الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

صمتُ مدينةِ الرِّوايةِ

صمتُ مدينةِ الرِّوايةِ
1 نوفمبر 2018 00:37

لئن كان تخيُّرُ المدينةِ سَكَناً و«تَسَاكُناً»- بعبارة ابن خلدون- إنّما هو شكلٌ من أشكال الوعي الاستطيقيّ بها وبأدوارها في مسيرة الاجتماع البشري، فإنّ حضورَها في نصوص الإبداع العربيّ، خاصّة منها النصّ الروائيّ، ظلّ باهتَ الدّلالة، صموتاً وقليلَ الإيحاء، وهو أمر يدعو إلى التساؤل: هل استطاع الروائيّون العرب الخروج بمُدُنهم من حيِّزِ المدينة التي نعيشها في الواقع إلى حيِّزِ المدينة التي نعيشها في النصٍّ الأدبيٍّ؟ وما مظاهر التأثّر والتأثير اللذين يحكمان علاقة المدينة بالأدب؟ وما مدى التزام المظهر العمراني للمدن والأحياء بحُسْن النوايا الاجتماعية والاستطيقية لمَن صمّموه هندسيّاً؟ وهل يساهم العمرانُ في إيذاء ساكنيه؟

لقد تكفّل باحثون في مجال النقد الأدبيّ بتقديم إجابة عن بعض هذه الأسئلة التي فرضتها الطبيعة المخاتلة لاتصال العمران بسرديات الناس ومنظومة قِيَمهم، نذكر منهم الباحثَ المصريّ حسين حمّودة الذي أكّد أنّ «علاقة الرواية والمدينة لم تُوضَعْ، في النقد العربي، فيما نعلم، مَوْضِعَ احتفاءٍ جِدّيٍّ بدَرْسِها».
وعليه، فقد اقترح في كتابه المتميّز (الرواية والمدينة: نماذج من كُتّاب الستينيات في مصر) عناصرَ إجابة عن سؤال علاقة المدينة بالأدب العربيّ، وكشفَ ضمنها عن الموازاة القائمة بين تاريخ المدينة وتاريخ الرواية فنًّا ومضامينَ، وحصرَ علاقةَ روايات كُتّاب الستينات في مصر بالمدينة في أربعة أنماط:
أوّلها نمطُ «المدينة النائية» وفيه تمّ تناول ثيمة المدينة من خارجها، ورصد هيمنتها على عالَم غير مديني، أو تضادّها مع عالَم الرّيف، أو رصد اقترابها من هذا العالَم أو اقترابه هو منها. والنمط الثاني هو نمط «المدينة في المدينة» وفيه تفصيل لكيفية تناول الرواية لثيمة المدينة من داخلها إمّا خلال الاحتفاء بخصوصيتها الشرقية وإمّا خلال التعبير عن علاقات قطاعها الحديث. وفي النمط الثالث الموسوم بـ«تغيّر المدينة» يتجلّى الاهتمامُ بتغير المدينة في زمنٍ مرجعٍ بعينه أو في تاريخ محدَّد بعينه. والنمط الرابع من علاقات الرواية بالمدينة وهو «تمثّلات المدينة» وفيه تركّز البحث حول تمثّل الرواية عالَم المدينة تمثُّلا خاصّا صاغت بفضله مُدنَها الخيالية الخاصّة.

لا حضور ولا إنصات
وعلى ضخامة الجَهد البحثي الذي وَسَم كتابَ حسين حمودة، وعلى تميّزِه في مجاله، وهو رصدُ التأثير والتأثّر القائمَيْن بين الرواية والمدينة العَرَبيَّتيْن، واختصاصُه بحقبة زمنية محدودة، وهي فترة الستينات، وبمجال جغرافيّ واحد هو بَرُّ مصرَ، فإنّي أكادُ أُقرُّ - مستفيدًا من نتائج هذا البحث نفسِه - بأنّه عدا روايات نجيب محفوظ وقلّةٍ من أضرابِه، لا يجد القارئُ مدينتَه العربيةَ القديمةَ أو الجديدةَ في نصوصنا الروائية الراهنة على غرار ما يجد القارئ الفرنسيّ باريسَه في رواية «أحدب نوتردام» (Notre-Dame de Paris) لفيكتور هيغو. حيث ظلّت المدينة حاضرة في رواياتنا كأسماء محلات وشوارع وأحياء ومعالِم وليست حاضرة باعتبارها كيانًا يؤاخي كينونات الناس أو يمكر بها في الحدث السرديّ نفسه: كيانًا يصنع الحكايةَ. وقليلة هي رواياتنا العربية التي أنصتت لأمكنتها، ولا أعني بالإنصاتِ للمكان هنا وحُسنِ إدارتِه، الاكتفاءَ بتوصيفِه ومَلْءِ كيانه بالأحداث وإجرائِها فيه بكثير من المفعولية، وإنّما أعني بهما الوعيَ بكينونة المكان داخل الحكاية؛ وهي كينونة تُخوّل للمكان أن يُعرِبَ عن فاعليته في توجيهِ حركة الشخصيات ومنحِ الأشياءِ فيه دلالاتٍ جديدةً. ولن يتمّ له ذلك، فيما أُقدِّرُ، إلا متى هيّأ له الروائيُّ أسبابَ أن يكون ذا لسانٍ فصيح، وعاطفة قويّة، وحواسّ متيقّظة، وجُرأة على رفض ما لا يستسيغه من أحوال الأحياء والأشياء فيه، فكم روايةً تعطّلت فيها حواسُّ أمكنتِها فظلّ حكيُها باردًا وهجينًا، وكم روايةً هاجت فيها أصواتُ المكان وأحلامُه فحرّكتْ مُهَجَ شخصياتِها وهيَّجَتْ دَلالاتِ حكايتِها! إنّ المدينةَ فضاء حيٌّ بطبعه، ولكلّ حَيٍّ حكايةٌ أو حكاياتٌ، ويبدو أنّ رواياتنا المعاصرة (أستثني منها روايات محفوظ، والغيطاني، ومنيف، وصنع الله إبراهيم، وإلياس خوري، وإبراهيم الكوني) لم تنجح في إنطاقِ ألسنة مُدُنِها، لتتخفّفَ من إهاباتها الواقعية، بل قُلْ لتحملَها معها وتلوذ بالسَّرد سبيلا إلى كتابة حكايتها وحكايةِ مَن فيها.
والظاهر أنّ من حكايات المدينة، التي تحتاج إلى وعيٍ روائيٍّ حادٍّ لإنطاقها بكلّ فصاحتها، حكايةَ شحنِها سُكّانَها بكلّ أسباب الخلاف عبر توزيعهم على فئتيْن، وتحوّلها هي ذاتها إلى مدينتيْن: الأولى أبراجيّةٌ ديكارتيّةٌ، تنضغط أفقيّا لتمتدّ عموديًّا، والثانية مدينةُ العامّة من النّاس، وهي ذاتُ امتداد أفقيّ، حيّةُ القلب والعاطفة، وتلامِسُ فيها أرجل الناس أرضَ الله، وأوساخ مخلوقاته.

مكر المدينة الحديثة
ليست المدينة الأبراجية، والأحياء الراقية عامّة إنّما هي نوعٌ منها، سوى حالةٍ من حالات ما بعد الحداثة (ديفيد هارفي: حالة ما بعد الحداثة)، حيث تُحيل مراكمة البناءات على مراكمة الأموال: بمعنى تجميعها في يد فئة قليلة وعزل العامة عنها فلا يستفيدون منها، إنها تمثّل «إدارة الدولة حين تستأثر بالثروة وتُقْصي عنها مواطنيها» (هنري لوفيفر: إنتاج المكان). تمنح هذه المدينة ليلَها لطبقةٍ قليلةٍ من ناسها، وهي طبقةٌ مترفةٌ ماديًّا، وقليلةُ العواطف الاجتماعية، تحبُّ الظُّلمةَ، فلا أحد من خارجها يعرف المدينة في الليل أفضل منها، وتضمّ في الغالب الأعمّ اللصوصَ، وإعلاميّي الأنظمة، وفنّانيها، وعصاباتِ المثقَّفين الأجانب، والبوليسَ، وقادةَ الأحزاب السياسية، وعناصرَ المخابرات الدولية، وأصحابَ رؤوس المال، وتُجّارَ الأجسادِ. وأغلب هؤلاء يعيشون ليلَهم داخل مربّعات مغلقة ومحروسة يُباعُ فيها كلّ شيء وتُستباحُ فيها كلّ الأشياء والكينونات، وتنتشر فيها ثقافة النفاق والأنانية. ويملكون لنهاراتهم أمكنةً أخرى مُتكتِّمةً على أسرارها. أمّا نهارُ المدينة الأبراجية فتستدعي إليه العابرين من السيّاح واليد العاملة والتقنيّين والمشرَّدين، تستدعيهم لتستثمر جهدَهم، وتُشعِرُهم بضآلتهم، وبانسحاقهم أمام سَطْوة مِعْمَارِها، بل وتملؤهم بشيءٍ كالخوف الممزوج بالطَّمَعِ، وفي هذا يكمن مَكْرُها، فما إنْ يَقْضِمَ واحدٌ منهم تفّاحتَها (مالاً أو لذّةً أو سُلطةً) حتى يُطرَدَ منها، على طريقة جدّه آدم، إلى الدَّرَكِ السّفيلِ. إنها بامتدادها الشاقوليّ تُشتِّتُ الكيانَ الأفقيّ الموحَّدَ للناس: فهم فيها مجموعةُ أفراد وليسوا أفرادًا مجتَمِعين، تفعل ذلك لتَنْفَرِدَ بالواحد منهم مُعَلَّقًا في عُزلته، وهي في ذلك شبيهةٌ ببنايات المحاكم: أعمدةٌ رومانية ترفعُ فضاءً بلا عاطفةٍ، حيث تضغط على روح المرء وتُشيعُ فيه إحساسًا خفيًّا بذنبٍ مّا (حتى وإن كان ذنبًا ميثولوجيًّا لا دخل له فيه سوى انتمائِه إلى أُمّةِ الإنسان)، فلا يدخلها إلاّ صاغِرًا وخاضعا لتعالي نظامها كأنما هو يطلب فيها (ومنها) الغفرانَ. ومن مكرِها أنها تستثمر جهود الكتّاب والمبدعين ولا تخلقُهم، بل هي عاجزة بهندستها المعمارية عن خلق أجواء الإبداع ذاتها، لأنها إذْ تُعلّق ناسَها في فضاءاتها، تعزل الواحد منهم وتمنعه من تعرّف الواقع والإحساس بأشيائه وأحيائه: الإحساس بذاته وهي مغمورة بشميم الأرصفة والمقاهي والحوانيت وأصوات الباعة، وحِيِلَهم، وغسيل الملابس في الشرفات (هل كان لنجيب محفوظ أن يكتب ما كتب لو عاش في برج عالٍ؟). ومن ثمَّ فإنها حين تُعلِّقُ إنسانَها في طابِق من طوابقها العالية لا يبقى له من أمرِه إلاّ السقوطُ إلى الحضيض الإبداعي، حتى لَيَبْدُوَ أنه بقدر ما يبالغ المُبدع في الصعود المكانيّ يسهلُ عليه السقوطُ في القلق والانتحار.
وإذْ تتعمّد المدينة الأبراجية تناسي خلق مبدعيها، فلأنها لا تعلَم أنّ الأدبَ هو ما يصنع لها مستقبلا تعيش فيه، هو خُطْوتُها العملاقةُ إلى المستقبل، وليس المالُ والأعمالُ والمهندسون المعماريّون والساسة، فهؤلاء جميعا قادرون على هدمها وإسكانها في التاريخ لو اقتضت مصالحُهم الشخصية ذلك (تحضر في ذهني الآن مشاهِدُ مدينة حلب بعد أن دمَّرتها السياسةُ والقنابلُ).
أمّا مدينةُ عمومِ الناس، وهي التي «قَصَدَ أهلُها الاقتصارَ على الضروريّ ممّا به قِوَامُ الأبدان» (الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة)، فسِمتُها العامّةُ هي التقشُّف الهندسيّ، والضِّيقُ، والتلاصقُ المُسبِّب لكلّ حالات التوتُّر والعنف الإنسانيَّيْن. وهي مدينة لا تحلم بحاراتها وشوارعها وناسها إلا أفقيًّا، بل وتزدحم أحلامُها دومًا بالكوابيس، وتسكنها فئةٌ أخلاقيةٌ مُهمَّشةٌ وآتيةٌ من الدواخل، هم في الغالب عُمّال الحضائر، والباعة الجائلون، والطلبة، والموظّفون الصِّغار، ورجال التعليم، والمطلَّقات، والعوانسُ والمُتَديِّنون الجُدد، «فيكون هؤلاء هم الذين يخدِمون ولا يُخْدَمون، ويكونون في أدنى المراتب، ويكونون هم الأسفلين» على حدّ وصف الفارابي لأحوالهم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©