الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فاطمة لوتاه.. احتشاد مُدوْزَن بالاسترخاء

فاطمة لوتاه.. احتشاد مُدوْزَن بالاسترخاء
20 أغسطس 2014 20:00
* أعمال لوتاه تحضر في متواليات التجريد بالأبعاد المُتعارف عيلها وتذهب إلى المفاهيمية البنائية المقرونة بالبُعد الثالث الواقعي * الواقعية الفنية الصرفة منغرسة في أساس الإيهام والتجريد ويمكننا استقراؤه من عناصر واقعية مسافرة في فضاء الأثير المجافي للتجسيم * تجربة فاطمة لوتاه مزيج مموسق من الكلاسيكية المدرسية المرفوعة على ميزان التصوير بالأكريلك. . تتقدم الفنانة فاطمة لوتاه على خُطى التأصيل المعرفي الفني لوشيجة برزخية قوامها العلاقة بين التجسيد والتجريد، لكنها لا تقف عند تخوم هذه الثنائية الدلالية البصرية الهامة فقط، بل توظف الوسائط المتعددة بكيفيات متنوعة وأساليب متباينة، فتصل إلى منطقة التمازج الكامل بين التجسيد والتجريد من جهة، كما بين التجسيم والمفاهيمية الفنية النابعة من تيمات مشرقية عربية إسلامية من جهة أُخرى، ثم تذهب بعيداً في توظيف الخط العربي المتروْحن ضمن صياغاتها البصرية في البُعد الثالث الواقعي؛ أقصد تحديداً أعمالها البنائية المفاهيمية التي أبرزتها في محفلين ثقافيين هامين. . ندوة الثقافة والعلوم بدبي، وقاعة المعارض الكبرى بالشارقة. وطالما كنا بصدد التجسيم والتجريد، فلا بأس من إيضاح هذه الثنائية الفنية التاريخية ضمن سياقين: السياق التجسيمي المرتبط بالفنون الأكاديمية التاريخية. . تلك الفنون التي تبلورت ملامحها الأولى في النحت الإغريقي الهيليني، ثم تواصلت في لوحة الأيقونة الكنسية في القرن الحادي عشر الميلادي، وتابعت مسيرتها مع التصوير الزيتي على عهود الكبار ليوناردو دافنشي، ورافائيل، ومايكل انجلو، وكانت تلك المرحلة الممتدة من القرن الثاني عشر وحتى الرابع عشر الميلادي بمثابة مرحلة تأصيل لمعنى الإسكولائية الفنية، أو المدرسية الفنية الأكاديمية، النابعة من التصوير المرئي بحسب طاقة الفنان المبدع ومهاراته ومعارفه. هنا نقف على هذا البُعد الواضح عند الفنانة فاطمة لوتاه، الصادرة ضمناً عن المدرسة الإيطالية العتيدة، والتي أسست لفن التصوير الأكاديمي الكلاسيكي التاريخي، وأبقت على عهدها مع علمي جَمال الشكل والمضون المُستمدين من تلك المدرسة. الملاحظة الدقيقة للبُعدين التشريحي واللوني عند فاطمة لوتاه تؤكد ما نذهب إليه من مقاربة حول علاقتها المعرفية الذوقية بفنون التصوير الأكاديمي، والإيطالي منها تحديداً. وفيما يتعلق بالتجريد، سنجد أن بداية تفكيك اللوحة الصُّوَرية الكلاسيكية، كانت مع المدرسة التأثيرية الفرنسية، يوم أن قرر الفنان الانطباعي الفرنسي المؤسِّس "سيزان" أن يرسم ما يرى لا ما يعرف، فعصف بالقاعدة اللونية الكلاسيكية التي تقرن المرئيات بالمفاهيم اللونية السابقة عليها، وهو فيما فعل ذلك فتح الباب الواسع لمدرسة الانطباع التي تواترت إيقاعاً مع فان جوخ، وجوجان، وسورات، وهنري دي تولوز لاوتريك، ثم تتابعت صعوداً مع المغايرة العاصفة لبيكاسو الإسباني، الذي قام بأول تفكيك منهجي للصورة من خلال المكعَّبات البصرية، وحتى النرويجي "مونش" الذي قال مُناجزاً سلفه سيزان. . قال إنه يرسم ما لا يرى وما لا يعرف، وكأنه بهذا القول يمهد لتعبيرية من نوع جديد، وصولاً لسريالية سلفادور دالي. في هذا الأفق الموصول بالتجريد، سنجد أن أعمال الفنانة فاطمة لوتاه، تحضر في متواليات التجريد، بالأبعاد المُتعارف عيلها، بل تزيد على ذلك في ذهابها إلى المفاهيمية البنائية المقرونة بالبُعد الثالث الواقعي. واقعية بصرية هذه التوطئة العامة حول الفنانة، تتطلب بعض الإشارت الموصولة بأعمالها التي عرضتها في المحفلين سابقي الذكر، وسأبدأ بما رأيته في "إكسبو الشارقة" خلال أُمسيات شهر رمضان المبارك، حيث قدَّمت الفنانة مقترحاً بصرياً مشرقياً يُعيدنا إلى مرابع التصوف العرفاني من خلال النادرة رابعة العدوية، وعبر التجسيم الشفيف المتألق بالنور، والكلمات الموازية النابعة من شعر الزاهدة الكبيرة، ثم تتوالى معادلة التناغم بين النور والمادة الشفيفة في سلسلة من الأعمال المشهدية المجسَّمة (relief) وفي إشارة دالة على العلاقة بين البُعدين المنظوريين للإيهام البصري والواقعية البصرية أيضاً. آية ذلك أن البُعد المنظوري الواقعي يتضمَّن في سطح اللوح المسطَّح طولاً وعرضاً سرعان ما يتماهى مع المنظور البصري الافتراضي الذي يتوخَّاه الفنان وهو يرسم. . أي أننا بصدد واقعية بصرية وجودية معطاة من كون مساحة الرسم عبارة عن طول وعرض واضحين، وبالمقابل نحن إزاء بُعد وهمي تجريدي مؤكد، يتعلق بالرسم المنظوري، أو الرسم في البُعد الثالث غير الواقعي في حالة الرسم على ورقة من طول وعرض فحسب. هذا يعني أن الواقعية الفنية الصرفة منغرسة في أساس الإيهام والتجريد، وعلى ذات المنوال يمكننا استقراء العمل التجريدي النابع أساساً من عناصر واقعية مسافرة في فضاء الأثير المجافي للتجسيم المتعارف عليه أكاديمياً. تبدو المسافة هنا بين الواقعي والتجريدي رافعةً لما يتجاوز تلك المسافة، فكل عمل واقعي ينبئ بتجريد قادم، وكل عمل تجريدي يتصل عمقاً بالواقعية الفنية السابقة عليه. هل تمثَّلت الفنانة هذه الحقيقة عطفاً على منتجها الفني الذي نراه ماثلاً في تضاعيف المدارس الفنية المختلفة؟ أزعم أنها فعلت ذلك، وبقدر كبير من الحرص على جمالية الشكل الفني، والبهاء اللوني، والانزياحات المتماوجة من أُسلوب لآخر، مع قدر من التلقائية التعبيرية الممزوجة بضياء الألوان وتداعياتها اللامتناهية، مما يمكن رصده في جُل أعمالها التي تميل لفلسفة الفراغ المتناغمة مع سديمٍ، سرعان ما يستحيل إلى مهرجان للألوان. وإذا انتقلنا بهذا المفهوم إلى أعمال الفنانة المعروضة في شهر رمضان في "إكسبو الشارقة" وندوة الثقافة والعلوم، سنرى أن هذه الغنائية البصرية الموشاة بتمازج العناصر تتمرأى ضمناً وأساساً في ثنائية الواقعي والتجريدي التي توازي ثنائية التشبيه والتنزيه الكلاميين، بوصفها أصلاً لجوهر واحد. وهنا لا بأس من إيضاح أن الواقعية الفنية هي المقابل الضمني للتشبيه أو التجسيم، كما أن التجريد هو المقابل الضمني للتنزيه. استعرت مقولتيْ التشبيه والتنزيه من جدل الكلام التاريخي العربي الإسلامي . . ذلك الجدل الذي كان وما زال يمثل حالة من السفسطائية الكلامية البيزنطية، فبقدر أهمية هذا الجدل باعتباره مقروناً بثنائيات المرئي واللامرئي. . الحاضر والغائب. . الظاهر والمستتر، إلا أنه اتخذ طابعاً سجاليّاً كفاحياً على مدى تاريخ التدوين المعروف لدينا، مما يقتضي إعادة قراءة واستقراء لمثل هذا الموروث الغني، وبروحية تترجم المغزى الجوهري لواحدية الظواهر، وإن تعددت أو تباينت، وفي تقديري أن فن التشكيل بوسعه فعل الكثير في هذا الجانب، باعتبار أن هذه الحقائق تتجلَّى في جوانيات الأنا الإنسانية المتوَجْدنة بالحقيقة الأزلية، والمتواجدة بالفن. فلسفة الفراغ تلك السمة الجمالية الرؤياوية عند الفنانة، تتجلَّى واضحة في كل خطوة من خطوات التتبع الإجرائي البصري لأعمالها المتنوعة. في المعرض الكبير الذي أقامته في شهر رمضان المبارك بندوة الثقافة والعلوم بدبي، قدَّمت الفنانة فاطمة لوتاه رؤية جديدة وغير مألوفة، ذلك أنها قامت برسم موضوعات عبادية رمضانية، واسترْوحت في أحضان المنظور الأثيري للخلفيات البيضاء الواسعة، وقامت برسم الشخوص وهم في حالة تماهٍ مستغرق في التروْحُن العبادي، فيما استخدمت تقنيات الممازجة الفنية بين أدوات التعبير المتنوعة، بما فيها أدوات الوسائط الرقمية التي لا تحل محل الفنان ورؤيته وجملته البصرية الجمالية، بل تمنحه فرصة استثنائية للمناورة والمداورة. لكن هذه المصفوفة من التنغيم الوجداني البصري الواسع، تمادت في رسالتها بعد أن تُوِّجت بحديث ديني فائض الحكمة، وإنشاد صوفي فردي وكورالي. . تهادت أنغامه مع الحضور المستمع، وبهذا المعنى جسَّرت الفنانة العلاقة بين المرئي الفني النابع من أدوات الفنان، والمرئي المسموع النابع من تكامل عناصر التأثير النفسي السيكولوجي والباراسيكولوجي، لتنشر رؤيتها ضمن فصوص فنية قادمة من أساس الفصِّ الواحد الأكبر، بل ضمن نصوص بصرية سماعية وإشارية نابعة من لازمة الحكمة والروح. على المستوى الفني المُجرَّد يمكننا الحديث عن أدواتها الفنية المتنوعة، وحضورها الأُفقي في الساحات المفتوحة، ما يمنح أعمالها قابلية لمشاهدات متنوعة من زوايا مختلفة وأبعاد متباينة، كما يمكننا الإشارة إلى استدعائها الاسترجاعي الفني لأنماط التصوير الروحي، وفنون السجاد المَشرقي المرفوع على سارية نورانية مشعة بالضياء، وألوانها التي تتماوج حد الاحتياط المُوشَّى باللحون وأقواس قزح، وكذا اشتغالها المُضني على مساحات العرض العامرة بالاحتشاد المُدوْزَن بالاسترخاء. جملة الأعمال الفنية ذات الصلة بالإكريلك والوسائط الرقمية، تعتدُّ بفلسفة الفراغ الذي يمثل امتلاءً مؤكداً، ويسلط بؤرة الضوء على التيمة المختارة، كما هو الحال بالنسبة لجُملة أعمالها الفنية التي تتوخَّى فيها ومنها استدعاء مفردات تراثية تؤكد الخصوصية، فيما تتمنْطق الوسائط التعبيرية الجديدة. تجربة الفنانة فاطمة مزيج مموسق من الكلاسيكية المدرسية المرفوعة على ميزان التصوير بالأكريلك. . ذلك اللون السحري الذي يجمع خصائص الماء والزيت، ويسمح بتحليقات بصرية مشرقية قوامها البهاء والصفاء، ويعزف موسيقاه الوجودية على "مفتاح صول" البصري المتناغم مع العوالم الداخلية للأنا الرائية الحائرة والمُتطيِّرة، ويتكشَّف عن مصائره بالتفاعل مع عالم الوسائط الرقمية المتعددة، دونما تردد وخجل، وينبري لسؤال الجمال والجلال في أساس الجمال واستتباعاته الظاهرة والمستترة، ولا يتردد في الإعلان عن خيارات فنية متنوعة حد الاحتياط. هذا القول الختام ليس مجيراً على ألوان الإكريلك كما يبدو من السياق، بل على الفنانة التي أنعشت ذاكرة المشاهد، وناجزت عناء الإبحار في عوالم الفن المتنوعة من خلال التشكيل، والتشكيل فحسب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©