الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجع الأقليات.. والأكثريات

وجع الأقليات.. والأكثريات
31 يوليو 2013 22:46
“تعبت لأن كل شيء وكل شخص يذكرني، بمناسبة وبدونها بأني أقلية. حتى الصليب الذهبي الذي أهدته لي جدتي بمناسبة طقوس المناولة الأولى لم أعد أضعه حول عنقي (...) هل تتخيل مشاعر امرأة وهي تتعرض لكل تلك النظرات. النظرات التي أشعر وكأن أصحابها يلتقطون صور أشعة اجتماعية ليحددوا طبيعة مرضي ونجاستي؛ لأنني لست مثلهم أو من ملتهم. ولا تجيء النظرات من أعين الرجال فقط، بل حتى من النساء اللواتي ينظرن إليَّ ويشعرنني كأنني عاهرة لأنني لا أرتدي الحجاب”... هذه الصورة المنقولة بدقة من بين تلافيف الواقع العراقي “الجديد”، تمثل وجعاً عراقياً بات مستشرياً بين أبناء العراق عامة، ومن غير المسلمين بصورة خاصة... هذه الصورة وغيرها الكثير من الصور التي تجسد واقعاً عراقياً مريراً، نقرأها في رواية “يا مريم” (دار الجمل 2012) للروائي والشاعر العراقي سنان أنطوان... رواية تكتنز أسئلة الوجع العراقي، وتحاول إيجاد نقطة وضوح وسط عتمة الواقع وضبابية صوره المتلاطمة بين مشاهد الموت ورائحة البارود ومرارة التهجير... الرواية التي وصلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية هذا العام، رواية متعددة الأصوات من حيث البناء السردي، وهذا ما جعلها متماهية مع طبيعة الواقع العراقي المشحون دائماً بالآراء والأفكار المتباينة والمتصارعة غالباً، وكأن الرواية تحاول أن تكون مرآة تعكس من خلال بوحها السردي، ما يحمله المجتمع العراقي بين طيات تركيبته المتلونة من وجع وفوضى عارمة، فوضى الآراء وتخبط وجهات النظر المختلطة بأصوات الرصاص ورائحة البارود الدم. مأساة الاغتراب لرواية، وعلى لسان شخوصها، تطرح أكثر من رؤية، فرؤية “يوسف”، الرجل الثمانين الذي عاش أحداث العراق السياسية منذ فترة الحكم الملكي حتى بعد “رحيل” قوات الاحتلال من العراق، الذي رفض وبشكل حاسم ترك بلاده والهجرة إلى بلدٍ آمن، تحاول أن تستنجد بالماضي لتنقذ ما تبقى من قيم إنسانية تربى عليها، اتضح أن الحاضر بدأ يقتلها واحدة تلو الأخرى... رؤية “العم يوسف” نجدها تختلف بالضرورة عن رؤية “مها”، التي ما تزال طالبة في كلية الطب، والتي تحاول أن تجد في حاضرها فسحة أمل تبرر بقاءها على ذمة الحياة العراقية... إلا أنها كثيراً ما تشكو قساوة الواقع وغوغائية آراءه... “استشيط غضباً عندما أقرأ بين الحين والآخر تعليقات على الفيسبوك يُتهم فيها بعض المسيحيين بأنهم يساعدون الاحتلال ويتعاونون معه لأن البعض منهم عمل مع الجيش الأميركي. أكتب ردود أذكر فيها بأن المسلمين عملوا مع الاحتلال أيضاً وبأن السياسيين العراقيين الذين طبّلوا للغزو ودعوا الأميركيين للقدوم إلى العراق وعملوا مع الاحتلال لسنوات طويلة كانوا مسلمين...” إنها إذاً، رواية الغربة داخل الوطن، مهما اختلف رأي “يوسف” عن رأي “مها”، وبغض النظر عن الزاوية التي تنطلق منها رؤيتهما إلا إنهما يخوضان في مأساة الاغتراب المرّ الذي يعيشه العراقي داخل وطنه.. يوم واحد هو زمن الرواية، يوم يظلّ عالقاً بذهن المجتمع العراقي لما شهده من دموية في واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها تاريخ العراق، إنها جريمة اقتحام كنيسة سيدة النجاة من قبل إرهابيين قاموا بقتل أبناء العراق من المسيحيين في يوم الصلاة... فالرواية ظهرت صارخةً بصوت الوجع العراقي وكأنها تريد أن تعيد إلى أذهاننا صرخات الضحايات الذين سقطوا بفاجعة كنيسة سيدة النجاة ببغداد... صرخة الرواية تحاول العودة إلى تلك اللحظات المرَّة التي عاشها الضحايا لتختلط مع صرخاتهم وأنينهم وتسمعنا هلع النَفَس الأخير بكل إنسانيته المتضرعة.... “يا مريم....” سياسة ومصالح في الشكل تتحدث الرواية عن رؤيتين مختلفتين لشخصيتين تعتنقان الديانة المسيحية، وتشتركان في السكن ببيت واحد، رؤية الرجل الثمانيني “يوسف” الذي يرى أن ما يحدث بالعراق لا يستهدف طائفة أو قومية بعينها، بل هو استهداف واضح للإنسان العراقي دون استثناء، استهداف لكرامته وأمنه... “الموضوع أعقد من مسيحي ومسلم. موضوع سياسة ومصالح، مو دين.” بينما ترى “مها”، أن هناك استهدافاً واضحاً للعوائل المسيحية، فهناك من يريد إفراغ العراق من الوجود المسيحي، مذكِّرة العم “يوسف” بعمليات القتل والتهجير التي طالت أبناء جلدتها من المسيح... “عيني قيعدِمونا بكل مكان بلا محكمة وما حَدّ يحكي. الكنايس قتنحرق والناس قتتهجر وقيذبحون بينا يمنه ويسره... راح يضلون ورانا ورانا. يريدون يطلعونا مثل ما طلّعو اليهود...” هكذا، وباللهجة العراقية الخاصة بمسحيي العراق، تضع الرواية أمامنا رؤيتين مختلفتين لزمنين مختلفين، فالماضي الذي عاشه العم “يوسف” الذي لا يخلو من الاسترخاء والحرية، يصطدم بحاضر الدم والإرهاب والموت بالجملة، الحاضر الذي يشكل لـ “مها” أوان تفتح زهرة شبابها ومحاولات بناء مستقبل مريح، ولكن، كيف والشارع العراقي يسبح بدماء أبنائه من الضحايا. أما في المضمون، فالرواية تتحدث عن التسامح الديني الذي عاشه العراقيون بكل رقي ولسنوات طوال، والذي ما زال عامراً داخل الروح العراقية، إلا أن هذا التسامح صار هدفاً لعدد من السياسيين الجدد، معتمدين على مرتزقة يمتهنون الدين، جل همهم إلغاء التسامح من القاموس العراقي وتحوله إلى التكاره والتحارب... “كان صوت الخطيب دائماً يلعلع كل جمعة عبر مكبّرات الصوت ولسنوات طويلة وهو يحث المؤمنين على التقوى والورع ويهاجم الكفر. ولم أكن آبه كثيراً لأنّي لم أكن أعتقد بأني أنا المقصود، أو أن الرسالة موجهة لي بالذات كمسيحية. ولكن الفوضى التي احتلت كل مكان بعد الاحتلال سمحت لما ظنناه ضجيجاً عابراً في البدء لأن يصبح أعلى من قبل، وأن يستخدم مفردات غريبة مثل: (أهل الذمة) و(جزية). مفردات رددها، وبصوت عال، حاتم رزّاق، شيخ جامع النور الذي كان بالقرب من بيتنا، الذي بدأ يلقب نفسه بـ (أمير المنطقة) عام 2007. بدأ يصرخ عبر مكبرات الصوت قائلاً إن على أهل الذمة أن يدفعوا جزية قدرها 25 ألف دولار شهرياً، أو أن يشهروا إسلامهم علناً في الجامع”. رؤى متعددة نقرأها بين سطور رواية “يا مريم” تماماً كتعدد أصوات البناء السردي لها، فبالإضافة إلى آراء “يوسف” وقريبته “مها” نقرأ آراء أخرى لا ينقصها الوجع، ولعل شخصية صاعود النخيل الذي قرر الهرب من العاصمة كون التغيرات التي طرأت على البشر قد ألبست الواقع ثوباً آخر يبتعد عن إنسانية الإنسان، قد يكون الأكثر عفويةً وواقعية، حيث نجده وقد شكا تغيّر الحال، وأن الخوف صار مسيطراً على جميع الأرواح العراقية، فلم “تعد العوائل تسلمه مفاتيح الأبواب الخارجية ليدخل ويعمل في الحدائق أثناء نومها، أو في وقت تكون فيه العوائل خارج البيت...”. شخصية رغم مرورها السريع ضمن أحداث الرواية، إلا أن المؤلف صاغها بعناية معتمداً اللهجة العراقية ليدخلنا إلى زاوية من زوايا جوهر التغيير الذي طرأ على طبيعة المجتمع العراقي والخراب الذي أصاب الروح العراقية... “قبل الأميركان جان وضعي أحسن بصراحة. جنت أروح وأجي بكيفي. أيام زمان جنت أنام جَوَّ الشجرة بأي زاوية، محد يندج بيَّ. هسه لازم أنام بفندق وإلا أنجتل. وهاي الحيطان الكونكريت خانجتنا. أستاذ حتى النخل صار بي سني وشيعي... التمر ذبلان ويابس بالعثج. تدري شقد نخل مجصوص ومشلوع على مود الأمريكان يشوفون لو القناصة يشوفون؟...” لن يجافي الحقيقة إن وجد القارئ في رواية “يا مريم” امتداداً طبيعياً لرواية “وحدها شجرة الرمان” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010)، حيث سيل الوجع العراقي الذي تتحدث عنه الروايتان ما يزال جارفاً ولم ينقطع... فالرواية التي تبدأ بنقاش عراقي “عقيم” رغم وجعه ومرارته، إلا أنه صار مألوفاً منذ زمن يمتد إلى أكثر من عشر سنوات، تُختتم بغياب “العم يوسف” الذي قضى برصاص الإرهاب تحت سقف كنيسة سيدة النجاة وصوت “مها” الذي صار من خلال الكاميرات التلفزيونية، وثيقةً تؤرشف لحظات الموت تلك... “اسمي مهما جورج حداد. أنا طالبة بكلية الطب بجامعة بغداد. كنتُ واحدة من الرهائن اللي كانو بكنيسة سيدة النجاة، يوم 31 تشرين الأول. اليوم اللي صار به الهجوم الإرهابي (...) القدّاس خلص حوالي الساعة خمسة وربع، وكل شيء كان طبيعي... القس أبونا ثائر، قال خلي نصلي من أجل السلام ببلدنا، ونطلب من الله أن تتشكل حكومة جديدة ويعم السلام والاستقرار بالبلد. وبس بدينا نصلّي “أبانا الذي...” سمعنا صوت إطلاق رصاص جاي من خارج الكنيسة...”، ثم تستمر “مها” بسرد وقائع اللحظات الكارثية التي حلّت بالمصلين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©