الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن نظرية

البحث عن نظرية
3 أغسطس 2011 22:04
يحتدم النقاش في السنوات الأخيرة حول ثنائية الدولة المدنية والدولة الدينية، الدولة العلمانية والدولة الإسلامية، وهذا النقاش وإن أخذ طابعا سياسيا، فهو يعبر عن مشكلة ثقافية يعانيها الفكر العربي الحديث، مشكلة يطلق عليها د. كمال عبداللطيف “تأويل الحداثة السياسية في أوروبا” وهذه “أدت بدورها إلى “كتابة سياسية مليئة بالفارقات”. أول هذه المفارقات غلبة وطغيان الطابع الازدواجي الانتقائي على الكتابات التنظيرية في الخطاب السياسي العربي المعاصر، ولا يختلف في ذلك أصحاب التوجه الليبرالي عن غيرهم، ذلك أن المفكر العربي عند تقديم أفكاره وطروحاته يستند إلى المصادر الإسلامية، سواء القرآن الكريم والسنة النبوية أو كتابات كبار الفقهاء والعلماء المسلمين، خاصة من كتب منهم في الفكر السياسي، ويستند المفكر العربي كذلك إلى مصادر الفكر السياسي الليبرالي إن كان ليبراليا أو الاشتراكي إن كان اشتراكيا، وهكذا، وهذا يعني أننا بإزاء مرجعيتين متناقضتين، في رأس د. كمال عبداللطيف. وهما الإسلام والغرب، وما من مفكر ندرسه إلا وجدنا لديه هذا المزيج الانتقائي بين قيم وأفكار الماضي وقيم وأفكار المعاصرة السياسية، هذه الانتقائية أدت إلى بناء أو تركيب نظري يتسم بالهشاشة والضعف. الحرية والعدالة قد يجد هذا التقرير اعتراضا من البعض، مثل افتراض التناقض بين الأفكار الإسلامية والأفكار المعاصرة، ذلك أن فكرة الحرية أو العدالة ـ مثلا ـ موجودة في المصادر الإسلامية وفي سياق الفكر الإسلامي، فضلا عن التجربة التاريخية والحضارية للمجتمعات الإسلامية، وقد يعترض البعض الآخر على اعتبار المصادر الإسلامية “ماضيا”، فهي مازالت حية، ومن ثم فهي متجددة وفاعلة إلى اليوم، وهذا يمنحها المعاصرة وإن كانت من نتاج الماضي. وربما اعترض فريق ثالث من منطلق أن المفكرين العرب المعاصرين، خاصة خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي، في جمعهم بين المصادر الإسلامية والمصادر الليبرالية الغربية يكشفون عن تعدد وتنوع في مصادرهم الفكرية، وهذا يمكن أن يمنحهم ثراء فكريا أكثر وأعمق. أيا كان الأمر فإن المؤلف المغربي د. كمال عبداللطيف يبدو مشغولا ببحث ما سماه الازدواجية والانتقائية، إذ كيف يمكن الجمع بين الماوردي وابن تمية وابن خلدون فضلا عن الغزالي والشاطبي إلى جوار موننسكيو وفولتير وروسو واسبينوزا وغيرهم. يحاول د. كمال أن يجيب عن هذا السؤال عبر التوقف عند كل من خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وعدد آخر من الفكرين العرب، ويلاحظ أن الكتابات السياسية العربية لم تهتم بإنتاج نظرية في السلطة، أو في الدولة على غرار جون لوك أوتوماس هوبز، بل كانت أقرب إلى خطاب إصلاحي واقعي، أشبه بخطاب الليبراليين الأوروبيين في نهايات القرن التاسع عشر، والسبب في ذلك أن الفكر العربي كان ينطلق من قضايا واقعية يحاول البحث عن حل لها وبروح إصلاحية، هكذا كان خير الدين التونسي في مقدمة كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” فهو سياسي بارز وصل إلى منصب الصدر الأعظم بالدولة العثمانية وكان مهتما بالتنظيمات التي يجب أن تحدث في الدولة وكان متابعا ذكيا لما يجري في أوروبا، فضلا عن تجربة محمد علي في مصر. والأمر نفسه ينطبق بشكل آخر على رفاعة رافع الطهطاوي، في كتبه الثلاثة الكبرى “تخليص الأبريز” و”المرشد الأمين للبنات والبنين” و”مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية. كان الطهطاوي ابن الجامع الأزهر والثقافة الأزهرية ثم ارتحل إلى باريس للدراسة، ولما عاد كان مشروع محمد علي في ذروته، فشارك في الجانب التعليمي منه، حيث أسس مدرسة الألسن وقام على حركة الترجمة. وكان خير الدين أقرب للسياسي منه إلى المفكر، وكان الطهطاوي على العكس من ذلك، لكن جمع بينهما افتقاد النظرية ومحاولة الجمع بين التراث الإسلامي والفكر الليبرالي. درء المفاسد لم يكن المفكر العربي لديه القلق من غياب الأركان النظرية ولا كان مشغولا بنظرية تكون مصدرا للشرعية السياسية والفكرية، ذلك أنه مقتنع تماما بأن القرآن الكريم، فضلا عن الأحاديث النبوي تمثل إطارا نظريا له ومصدرا للشرعية، ومن ثم تختفي أسئلة النظرية أمام الاقتناع الديني الراسخ، فالقرآن فيه التفسير لأحوال الإنسان وعلاقة الحاكم بالمحكوم، فضلا عن وضعية الإنسان في الكون كله. لذا جاءت مقدمة “أقوم المسالك” تأكيدا لأصول ومبادئ السياسة الشرعية مثل تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، وارتكاب أخف الضررين، وحماية مصالح العباد، وحماية حقوق العباد وركزت المقدمة على محاور ثلاثة رئيسية، تتمثل فيها الرؤية الإصلاحية ودراسة القضايا الحالة والمرتبطة بالواقع المعاش، والمحاور هي الأوضاع السياسية وسبل إصلاحها، والتمدن الأوروبي وكيفية مجاراته ومواجهته، وتقرير حول المخترعات الأوروبية والمكتشفات التي ساهمت في عملية التمدن. الطهطاوي حمل قضية واحدة في كتبه وهي التمدن وكان همه كيف تتمدن مصر وتتقدم وكيف يخرج المسلمون جميعا أو ديار الإسلام من التأخر الذي لحق بهم، والملاحظ أن الطهطاوي لم يستعمل في كتاباته تعبير “النهضة” ولا مفهوم “الحضارة”. يقول في كتابه المرشد الأمين “تمدن الوطن عبارة عن تحصيل ما يلزم لأهل العمران من الأدوات اللازمة لتحسين أحوالهم وتحسين الأخلاق والعوائد وكمال التربية وحملهم على الميل إلى الصفات الحميدة واستجماع أسباب المدنية والترقي في الرفاهية” وهو يرى أن التنظيم عين التمدن، وهو لا يرى في التمدن أي مساس بالإسلام، إذ يقول “تكون رسالة الرسل بالشرائع هي أصل التمدن الحقيقي الذي يعتد به ويلتفت إليه وأن الذي جاء به الإسلام من الأصول والأحكام هو الذي مدن بلاد الدنيا على الإطلاق” وهكذا لا يمكن الفصل لدى الطهطاوي بين تحقيق المنافع العمومية والإصلاح السياسي وكذلك التربية الدينية وتهذيب الأخلاق، والتمدن الحقيقي الذي يعتمد عليه ويوثق به هو ما جاء به الإسلام. دارسو الطهطاوي لا يمكن أن يغفلوا الأفكار الليبرالية وروح عصر التنوير الأوروبي، لكن هذه الأفكار جاءت في الإطار الإسلامي ولم تخرج عنه، الأمر نفسه، وإن كان بأسلوب مختلف يمكن أن يكون لدى الإمام محمد عبده، خاصة في محاوراته مع فرح أنطون، وهو يبدو كذلك لدى جمال الدين الأفغاني في رسالته الرد على الدهريين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©