الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عطر حميدة

31 يوليو 2013 22:51
يوسف مكي * أخذ علي يقلب قوارير العطور التي أمامه، ويجرب رائحتها واحدة بعد أخرى. وكلما جرب قارورة حاول التعرف على اسم العطر، حيث اعتاد على عطر من ماركة رويال، أو جنيد من رائحة دهن العود. لم يجد علي هذين العطرين بين القوراير التي أمامه، فطلب من صاحب المحل أن يعطيه عينة من عطريه المفضلين. اعتذر صاحب المحل قائلا: كانا موجودين قبل يومين لكنهما نفدا، فالطلب عليهما في ازدياد هذه الأيام ولا أعرف السبب، وأضاف: لدي أنواع أخرى ربما تلبي رغباتك. هنا أشار علي لصاحب المحل: هات ما عندك.. ربما نعثر على نوع ممتاز. قدم المحل مجموعة أخرى من قوارير العطور من الماركات القديمة والجديدة. أخذ علي يقلب ويتفحص بعضها، فوجد بينها إحدى الماركات التي كتب عليها بيريرا. قال في نفسه: حقاً إنه عطر بيريرا، هو نفسه، والرائحة نفسها، عطر قديم، وبينما هو يتفحص هذا العطر أخذه الحنين إلى سنين مضت، ولكن الذكريات لا تزال حاضرة، وقد أيقظها هذا العطر، كما أيقظ حكاية تعرفه على هذا العطر لأول مرة. وقد تملكه شعور مختلط بين الفرح والحزن. تراءت أمامه صورة حميدة وهي تقدم له قارورة العطر كعربون محبة بينهما بدأت ولن تنتهي، وحتى بعد مرور سنوات على هذه الهدية ظل علي يحتفظ بالقارورة. سأل علي نفسه: لماذا ذهب الحب وبقي عربون المحبة؟ لماذا لم نكمل مشوار حبنا بالزواج؟ أسئلة كثيرة تتوارد في رأس علي. لم يستطع علي المكوث طويلاً في محل العطار، فقد تناوشته الذكريات الجميلة والغافية عن حبه الأول في السنة الثانية من الجامعة مع حميدة. أسرع باختيار هذا العطر لعله يملأ مكانا شاغرا في روحه وقلبه، كانت تركته حميدة، فإذا لم تكن حميدة موجودة فعلى الاقل ما يذكّر بها، عطرها الهدية الأولى. خرج علي من محل العطار وهو يستعيد ذكريات حميدة التي لم يعد يراها منذ زمن، ولم يسمع عنها سوى أنها تزوجت من رجل من رجالات المجتمع، وأصبحت تعمل من وراء زوجها، بعد أن كانت تعمل أيام الحركة الطلابية أمام الجميع وكانت شعلة من الحيوية والنشاط. حدث علي نفسه: لو قدر لي أن يعود الزمن إلى الوراء فسأحتفظ بحميدة، فكل الخيارات لم تكن لتغني عنها، كنت أنا السبب في افتراقنا، ربما كانت التطلعات البرجوازية هي السبب وراء ما حدث. أكيد هذا هو السبب. في حين أنها كانت فتاة عادية وجميلة ومن أسرة عادية ولا تملك سوى قوة شخصيتها وحضورها المميز في مختلف الفعاليات الطلابية، كما تملك عينين خضراوين تزيدها جمالاً على جمال. عندما راح يزرع الشارع صادف أحد زملائه القدامى. إنه حسن. تسالما وتصافحا، توادعا. وصل علي إلى ناصية الشارع، انعطف نحو اليمين باتجاه المقهى الشعبي. طلب كأسا من الشاي المعتق ليعيد شيئاً من توازنه.. يتأمل قارورة بيريرا وهو يقول في نفسه: كان شيئاً جميلاً وعابراً للزمن، ولم تستطع السنوات محوه، لكن حميدة لم تعد بين يدي، فهي الآن في مكان آخر، وفي زمن آخر، وبين يدي رجل آخر. لم يبق من الذي كان بيننا سوى الذكريات الهاجعة، والصورة الجميله في مخيلتي، وهذه القارورة التي كانت عربون محبة. ارتشف رشفة من الشاي المعتق، سقطت دمعتان من ذكريات الحب الأول. ارتشف ثانية وثالثة لا يمكن الاستمرار.. فالشاي لا يطفئ الذكريات ولا يمحوها، تأمل مرة أخرى قارورة العطر. ترك بقية الشاى، ومضى في سبيله، وهو يجتر المستحيل وصورة حميدة تتراقص في مخيلته.. * كاتب بحريني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©