الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية الإنسان داخل عوالم غير بشرية

14 فبراير 2008 00:19
يعتـبـــــر الكاتـــب الأمـيركــي جــاك لنــدن (1876 - 6191)، من أهم الكتاب الملتزمين في الحياة الأدبية الأميركية خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد عاش في مجتمع شهد عدة تحولات كبرى سياسية وفلسفية نتج عنها تغيرات اجتماعية واقتصادية لا تقل أهمية· من ناحية أخرى فقد جاءت حياة هذا الكاتب في وقت فاصل من حياة المجتمع الأميركي نفسه، بعد أن سقطت الحدود الطبيعية بين الولايات من غربها إلى شرقها بفضل انطلاق السكك الحديدية التي أدت بالتالي إلى سقوط المزارع الكبرى، بل والصناعات الكبرى المستقلة، لتنشأ طبقة رجال رأس المال الذين يسيطرون على كل تلك الأنشطة من مكاتبهم في العواصم الكبرى· تحول فلسفي من ناحية أخرى فقد حدث تحول فلسفي كبير في الفكر على اثر انتشار الأفكار ''الداروينية'' القائمة على نظرية التطور، والتي فتحت أمام مثقفي ومبدعي تلك الفترة آفاقاً جديدة قابلة للارتياد، وهو ما كان سبباً في تيار كبير انطلق مجرباً الإبداع في مناطق لم تكن معروفة من قبل، كتلك التي تتعامل مع عوالم غير بشرية، أو خليط من البشرية وغير البشرية المرتبط بحياة هؤلاء· نتيجة للتحولات الاقتصادية وجد الكاتب الأميركي ''جاك لندن'' نفسه في بداية حياته عاطلاً عن العمل، ومتنقلاً في مغامرات بحثاً عن لقمة العيش، فجرب المغامرة في عوالم البحر بعمله على سفن عدة بحاراً، وكان من أوائل الأميركيين الذين جابوا العالم كبحّار في مطلع حياته، إذ وجد نفسه في اليابان وفي بحر بهرنج، إضافة إلى مناطق استوائية عرف أدغالها وناسها الفقراء المتخلفين· قساوة التجربة الكاتب جرب أيضاً المغامرة في الأعمال المتدنية على الأرض، كالعمل في المناجم ومصانع الحديد والصلب، مما جعله يعيش أبشع تجربة شهدتها البشرية في إطار الصراع بين صاحب العمل والعامل، فقد كان واحداً من طوابير العمال الذين أضربوا عن العمل احتجاجاً على الأجور المتدنية وظروف العمل القاسية، وللقضاء على هذا الإضراب تحالفت السلطات المركزية مع أصحاب الأعمال فدفعت برجال الجيش لسحق العمال المضربين في أعنف معركة انتهت بأن أصبحت تأريخاً لنضال الطبقة العاملة في العالم كله، وعيداً للعمال· وجاءت روايته ''العقب الحديدية'' الصادرة عام 1907 التي صور فيها حتمية الصراع بين معسكري التقدمية والرجعية، والأساليب الجهنمية التي تلجأ إليها الرأسمالية في صراعها من أجل البقاء· وأطرف ما في ''جاك لندن'' وضع هذه ''الرواية ـ المعجزة'' على لسان زوجة البطل، وتخيل أنه عثر عليها عن طريق المصادفة بوصفها مخطوطة كتبت في عهود الظلام، ومن أجل ذلك راح يضع لها الحواشي والشروح، مفترضاً أنه يكتب تلك الحواشي والشروح بعد بضعة قرون انقضت على انتصار الطبقة العاملة، ليصف بعض ظواهر الحياة الغريبة في العهد القديم، وربما يفسر هذا موقفه المعادي للسلطات الرسمية ومن يسير في فلكها من السياسيين ورجال المال والإعلام الذين وصفهم بأنهم ''داعمو الطغمة العدوانية، ومروّجو أفكارها الوحشية''· وتنبأ في تلك الرواية بقيام ثورة اجتماعية تحاول إطاحة النظام الجائر الذي يخدع دعاته الناس، والذي يسحق البشر تحت شعارات ''الديمقراطية والحرية''، فيما هو نظام تعسفي غارق في أوحال العنصرية والرأسمالية· خصومة ورواج سرعان ما اعتبرت السلطات الأميركية الكاتب خطراً على ''العقيدة البراجماتية'' التي تؤمن بها، ووضعته في خانة ''أعداء الأمة''· أما هو فلم يبالِ بكل هذا، مستمتعاً برواج كتبه وما كانت تدره عليه من عائدات، بحيث انتسب إلى جامعة كاليفورنيا· غير أنه ملّ رتابة الحياة الجامعية، فغادر الجامعة من دون الحصول على الشهادة التي كان ينوي الفوز بها· وإذا كان هذا الكاتب وفياً لأفكاره ومبادئه الإنسانية، فإن الوفاء جعله نبراساً لجيل من الأدباء الأميركيين الذين ساروا على هديه، طامحين بقيام مجتمع عادل غير عنصري وغير رأسمالي لا يلتهم فيه الأقوياء نظراءهم في الإنسانية·· أي الفقراء! من ناحية أخرى أدى تأثره بنظرية التطور ''الداروينية'' إلى إبداع عدد من الأعمال الروائية التي كانت تحاول أن تسبر غور الكائنات الأخرى التي ترتبط بالإنسان، سواء عن طريق حلقة التطور التي تحدث عنها دارون أو تلك التي ترتبط بالإنسان في حياته اليومية، ونظراً لتجاربه القاسية في الحياة فقد خلط بين التجربة الشخصية وما كان يؤمن به من أفكار، فكانت رواية ''ابيض الناب'' التي تعتبر قمة هذا الإبداع ''الداروني'' إذا صح التعبير، ذلك أنها تدور حول مخلوق مختلط الجنس·· أُمه كلبة وأبوه ذئب · بداية صعبة نتابع خلال الرواية حياة الذئب الصغير ''أبيض الناب'' مخلوقاً في مغارة مظلمة تحت الأرض بعد موت أخوته جميعاً وهو لا يزال ''جرواً'' صغيراً، محتكراً لبن أمه فيشب قوياً ويحاول الخروج من المغارة قبل الأوان متخبطاً داخل المغارة أولاً، بعد أن فشل في مغادرتها عن طريق الحائط المضيء بسبب رفض أمه، ويتوه وسط الغابة الصنوبرية مواجهاً الصعاب والأخطار، ويغرق في مجرى مائي فتنقذه أمه· ثم يتابع الكاتب رحلة الذئب الطويلة من الطفولة والصبا والشباب في غابات السواحل الغربية لأميركا الشمالية، لكن خلال تلك المتابعة لا يقدم ''جاك لندن'' دراسة علمية عن التهجين بين الذئاب والكلاب فهي كلها من أسرة حيوانية واحدة· معارك ضارية يصطاد الهنود الحمر الكنديون الناب الأبيض وأمه· وفي الأسر تكون الأُم مربوطة وابنها الصغير طليقاً يواجه كلاب المخيم الأخرى بعيداً عنها، لكنه يتعلم بحسه الطبيعي كيف يقود أعداءه من الكلاب الكبار إلى مربط أمه فتنتقم من الواحد منهم انتقام الجبابرة لأنهم يعاكسون ابنها الصغير ويقسون عليه، ويحين الفراق المؤلم بين الأم وصغيرها الفتى· بعد أن قرر الهنود الحمر المرتحلون بيعه إلى صياد في ألاسكا في الشمال بلد الثلوج الدائمة والمناجم والأضواء الشمالية العجيبة والتي لا تنبعث من شمس ولا قمر ولا نجم، ويخوض الذئب الصغير معارك ضارية تحت إشراف سيده ضد كلاب الصيد· وينتصر في معظمها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©