين أنها أدلت ايضا لضحيتها باسم وهمي، وتبين ان اسمها «ملكة» وجلست تعترف وقالت إنها كانت متعاطفة تماما مع أم الطفل التي شاهدتها حزينة شاردة باكية وتبادلت معها أطراف الحديث لتخفف عنها فكلتاهما في ظروف متشابهة جدا، وعندما عرضت عليها مساعدتها في حمل الطفل عنها لم تكن تعتزم خطفه وانما جاءتها هذه الفكرة الشيطانية العارضة بعدما تركته أمه معها وتخيلت ابنها وليس لها أولاد ذكور، وقالت: شعرت بإحساس غريب لم استطيع مقاومته، وبلا تفكير او روية او تدبر اتخذت قراري بالاحتفاظ به، وحملته مع ابنتي التوأم وتوجهت إلى صديقتي التي رفضت المبدأ وطلبت مني الرحيل من بيتها، فهي لا تتحمل أن تسكت عن جريمة كهذه، فكيف تقبل حرمان ام من ابنها، كلماتها هزتني لكنني لم أتراجع فقد تحققت أمنيتي الغالية واصبح عندي ولد، فقد تزوجت زوجي هذا بعدما طلق زوجته وانجب منها أربعة من البنين والبنات، أي انه ليس في حاجة لأطفال ولم يطالب بإنجاب «ذكر» ولم يرفض «البنات» ولكن كانت تلك رغبتي وحدي، والمفاجأة الكبرى أنني اعتقدت انه سيفرح بهذا الولد لكنه ثار وغضب، وابلغ عني رجال المباحث لأنهم اخبروه في اتصالهم الأول به أنني متهمة بخطف طفل ولابد من الإبلاغ عني عند حضوري وإلا سيكون شريكا في الجريمة، وكانت المصيبة الثانية انني خسرت اسرتي التي رفضت الوقوف بجانبي، وها أنا قد حرمت من زوجي وبيتي وطفلتي واحداهما مريضة بحاجة لوجودي بجوارها وقدمتها النيابة إلى محاكمة عاجلة ومازالت تنتظر حكم العدالة لتذوق وبال أمرها.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©