السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حبيب الصايغ يقود «أسراب الزرافات»

حبيب الصايغ يقود «أسراب الزرافات»
3 أغسطس 2011 22:07
أحدث ما أصدره الشاعر الإماراتي حبيب يوسف الصايغ، مختارات شعرية بعنوان “رسم بياني لأسراب الزرافات”، عن دار الانتشار العربي ببيروت، في 354 صفحة من القطع المتوسط، وربما يكون خير ملخص لما نود الخروج به من الخطاب الشعري عنده، ذلك الوصف البديع الرهيف الذي منحه إياه الناقد عبد العزيز المقالح على صفحة الغلاف الأخير من الديوان بقولة: “... وهذا النّوع من الكتابة التي تجمع بين الشعر والنثر، أو بالأصح الذي يتماهى فيها النثر مع الشعر، أو يمتزج معه لا يبدو في أوج بهائه وعذوبته، كما يبدو مع هذا الشاعر الذي يمتلك حسّاً فياضاً وذائقة صافية، قادرة على إدراك المسافة الملتبسة بامتياز بين الشعر والنثر، ويحظى ببراعة فائقة في صنع الدهشة والنظر إلى الشاعر بوصفه صانع دهشة”. يقول الصايغ في مقدمة مختاراته الشعرية: “ليست، بالضرورة أفضل قصائدي المنشورة، هذه قصائد أحبها، هذا يكفيني، وأحسب أنّه يكفيكم”، إنها في الواقع 80 قصيدة خرجت من تحت عباءة “الحداثة الشعرية”، وكتبها ما بين أعوام 1980 و1996، ويمتاز في أغلبها على مقدرة في اقتناص اللحظة الشعرية، ونسج القصيدة “الومضة”، أو قصيدة “المشهد”، على نحو قصائده: أبو نواس، الرايات، طنجة، البدوي، شوارع، لو كنت، والأخيرة هي قصيدة تحتمل وصلات متنوعة وتؤدي من خلال الكتابة المشبعة إلى تفجير أقصى طاقة إيحائية وتأثيرية للنص على نحو ما جاء في سبعة أسطر هي المحتوى العام لمشهدية مفعمة بالزخم الدرامي: للوطن في فمي مرارة الملح وعذوبة الملح ولو كنت شاعرا بما فيه الكفاية لوضعتك أنت والوطن تحت الوسادة ونمت. من وجوه الأسلوبية عند الصايغ دقّته الشديد في اختيار عناوين قصائده، التي تحمل دلالة فنية توحي بذلك الجو المسكون بالوحدة والقلق، ومن تلك العناوين قصيدة “نصيحة إلى المتهم محمود درويش”، التي نظمها عام 1981، في سبع حركات وتتوافر فيها حركة درامية تقوم على العامل المكاني أو الانتقالات المكانية الحافلة برؤية فلسفية ومزيد من البيئة الرافلة بالموارة واللون والحركة والموسيقى الداخلية، وجماليات التعبير في ثنائية من اللغة والتصوير: اليك.. اليك أطرز أغنية من جدائل حيفا فخذها.. إلا أن بيني وبين فلسطين خبزا وملحا وبيني وبينك همّا وحرفا وخذها واغمض عيونك ثم توكل على الله وافتح تجدني لديك أحوّم حولك خوفا عليك من الانتقالات المكانية المهمة في هذه القصيدة تلك برؤية الشمولية لمشروعية البحث عن الهوية عند الفلسطيني، من خلال المخاطبة التي قد تبدو للسامع سطحية أو مجرد وجدانيات وخواطر، لكن الصايغ في الواقع يرسل من خلال الصورة إشارات عميقة وبعيدة الغور، في إطار لغة شديدة الحساسية، ومفردات مزدوجة المعنى، ورمز يتكئ على فنيات صورة متعددة الجوانب كما يقول: وأقرأ في راحتيك عناوين كل القرى والمدائن وأرقام الهواتف.. كل المساكن اليك.. اليك أضم المرافئ في قبضتي ثم أهديك غربة بحر الخليج.. شواطئة وسفنه وأقطف من وجنتيك القصائد قطفا وأرحل رحلتك الأبدية في المستحيل وأصبح مثلك أنت ومثل الوطن قتيلا أعدد أسماء من قتلوني فلا أتعدى حدود الكفن. إن حبيب الصايغ شاعر مرهف الإحساس، ماهر في الإفادة من الإسقاط الفني واستخدامه في حدود أبعد من الإيقاع الشكلي لقصيدته، ولك أن تلمح ذلك في نهاية خطابه إلى محمود درويش بقوله: يا محمود درويش يا من يرقد فوق السكين متهم أنت بتهريب فلسطين اسمع مني.. لا تفتح عينيك وأنت على مرأى من شرطة باريس. شاعرنا في مختاراته شغوف بإحداث رؤية جديدة في بناء القصيدة من خلال التصوير الشعري البارع، وظاهرة اللجوء إلى الرمز، ومن الصعب عند الصايغ أن تفصل بين الرمز والصورة، فأحياناً يتداخل الرمز بالصورة على نحو ما تجده في قصيدته “أبو نواس”، وفيها نموذج لصورة نامية مرمزة، يعبر من خلالها عن مشاعره وإحساس ذات صلة بالبحث عن الخلاص والحرية من خلال الاتكاء على النماذج الإنسانية والتراث كقوله: أدعوك، الليلة، إلى المنادمة الركن القصي في المطعم الفرنسي وبيننا يا رفيق الطفولة سيرة من الحب الناقص والموت الناقص تعال تعال أيها النادل تعالي تعالي أيتها الدنيا مائدة الشعر، ووجهان لهما ملامح أبجدية ناقصة وشمعة لا تعرف كيف تضحك ولا كيف تبكي. إن الصايغ يجتزئ بحرفية عالية وجوهاً من سيرة أبي نواس خاصة عنصر “الفقد” ليوظفه في قصيدته، حيث يشبّه علاقة الشاعر القديم بظروف عصره، بعلاقته بالحياة المعاصرة التي اصطبغت بالجدب، والهلامية، حتى تماهت الحياة كشمعة لا تعرف كيف تضحك ولا كيف تبكي في حركتين متدفقتين جاءت القصيدة التي تحمل اسم المختارات الشعرية “رسم بياني لأسراب الزرافات”، وكتبها عام 1995، مملوءة بأجواء تتزاحم فيها صور الجدب والعدم والموت، فكل الأشجار الجميلة تموت، وحتى أشجار الصبّار القاسية الخشنة تموت وهي جالسة القرفصاء، إن الصايغ يجعل للموت جلالاً، وأناقة لم نعهدها في قصائد، في مفردات سهلة، لكنها مؤثرة ومفعمة بالمعاني والدلالات الرمزية، فمثلاً نجده يذكر: الوحدة والليل والسناجب والصبايا العاشقات والتهاب الكبد، وأشجار السدر المنتحرة، وكيف يموت الهواء من شدة الاختناق، والليل الطويل، والغربة والحلم والتساؤل. ومثل هذه الألفاظ إذا أمعن القارئ فيها النظر وجدها كثيرة الشيوع ولكن ليست بالصورة والرمزية المتدفقة التي استخدمها الصايغ بطريقة موحية مرتبطة بالمشاعر العميقة والإحساسات، حينما تتحول الأشجار إلى كائنات تموت من ضغوط الحياة ونزق العولمة: وتموت أشجار الليمون بالصداع النصفي وتموت أشجار البن بانسداد الشرايين وتموت أشجار المانجو بالتهاب الكبد وتموت أشجار التين بهبوط القلب وتموت أشجار الفلفل بارتفاع درجة الحرارة وتموت أشجار الرمان بارتفاع ضغط الدم في العديد من القصائد يحاول الصايغ التعبير عن فكرة الوحدة، وهي فكرة طالما داعبت خيال الشعراء القدماء والمحدثين، فيلجأ إلى رسم صورة الشاعر بين أوراقه ورسائله وأحلامه، انه يرسم صورة حية وان كانت مظللة في جوانبها، بل مثخنة الجراح في عمقها المأساوي، كما يقول في قصيدته: “درجة حزن” التي نظمها عام 1990، انه حزن من نوع خاص، حزن معاصر موشى برفض وتمرد على ما يصنعه العالم بنفسه من تدمير وحصار نفسي: في خيام الربع الخالي درجة حزن تتذكر كلما سمعت عزف ناي انهيار الاتحاد السوفييتي ومؤتمر السلام في الشرق الأوسط أغنيات الغجر وكلاسيكيات المسرح الانجليزي وضبط آخر الكلمات وآخر التنهدات درجة حزن لا تشغلها ساعات العمل اليومي عن الاهتمام كثيرا لتناسب لون حذائها من جهة ومن جهة ثانية لتناسب تحولات النظام العالمي الجديد كما يبدو فالقصيدة بمجملها، تتمتع بوحدة نسيج تصويري تتجاوز ما ألفناه من استخدامات للاستعارات اللطيفة المستجادة، ومن ثم ذلك الاستدعاء الجميل للنماذج المعاصرة في مجال الانتقالات السياسية والثقافية، ليكون المحور الأساس هو الإنسان والمأزق الذي وضع فيه، إلى أن يكون الخيال الرمز هو المجال الرحب في استعارة الشخوص والأمكنة والأحداث، تأتي كلها في قالب يظل أقدر على الإيماء: مواكب اثر مواكب تمشي على الحبل، والواصلون قليل فيا ناقتي أوصليني الى خلدة حيث أنوي الإقامة ما بين تاريخها والرحيل أضاف الصايغ إلى بناء قصيدته بما يعرف في المسرح بـ”المونولوج الدرامي”، ففي قصيدة “نقوش إضافية على قبر حرب” التي نظمها عام 1993، ثمة مزج وموازنة بين الوصف والمونولوج، وفن التأمل، والتدرج في النّص، ليستوعب تفاصيل المكان والحدث، كي يحلق في فضاءات خفية، كأنما يريد أن يحيل المكان والمعاني الجامدة إلى شيء حي كقوله: لن أهادن موتي.. موتي سؤال وموتي انشغال ربما طلعت في الشموس البعيدة شمس من القمح والحب أو ربما أفلت ربما انكسرت شمس حريتي حين أهملت قلبي: احتمال ربما انتظم اللحن في درجات الرتابة، وانطفأت شرفات الغناء وكقوله أيضاً في قصيدته “المطارات” 1995: للمطارات إيقاعها الوجوه التي تتبدل لا تتحول والخطوات شظايا وقد يذهب الذاهبون إلى دمعهم، فيعودون أو لا يعودون واليافطات فخاخ مسافرة ومنايا فهو من خلال الأمكنة، يود تأكيد الحقيقة القائلة إن حياتنا الحاضرة تكتنفها الأقنعة وتموهها المساحيق، وربما توحي ممكنات النص عند الصايغ اتجاهاً نحو التأمل الرومانسي الذي يعيد صياغة الأشياء، ويبعث في الأمكنة الحياة بصورة توقظ في الإنسان مشاعر الإحساس بالآخر، بعد أن تقطعت الصلات بين الناس والأمكنة وما يحيط بهم بفعل الضغوط اليومية، إن القصيدة حينما تتكئ على اليومي المعاش، تكون بلا شك محاولة لإثارة الأسئلة عما يجري من حولنا، ومن خلال الحداثة الشعرية، وفي مزيج من الخيالات والأطياف أحيانا. في جانب الوضوح أورد الصايغ جملة من القصائد متأثرة في تقديري بالمد الرومانسي شكلا وفحوى، كما أن صياغاته تتمتع بجماليات على مستوى اللغة والمضمون ووحدة الحدث، بما يجعلها من المنظور العام قطعا فنية تنطوي على تماس حميم مع روح القصر ومن ذلك قصائده: القفص، الوظيفة، شوارع، امرأة البيت، زمن النساء، وفي الأخيرة تبرز المرأة مثل وطن وحلم وتاريخ، إن لها عند الصايغ إيقاعا يمثل الهوية، والذاكرة، وكل ما يسقط الرجال على عتباتهن الوردية، إنهن مفردة جميلة في زمن الوصل، والزمن الذهبي الجميل الذي انقضى وأصبح مختزنا في الذاكرة: ويسافرن في التيه سر النساء عميق ولهن المساواة حيث النساء وأشجارهن سواء والنساء الردى النساء الرداء الهوية أن نرتدهن كالموت أو كالهواء الهوية نون النسوة وعمر النساء سغلنا وهوانا وانقباض القلوب وموت ووقت يؤنثه حلمه، ويؤنثه ليله وشواطئه. هل يبحث الصايغ عن قصائده عن (مدينة فاضلة)، وإلا كيف جاءت هذه العناوين المختارة بعناية فائقة، وكأنها جزءاً أصيلاً من القصائد وتلك ميزة فريدة تضاف إلى الشاعر، ولك أن تستشف ذلك من هذه العناوين: سكة الحجاز، أنا والبحر، ثلاث مدن، وغيرها من القصائد، ثم أنه لا يلبث الاتكاء على أسماء معروفة في بناء بعض قصائده مثل: مارسيل خليفة، أحمد دراج، سعيد فاخوري، الجواهري، وفي هذه القصيدة يتجاوز الصايغ حدود النظم الحداثي، ويسبح في فضاءات تتوزاى فيها الصور الفنية: عمري وعمرك بغداد وعشتار أي النبيذين من أسمائه النار؟ مالي من الصحو بدّ كي أقول دمي دمي، شرابي، وبعض الصخر أنهار وبيننا الشعر مهدور ومنتهك كأن أحلامنا السوداء أشعار مصفدان ولا قيد سوى يدنا وميتان ولا قبر وحفار ثمانون قصيدة بلور من خلالها الشاعر تجربة شعرية خصبة، كما فعل من قبل مع جملة دواوينه وإصداراته ومنها: هنا بار بني عبس 1980، والتصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه 1981، وقصائد إلى بيروت 1982، وميارى 1983، والملامح 1986، وقصائد على بحر البحر 1993، ووردة الكهولة 1995، وغد 1996، وغير ذلك العديد من القصائد التي تؤشر على خطاب شعري متمرد وقلق، يحمل الوطن على أجنحته المحلقة في فضاءات الإبداع العربي، حيث حظي الإنتاج الشعري للصايغ باحترام وتقدير على مستوى الحراك الثقافي العربي، خاصة في بيروت التي نظم لها قصيدة خاصة جاءت في المختارات تحت عنوان “وجوه لبنانية” تحدث فيها عن مارسيل خليفة، وختام البيطار، وسعيد فاخوري، كما تحدث عن أناس لبنانين بسطاء بطريقة “التشخيص” أو ما يمكن تسميته بـ(شخصية الفكرة)، ونجده يصيغ شعرا إنسانيا ما يوحي بالكثير حول مارسيل خليفة بقوله: تعاليت في ملكوتك حيث الجموع الفقيرة تحيا معك فيدور الفلك ربما خير ما نختم به حديثنا عن شاعر متفرد في تجربته، وفاعل في الحراك الثقافي المحلي والعربي ما وصف به من قبل الناقد الأردني الدكتور أحمد الزعبي بقوله: “حبيب الصايغ قامة شعرية عربية متميزة، فهو من الشعراء القلائل الذين وازنوا بين الشعر والفكر، فامتلكو ناصية الإبداع في كثير من قصائدهم الحداثية المتفردة، فسمة التوازن ما بين اللغة والفكرة أو الصورة والسياق أو المعنى والمبنى كما يقول القدماء، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، مسالة إبداعية دقيقة صعبة، وتحتاج إلى موهبة شعرية أصيلة وثقافة واسعة وتجربة طويلة متمكنة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©