الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما قال البحر.. ما كتب الحبر

ما قال البحر.. ما كتب الحبر
3 أغسطس 2011 22:03
بين أزرقين: أزرق البحر وأزرق السماء، وعلى بعد أمتار قليلة فقط من البحر، ولد الكاتب والقاص الإماراتي إبراهيم مبارك، ودرجت قدماه على رمله وعبثت أصابعه المسكونة برغبة الاكتشاف عن صدفاته ووشوشاتها... وربما عنَّ له ذات لهو أن يتساءل عما يحمله هذا الواسع في جوفه ... وربما، لهذه الأسباب وغيرها لن يكتفي إبراهيم مبارك بالجلوس على الشاطئ ومراقبة بحره الجميل... بل سيغوص إلى أعمق قيعانه... سيسبح فيه ممتلئاً بملحه وعافيته... سوف يتقصى حكايات صياديه وذاكرة عَبْراته وينشر أشرعته الإبداعية فوق موجه الساحر... وسيغرق فيه تماماً بحيث تبدو قصته نفسها في نهاية الأمر صدفة من صدفاته... هبة من هباته الكثيرة. حفر البحر في روح إبراهيم مبارك أثراً سيلازمه في كل مشواره الإبداعي ويمارس سطوته على كل ما يكتب، ويتفشى في نصوصه، كما يفعل الحبر إذا سقط في الماء... وسوف يهيمن بجسده وكائناته وأسمائه وروائحه وطقوسه هيمنة شبه كاملة على عوالم إبراهيم مبارك القصصية وحتى مقالاته سواء عنواناً او موضوعاً او دلالة. وبين البحر والحبر قرابات شتى هي حتماً أكبر من مجرد التشابه في الحروف التي تشكل جسديهما... هنا، بعض ما قاله البحر وبعض ما كتبه الحبر. نشر إبراهيم مبارك أحد عشر كتاباً تتوزع بين الدراسة والمقالة والقصة منها: “الكشافة في الإمارات، جزءين، صدى المسرح، نواقيس، ضفاف الكلام، ساحل البحر، صواري” وأربع مجموعات قصصية هي: الطحلب، عصفور الثلج، خان، ضجر طائر الليل، وهي المجموعات التي تناولتها هذه القراءة. منذ نشر إبراهيم مبارك قصته “ضربات المطارق” عام 1974 على صفحات نشرة “نادي النصر” في دبي (1)، أفصح عن موهبة سوف يكون لها حضورها في المشهد القصصي في الإمارات، والذي سيتعاضد مع حضور ثقافي عام وفاعل على الصعيد المؤسساتي لشخصية يؤرقها الهم الوطني والعربي والإنساني، وتنطلق في الكتابة من رؤية نقدية تحليلية تتوغل في القاع المجتمعي وهمومه... تلك الرؤية التي ستتجلى في مختلف مواقفه وكتاباته سواء القصصية أو المقالات الأدبية. ومن تابع تجربة مبارك منذ ثمانينيات القرن المنصرم وحتى يومنا هذا لن يستطيع أن يغفل أثر الوعي الاجتماعي والسياسي في تكوينه، ولا تواضعه الجم على الصعيد الإنساني، ولا تلك النظرة الفاحصة، المستبصرة، التي ترى أو تحاول أن ترى ما خلف الأشياء، مزيلة عنها القشرة الخارجية لتظهر حقيقتها عارية للعلن... من هنا، كان إبراهيم مبارك عبر الأدب شاهداً صادقاً، لا شاهد زور، على التمرحلات والتحولات السوسيولوجية والثقافية التي مرت بالوطن، وهو يصوغ قسماته الحداثية. وقصة “ضربات المطارق” هذه، لم تعلن عن اسمه كمبدع فقط، بل رمت حجراً في بركة راكدة، وعالجت موضوع حقوق المرأة ومكانتها في الحياة الاجتماعية، وهو طرح كان متقدماً في تلك الفترة، لكن القصة رغم أهميتها على صعيد المضمون الفكري، وربما بسبب حمولاتها الفكرية، لم تخل من مباشرة. وهو الأمر الذي سينتبه له إبراهيم مبارك فيما بعد وسيعمل على تجنبه، حيث أقام على قصته، يهذبها، ويشذبها، ويغذيها أسلوبياً لكي يأتي المضمون الفكري في إهاب فني. مع «النصر» يرتبط اسم إبراهيم مبارك باسم له رمزية واضحة في ثقافة البلد هو “نادي النصر الثقافي الرياضي” الذي كان الحاضنة الأولى التي التمَّت في دفئها بعض التجارب الإبداعية والثقافية التي أصبحت من رموز المشهد الثقافي بعد ذلك، حيث كانت النوادي الرياضية في تلك الفترة ثقافية أيضاً ولها برنامجها ونشاطها وأثرها على الشباب. لم تكن القدم وحدها هي الهاجس كما هي الحال اليوم، ولم تكن الساحرة المدورة هي الهدف أو “الجول” الذي يطارده الشباب وحسب، بل كان الوعي هدفاً وبناء “رأس” يفهم ويعرف ويحلل “جولاً” لا يقل تحقيقه أهمية عن “الجول” الذي يسجل في الشباك. في تلك المرحلة، سجل الرياضي والثقافي “هدفاً مشتركاً” وبدا أنهما ينسجان شبكة وعي شبابي متميز في فترة كانت لا تزال تحتفظ بطعم الستينات. في نادي النصر، سيتعرف إبراهيم مبارك إلى عدد من الشباب المهتمين بالثقافة والقضايا الوطنية، وسيلتقي عبر مكتبة النادي بمبدعين عرب وعالميين بعد أن كانت القراءة تقتصر على بعض المجلات التي تصل إلى دبي من مصر وبيروت. في أحضان تلك المكتبة سيقرأ تولستوي وجوركي وهيجو ودستوفيسكي ونجيب محفوظ ويوسف السباعي ويحيى حقي وطه حسين والعقاد وجورج طرابيشي وأنيس منصور وقائمة طويلة من كتاب العالم لا سيما من أميركا اللاتينية، كما سيسهم في نشرة النادي الثقافية التي كانت مع نشرات أندية أخرى محاولة من الشباب لتثقيف المجتمع، ونشر الوعي بين أعضاء النادي والجمهور... كان ذلك حلماً يحمله تقريباً كل الشباب العرب الذين كانوا يعتقدون وقتها أن بإمكان الأدب أن يغير الكثير قبل أن يكتشفوا أن الأمر أكبر بكثير من الأدب والثقافة معاً. حالات وتحولات يكتب إبراهيم مبارك قصة الحالة وقصة الموقف بلغة تجنح نحو الشعرية غالباً، مستهدفاً إيصال حمولاته الفكرية والثقافية في ثوب رقيق شفيف وحلّة قشيبة، لكنه في أحيان قليلة يتبع إغواء الشعر ويسترسل في سرده الشعري أكثر مما تحتمله القصة. وهو في معظم قصصه يحرص على الحدث الدرامي الذي ينمو ويتطور ويتأزم ثم تأتي النهاية. وتتميز قصصه بتسلسل الأفكار، ويلجأ أحياناً إلى سرد يقترب من المشهدية السينمائية، بحيث يشعر القارئ كما لو أنه يشاهد فيلماً... وفي ظني أن قصص إبراهيم مبارك تنطوي على إمكانات للتحول إلى أفلام سينمائية، وهو يعتمد في ضربته الإبداعية على النهاية التي تضيء النص وفكرته. أحياناً يلجأ إلى أسلوب الاسترجاع (فلاش باك) ليوصل مراده، وهو ينوع في مستويات السرد بين الوصف والحوار (الداخلي – المونولوج) و(الخارجي - الديالوج) لكنه يفضل الوصف الذي يتيح له على ما يبدو مساحة من البوح والتداعي. وتحتل الذاكرة مساحة واسعة من قصصه بل ربما “يتمفصل” حولها جزء كبير من إبداعه. وهي تأتي في غير قصة مبتلة بماء البحر وماء الحياة، محمولة على سرد حميم، متوتر، مشبع برائحة الماضي وظلاله... سرد يأتي في غلالة لغوية شعرية. يقول في قصة “عاشق البحر” القصة الأولى في في مجموعته الأولى “الطحلب”: “حرث البحر.. قبض على الماء.. حملته أمه في بطنها وبعد تسعة أشهر خرج كالسمكة، فسبح في البحر.. احتضنته أصابع متشققة تبرز منها نتوءات الصخور الكبريتية من أثر حبال الشباك وخيوط الصيد، عمدوه بقطرات مالحة من ماء المحيط، فانفتح القلب كبوابة السماء الواسعة، برق البحر في عينيه منذ اليوم الأول.. مرسوم طريقك... .... أيها الخارج من ظهر البوس والفقر.. الماء أمامك وخلفك، فاحرق العمر حتى يخرج من رماده الآخرون وتمتد الحياة، ولتشعل أيامك شمعة حتى يهتدي للطريق من يسير ... ...”. (2) وتتمظهر الطفولة كمكوّن من مكونات الذاكرة وأحداثها بوصفها حضناً حنوناً يثير مشاعر إيجابية، خاصة عند الحديث عن الأمهات والفرجان وكبار السن. وهنا لا بد من الانتباه إلى مسألة إبداعية ذات علاقة بحضور الطفولة الشخصية في عالم المبدع. عادة يلجأ المبدع إلى ذاكرة الطفولة كنوع من التوظيف الفني والجمالي مستهدفاً إضاءة أماكن معتمة في النص أو إثرائه أو تخصيبه بينما شاءت المصادفة التاريخية البحتة أن تكون طفولة المبدع الإماراتي هي أيضاً طفولة الوطن، ذلك أن التأسيس التاريخي للدولة مرتبط بتلك الطفولة وتلك الذاكرة... وعليه، ليس مستغرباً أن تختصر الحالات الإنسانية التي يستحضرها الكاتب التحولات الكبرى التي شهدتها البلاد. وربما، لهذا السبب، يلاحظ دارس الأدب الإماراتي المكتوب في السبعينيات والثمانينيات وحتى أواسط التسعينيات من القرن المنصرم سمة الحنين إلى الماضي التي كتب عنها أكثر من ناقد ودارس للقصة التي تكتب في الإمارات. نوستالجيا المكان لم تقتصر قصص إبراهيم مبارك في استدعائها للذاكرة على الحدث، بل انسحبت إلى المكان أيضاً، خاصة المكان القديم، الأليف، الحيز الذي نمت فيه العواطف والذكريات والمشاعر والأحداث. هنا، يمكن الجزم بأن كل هذا الحنين وهذه النوستالجيا التي تتبدى في المتن القصصي وتؤثث الفضاء السردي للنص أكثر من مجرد حالة شعورية تشتاق إلى مكان مضى، بل حالة فكرية لها قواعدها وأسسها التنظيرية التي يستند عليها القاص وهو يعلن موقفه من التحديث والتغير الذي يجري حوله. يرسم إبراهيم مبارك المكان بشكل واقعي، مبرزاً من خلال لغة وصفية تكون أحياناً تسجيلية كما كاميرا تتنقل في الأنحاء، تفاصيله ومكوناته وعناصره وكل ما يشكل فضاءه الجغرافي، واضعاً القارئ في بيئة النص ثم يدخله مباشرة في الحدث، وكأن المكان هنا هو مهاد القصة وسريرها الذي تنام فيه قبل أن يوقظها الكاتب أحداثاً على الورق، وهي تقنية في الكتابة استخدمها غير مرة. لكن مثل هذا الوصف الواقعي، المحايد للمكان، يكاد يكون الأقل حضوراً في قصصه، ليكتسب سمة إبداعية من خلال تصوير غير محايد يتجاوز فيه القاص حدود الوصف الواقعي والنقل الحرفي لما تقع عليه العين إلى مرتبة متقدمة، فيضفي عليه من روحه، ويسبغ عليه من مشاعره. وهنا، يتحول المكان من مجرد بقعة جغرافية ليصبح بعداً سيمولوجياً ومهداً للإمكانات التعبيرية الضاجة والكثيفة. وأحياناً يلغزه ويجعله غامضاً لكي يصبح قابلاً للتأويل، محمولاً على رمزية ذات علاقة بالدلالات التعبيرية التي يريدها... ومن أبرز السمات التي تلفت الانتباه في علاقة أبطال إبراهيم مبارك بالمكان أنها علاقة حميمية، دافئة، حتى في الحالات التي تعرضوا فيها لغبن أو جور أو معاناة. ومن نافل القول إن المكان في العمل الإبداعي يكشف بالطبع عن موقف الكاتب الفكري ورؤاه وقناعاته تجاه ما يراه ويكتب عنه. ومن السهل فهم حميمية هذه العلاقة إذا تذكرنا أن معظم قصص إبراهيم مبارك تدور حول البحر وبحارته وصياديه وعوالمه أو الصحراء وناسها وعشاقها والهاربين إليها أو منها، والحارات الشعبية وفرجانها وما يدور في نهاراتها ولياليها من حكايا. ورغم أن البحار قد يفقد حياته أو جزءاً من جسده في صراعه مع البحر، إلا أنه يظل بالنسبة إليه مصدر حياته، علاقته معه مصيرية بل قدرية... وهو بالنسبة إلى سيف بطل قصة “سيف والجرجور” شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه، وحين يعود إلى الشاطئ برجل واحدة بعد أن قضم “الجرجور” رجله وتطلب منه زوجته عدم العودة إلى البحر مرة أخرى يجيبها: “لا أستطيع أن أبتعد عن البحر.. ولكن، سوف أكون حذراً من الوحوش التي تعيش فيه”(3). وفي الحالات التي يغيب فيها المكان، وهي قليلة، إنما يؤكد إبراهيم مبارك بهذا التغييب حجم الغربة الروحية والنفسية التي يستشعرها الفرد خاصة من ذلك الجيل الذي شهد شيئاً من الماضي وعاش في أفيائه تجاه الحاضر وحداثته ومدنه الإسمنتية... ورغم حضور الماضي، ورغم أن الذاكرة تؤثث فضاء النص بالروائح والأصوات والأنغام والمشاهد الماضوية، إلا أنه لا يفعل كما فعل الشاعر القديم عندما وقف على الأطلال... لا يرثي أو يبكي مشاهده الغاربة ولا يكتفي بالحنين إلى الزمان الجميل أو المنازل الأولى، بل يقف على الأطلال ليحلل ما يجري اليوم... ويرنو إلى المستقبل... وفي واقع اليوم وصورة المستقبل يرتسم خطر كبير يشغل الكاتب على وطنه: خلل التركيبة السكانية وتابعاتها. الحداثة وأخواتها بين علاقة الانسجام والاغتراب، وبين الحنين الى المنزل الأول والتحديق في المكان الجديد، تبرز قضية التركيبة السكانية المختلة وتداعياتها وما تثيره من مشكلات وما يرافقها من سلبيات كانشغال رئيس لدى إبراهيم مبارك، ولعل أشرس هذه الإشكاليات تتمثل في مخاطر العمالة الوافدة (غير العربية). ففي ظل حداثة غربت الكائن عن مكانه وهويته، بدا أن القاص الإماراتي مسكون بوجع روحي عميق مغروس في داخله، رغم مظاهر الرفاه المنتشرة والأبنية الشاهقة التي ربما تكون سبباً من أسباب هذه الغربة، خاصة لكائن عاش حياته او اعتاد على ان يعيشها في منزل افقي تتسع به الروح للآخرين ويتسعون لها في فرجان بسيطة مفتوحة الأبواب والقلوب، فإذا انضافت إليها هذه الوجوه الغريبة التي تملأ المكان وترطن بشتى اللغات تصبح المدينة مهما كانت إيجابياتها مشروعاً تغريبياً بامتياز. ومعظم قصص إبراهيم مبارك تقول مثل هذا المعنى، وإن في صور مختلفة... ويبرز هذا الهاجس بشكل ملح في معظم قصص مجموعتيه “خان” و”ضجر طائر الليل” اللتين تؤشران بكل وضوح على الخطر الكامن خلف العمالة الآسيوية على المستوى الثقافي واللغوي والاجتماعي وعلى الهوية والعادات، بل وعلى المستوى السياسي، حيث يعلن القاص خوفه على الوطن من الغرباء الذين ينتشرون في كل مكان بل ويعلنها صراحة على لسان بطل قصته “غريب على البحر” بأن “الشواطئ لم تعد لناسها وحتى حراسها من الغرباء” (4). هؤلاء الغرباء الذين يقضون مضجع الكاتب ليسوا فقط موظفين موجودون هنا وهناك، ولا ثعالب يديرون الشركات ممن لا همَّ لهم سوى الإثراء بأي وسيلة، بل هم أيضاً متسللين جاؤوا لأهداف بعينها، لهذا يدق الكاتب الناقوس ويحذر من خطرهم، ويرسم ملامحهم الشريرة في قصته “خان: شراسة الجبل.. سلام البحر”، وهي قصة ذات سوية فنية عالية ومركبة تتعدد فيها الشخصيات الآسيوية بين شرير يريد الاضرار بالوطن، وحاقد عليه بسبب مشكلات مع رفاقه أوقعته في يد الشرطة وحرمته من تحقيق حلمه الذي جاء من أجله متسللاً الى هذه البلاد، فحقد على كل شيء فيها، وقرر أن ينتقم ممن خدعوه، وبين عامل بسيط لا يبحث إلا عن رزقه وعيشه وحياة كريمة. أما في قصة “زليخة” (أيضاً من مجموعته “خان”)، فيرسم على لسان بطله صورة موجعة للطريقة المستهترة التي ينظر بها هؤلاء المتسللون إلى وطنه وحماة سواحله... لكنه يلقنهم درساً لا ينسى ويحيك لهم (إبداعياً) مكيدة معتبرة توقعهم في حبائل الشرطة لينالوا العقاب الذي يستحقون، ويخرجوا – ومعهم القارئ بالطبع – بنتيجة مفادها أن الوطن محمي بأبنائه الأوفياء وليس مطمعاً لكل من هبَّ ودبَّ. أما في قصص “ضجر طائر الليل”، فهناك هجاء عالي النبرة لبعض المظاهر السلبية الاجتماعية التي جاءت بها الطفرة الاقتصادية في مقابل إبراز القيم الأصيلة عبر طرائق تقنية فنية منها استدعاء التاريخ الناصع والزمان الجميل الذي دافع فيها شباب هذه البلاد عنها أمام الغزاة والطامعين لتوظيفه في قصص: “نشيد الجدار” و”بندقية خارج الزمن” و”صقر طنب”. وثمة إدانة لبعض مفرزات الحداثة السلبية الغريبة على ثقافة المجتمع السابقة كالرشوة والمحسوبية والواسطة والانتهازية، فضلاً عن السلوكيات السلبية للشباب الذين تشظوا بين قيم الماضي وقيم العصر، سواء من انحازوا الى العصر تماماً ورموا وراء ظهرهم الماضي بكل ما فيه أو من حاولوا الجمع بين هذا وذاك سعياً وراء التكيف او التواؤم، في مقابل مديح خفي لمن ظلوا صامدين على قيمهم الجميلة. لكن الحداثة ليست شراً كلها، ثمة إيجابيات يقع عليها القارئ في بعض القصص أهمها محاربة الخرافة والدجل والشعوذة والمرتزقين الذي يخدعون البسطاء باسم الدين (قصة قبر الولي)، والتطور في وسائل الحياة وأساليبها المختلفة، وانتشار التعليم الذي قضى على الجهل. والتعليم وهمومه يحتلان حيزاً غير قليل لدى إبراهيم مبارك الذي يعمل في الحقل التعليمي وله عليه مآخذ تظهر أحياناً في إبداعه، ففي قصة “مسافة الحلم.. مسافة الرؤيا”، يتضح كم أن الحداثة قشرية لم تمس سوى القشرة الخارجية للوعي ولم تستطع ان تغير في الداخل، في العمق الفكري للشخصية، فـ “سيف” شقيق حصة الذي عاش مع البطل في حي واحد ومدرسة واحدة وجامعة واحدة لا يختلف في رأيه ومنطقه – حسب البطل – عن جد حصة الأمي، بل كان أكثر تصلباً (في رفض زواجه منها)، ولهذا يقول: “اعتقدت أن هذا التعليم ينير الجماجم، يدفعها لبناء وطن جميل (...) اللعنة على تعليم لا يخرّج سوى كتبة”(5). والانتقاد نفسه يظهر في قصة “مدرسة” (مجموعة “الطحلب”) وفي قصة “السور” (مجموعة: خان) التي يبرز فيها قصور الاساليب التربوية التي تعتمد الضرب والشتائم والقسوة وتدفع بعض الطلاب الى كراهية المدرسة وإلى الأبد، علاوة على عدم توفر شروط السلامة والصحة الجسدية، لكن الأمرّ أنه يجد مدير المدرسة (الحكومية) نفسها وبعض مدرسيها وقد سجلوا أولادهم في مدارس خاصة، وحين يسألهم عنها يقولون له: ممتازة!!. هذه الازدواجية في الفكر والسلوك والممارسة التي أبكته، لا تقتصر على التعليم فقط، بل نجدها لدى أفراد آخرين في وظائف أخرى يستغلون الآخرين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم من طبقات اجتماعية أقل، أو فئات تكدح فيما هم يجمعون ثرواتهم من مصادر ليست دائماً قانونية. الباحثون عن الحرية “جلس حمود في فناء المنزل.. حدّث طائره الجميل طويلاً، فتح القفص.. وضع الطائر على كفه، قبل رأسه، نظر إلى عينيه السوداوين الصغيرتين، كانت النجوم تلمع بهما، هكذا خيل له. قال: هاتان النجمتان يليق بهما الاستقرار في قمة السماء فق، هذان الجناحان شراعان لا بد أن تحملهما الريح إلى البعيد.. البعيد، مسح الريش الملون، رفع كفه إلى أعلى وأطلق الطائر، حلق، استدار دورة كاملة حول المنزل ثم صعد إلى السماء، أخذ حمود يقهقه بفرح وسعادة كبيرة حتى اختفى الطائر الجميل خلف السحب” (6). هكذا يختم ابراهيم مبارك قصته الجميلة “حمود” في إشارة الى أن الطيور لا يليق بها سوى الحرية، وقد سبق أن جاءت في قصة “النورس” (مجموعة الطحلب) على لسان والد الطفل / بطل قصته الذي نصحه بقص ريش النورس إن أراد أن يحتفظ به، لأن “الطيور لا تحتمل الاعتقال”. والحرية واحدة من القضايا التي مارست حضوراً واسعاً في قصصه، بل تكاد تكون سمة معظم مجموعاته القصصية، عبر تمظهرات وتجليات كان الطائر أحد رموزها أو اشكالها، حيث من البشر من هم طيور حرية أيضاً. والحرية باعتبارها غاية وهدفا، مفتاح من المفاتيح الأساسية في شغل مبارك الفني، سواء كانت حرية الفكر او الممارسة، وكانت أيضاً غاية لعدد كبير من أبطال قصصه. ومن لازمات الحرية الأثيرات سمة التمرد، وهي السمة التي تميزت بها شخصيات قصصه التي بدت رغم تدني مستواها الاجتماعي او الطبقي فاعلة وقادرة على الرفض والتمرد كما في قصص: شتاء، النورس، جاك باك، يأتي من مدينة السحرة، عائد الى الجنوب (مجموعة الطحلب)، وقصص: الضب، مناقير (مجموعة عصفور الثلج)، وقصص: حمود، رجل صدره غربال، (مجموعة خان)، وقصص: حلم عبار، نشيد الجدار، بندقية خارجة على الزمن، صقر طنب (مجموعة ضجر طائر الليل). وتبدو بعض شخصياته مثل أيقونات للحرية تضحي بنفسها من أجل الوطن وتفدي المجموع (قصة: رجل صدره غربال، وقصة: صقر طنب). ولا يقتصر مفهوم الحرية على شقه السياسي او الوطني فقط بل ينزاح الى الاجتماعي ليقدم لنا قصصاً عن اشخاص تحلوا بالجرأة ليغيروا حياتهم التي لا يريدونها الى حياة أخرى مختارة (قصص: الليل تهزمه امرأة)، ولأنها شخصيات مختلفة في وعيها، سابقة لعصرها ربما، ظلت مطاردة ومحاصرة وتحت الاعتداء عليها حتى اشعار آخر، وظهرت في ثوب من الغموض الذي يلف مصيرها بالكامل او الغموض النسبي التي أبقى الكاتب رمزاً موحياً يؤشر على ما حدث لها أو لقيته (قصص: الكلاب، (مهاجر، جاك باك، يأتي من مدينة السحرة). ورغم سمة التمرد أو الاختلاف التي تميزت بها غالبية شخصياته لم يخل الأمر من حالات أخرى صورت شخصيات جبانة تخاف حتى من حركة مسكين جاء الى البيت يبحث عن كسرة خبز (قصة: أرنب)، أو شخصيات تساقطت في منتصف الطريق أو غيرت جلدها تماماً وتحولت الى حالة من العبودية الكاملة (سرور في قصة الخيزران)، وهي قصة عميقة المغزى، ذات دلالات متعددة، حمالة أوجه، ومفتوحة على التأويل... قوس إنساني لكل مبدع مسقط رأس إبداعي ينطلق منه في مشروعه. بالنسبة إلى إبراهيم مبارك كانت أم سقيم، القرية الوادعة الممتدة على ذلك الشاطئ الهادئ المشبع بروائح البحر وعرق الصيادين هي مسقط الرأس هذا بكل ما يختزنه من حكايات وبشر وفرجان وبيوت، ولم تكن “أم سقيم” مجرد قرية في دبي تتعرض للتغيير وتفقد ملامحها العمرانية وخصوصيتها المجتمعية، بل كانت نموذجاً مصغراً لما يشهده الوطن كله من تغيرات دراماتيكية مفاجئة وكاسحة، ومن خلالها يرسم القاص ملامح تموت وأخرى تولد، وبنية اجتماعية تندثر بكل قيمها وعلائقها الإنتاجية وطريقة حياتها واقتصادها وأسواقها ومعمارها مقابل بنية قادمة تحمل علاقاتها وأنماطها الاستهلاكية والاقتصادية وطبيعتها المعمارية. لقد رأى الكاتب عالماً كاملاً ينهار ولم يكن ذلك العالم سوى عالمه الجميل ومكانه الأليف الحميم... ولم يكن الآتي في أغلب الأحيان سوى تهديد مباشر للذات والهوية التي سرعان ما بدأت تتهاوى تحت “مطارق” العالم الجديد الذي يتشكل بسرعة رهيبة لم تترك ابراهيم مبارك وحده حائراً أمامها، بل شاركه في الحيرة معظم مجايليه من الكتاب... أخذ إبراهيم على عاتقه مهمة قول ذلك كله عبر القصة... وكان البحر شاهداً والمكان رمزاً والحدث أمثولة كثيراً ما كانت تغادر أم سقيم الى باقي القرى والفرجان في الإمارات كلها. ولأن إبراهيم مبارك كان في الأصل واعياً بما يفعل، ينطلق في مشروعه الإبداعي من هم قومي وعروبي لم تبق “ام سقيم” في إطارها الإماراتي بل خرجت الى الصحراء لتقول همومها وأشواقها وأحزانها وتمردها ورغبتها في أن تكتب تاريخها كما يراه أهله، ثم اتسع القوس ليضم الهم العربي وفي القلب منه فلسطين التي حضرت في أكثر من مجموعة من مجموعاته القصصية، وعبر عنها في أكثر من صورة. لم ينفتح قوس الإبداع من “أم سقيم” الى العالم العربي فقط، بل شمل ايضاً هموم الإنسان في العالم الذي يحيط بالقاص، لتكتسب قصصه حلة إنسانية مفتوحة على العالم كله وفقرائه ومهمشيه راسمة قسماتهم، وربما أتاحت التركيبة السكانية للدولة التي تعج بالناس من كل صنف وتحتضن جنسيات شتى للقاص أن ينوّع في شخصياته وأبطاله، ويتفنن في رسم ملامحهم كما يفعل الفنان وهذه واحدة من سمات إبراهيم مبارك الأسلوبية، فهو يتقن رسم الشخصية داخلياً وخارجياً، بكل ملامحها وظلالها النفسية وبطانتها السيكولوجية، وأعتقد أن دراسته لعلم النفس أكسبته مثل هذه المُكنة التي تستلزم المعرفة العلمية بخبايا النفس البشرية وطبيعة الشخصيات المختلفة وسماتها وأنماطها الاجتماعية. السفر ايضاً هو نافذة أخرى يطل منها القاص على عوالم جديدة، بشر مختلفون، حضارات، ثقافات، أماكن ارتسمت كلها في قصصه ووجدت لها حضوراً رمزياً في أعماله القصصية... ومن “ام سقيم” إلى عُمان وبيروت وبغداد والبصرة والقاهرة وكوريا وروسيا والهند وإفريقيا فتح إبراهيم مبارك قوسه الإبداعي على الإنسان أينما وجد، فتحققت له سمة أسلوبية أخرى هي الإنسانية... ففي قصصه تعثر على نص إنساني رحب، وحميم، وقادر على تقديم الحدث والفكرة في تسلسل وترابط، وفي شكل فني مسبوك، (قصص: شتاء، شجرة الصنوبر، مرينقا، عصفور الثلج، رسالة حب، امرأة من الشرق، مهاجر، عائد الى الجنوب، موعد، دائرة دافئة في جسد الصقيع). لقد ذهب إبراهيم مبارك بعيداً وعميقاً في رصد وتصوير معاناة الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً... ومن أم سقيم سافر سفرين: سفر ثقافي للتمتع بـ والتعرف إلى البلدان التي أراد الغوص في ثقافتها وحضارتها، وسفر إبداعي عبر نص تخييلي يستنطق روح المكان وتجلياته المختلفة، ناقلاً صوراً من حياة المهمشين، المغيبين، المتروكين والمنسيين، من دون أن يغفل بالطبع همه الأساسي الذي تغلي به نصوصه: الوطن والتحديات التي يواجهها و... كثير مما لا يتسع المجال لسرده. هوامش (1) نشرت قصة “ضربات المطارق” بعد ذلك في مجموعته القصصية “خان” الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1999، ط اولى. (2) أعاد نشر قصة “عاشق البحر” في كتابه “سواحل البحر” الصادر عن اتحاد كتاب وادباء الإمارات، 2002، لكنها حملت نهاية مختلفة، والكتاب يضم كل ما كتبه إبراهيم مبارك عن البحر من قصص ومقالات ودراسات. (3) مجموعة “عصفور الثلج”، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ط اولى، 1992، قصة “سيف والجرجور” ص 80. (4) مجموعة “ضجر طائر الليل”، قصة “غريب على البحر” ص 93. (5) مجموعة “خان”، قصة “مسافة الحلم.. مسافة الرؤيا”، ص 27. (6) المجموعة السابقة، قصة “حمود”، ص 16.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©