الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

"في مزاج الحب".. فيلم بمزاج السينما

"في مزاج الحب".. فيلم بمزاج السينما
1 نوفمبر 2018 00:37

ليس جمال قصص الحب فيما كان، وما حدث بعدها، لكن في كيف عاش أبطالها لحظات الحب!! من هذه الفكرة، انطلق تصور الفنان الصيني وونغ كار واي، ليكتب، ويخرج فيلم (في مزاج الحب - In the mood for love) الذي اُنتج عام 2000، وحصد ما يقرب من خمسين جائزة في عدة مهرجانات دولية، منها جائزة أفضل ممثل، وأفضل تصوير، بمهرجان (كان) السينمائي، ونال ضجة على المستويين الفني والجماهيري، وإن كان هناك في المقابل، من قلّل من أهميته، مثل الناقد الأميركي الأشهر روجر ابرت، وثلة من النقاد الفرنسيين، الذين لم يروا في الفيلم هذه المكانة التي رفعه إليها أكثرية النقاد في كل العالم، حيث صار، بحسب استفتاء لمجلة «سايت آند ساوند» البريطانية وغيرها، من أهم أفلام السينما في العالم في كل العصور، فما هي طبيعة وتفصيلات هذا الفيلم الذي تخطى الكثير من روائع السينما العالمية؟!

فكرة الفيلم ثيمة مكررة، وهي علاقة حب تتولد بين زوج مع زوجة أخرى، تقابلا مصادفة في غرفتين متجاورتين في شقة واحدة - في هونغ كونغ - يتم تأجير غرفها للقادمين من شنغهاي (في عام 1962)، ويكتشف الاثنان معاً في بداية علاقتهما أن أزواجهما ارتبطا بعلاقة غير مشروعة.

ألم الكتمان
مبدئياً تناول الفيلم هذا الخيط الدرامي، بأسلوب غير تقليدي، فلم يهتم بالخط الحكائي التصاعدي لرحلة الحب، لكن ظل يتأمل في المساحة الزمنية/‏‏ المكانية التي تعتمل وتتفاعل فيها مشاعر وردود أفعال البطلين في سرية، فلا يوجد توقع مسبق يحتمله المتفرج لتطور الأحداث، ولا يتم تصوير الواقع كما هو، بقدر ما يمنح الواقع شكلاً فيلمياً غير الشكل المألوف، مع تشبثه بألا يفقد النزعة الإنسانية (*) فهو - بمفهوم الروائي/‏‏ البير كامو للفن - يضع دائماً هذا الواقع موضع تساؤل، لا تسليم وإذعان لقوانينه. وليست قيمة الفيلم - من وجهة نظرنا- في اللعبة المسرحية التي جسد فيها الحبيبان شخصيتي زوجها وزوجته في مشاهد معدودة، وتخيلهما لتطور علاقة الخيانة بينهما، ولا قيمة الفيلم في مجرد فكرة الإحساس بالاختناق، وتلصص العيون حولهما التي تمنع تفجر مشاعرهما، إنما مكمن تميز العمل هو في تجسيد ألم كتم المشاعر التي نمت بينهما، بتعرجاتها وبكارتها، والمشتاقة لحرية الانطلاق، لكنها تتوارى في القلب، فلا تموت، ولا تذروها ريح وتقلبات الحياة.
ومفتاح الفيلم ينبع من أننا نرى الأحداث عبر ذاكرة البطل الشعورية، فيرى الماضي دون أن يلمسه، عبر لوح زجاجي مُغبّر، بنص كلمات الفيلم في النهاية... لذا نجد التحولات الزمنية في السرد ليست بالترتيب النمطي، كذلك لا يرينا الفيلم أزواجهما بوضوح، مكتفياً بأصواتهما، ونراهما فقط عبر البطلين، يؤديان دورهما في بعض المواقف، دون فاصل بين التخيل والواقع، كما يعتمد السرد على وسيلة الحذف (Ellipsis) لبعض حوادث الفيلم، فلا نراها على الشاشة، لكننا نستنبطها ونتخيلها بواسطة الحوار المختزل المكثف، مثل: (عودة الزوجين الخائنين للشقة، قبل سفرهما الطويل، وعندما أعدت البطلة الطعام المفضل للبطل في وعكته الصحية)، والحذف تقنية في التتابع السردي، رأيناها من زمن بعيد مع أفلام الياباني/‏‏ أوزو، كما نرى تأثير الإيطالي/‏‏ أنطونيوني خاصة في فيلمه (الصحراء الحمراء)، في بعض المشاهد عن عزلة البطلة، وسط مجتمع خانق، والتعبير عن الزمن النفسي الخاص بالبطلين، المخالف لإيقاع الزمن الظاهري.
وبخلاف المفهوم الثقافي السائد للسينما الغربية عن العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، لا نجد قبلة عشق بينهما تتوج العلاقة في ذروتها، فقد تعمد الفيلم أن يخفي جمرة المشاعر في دواخلهما، دون أن ينجرفا لخيانة جسدية، وليس السبب فيما نرى من واقع الفيلم هو تقاليد المجتمع، لكن لأنهما يرفضان بقناعة ذاتية، أن ينجرا في هذه العلاقة، بما يشعرهما بذنب أكبر إيلاماً من لذة العلاقة الحسية، فالمكون الأخلاقي الثابت هو سبب رفضهما، لا عيون وعقلية الناس، فهما لا يرضيان أن يكونا مثل أزواجهما كما بان ذلك بجلاء في حوارهما، وإلا كان يمكنهما ببساطة أن ينطلقا في إفراغ طاقة المشاعر المحبوسة، عندما ذهبت البطلة له في غرفته الجديدة بالفندق، تساعده في كتابة مقالاته، بعيداً عن الأعين. وإن كان يؤخذ على السيناريو عدم إبراز الدافع الذي يدفع شخصية البطلة على رضوخها للحياة مع زوجها، رغم خيانته لها، وحبها لغيره!!

منهج الإخراج
من أول وهلة نستشعر المخرج الشهير (مواليد 1958)، وهو يكاد يقول لنا: أرجو الانتباه، ففيلمي مختلف.
فهو يقدم لقطاته كلها، كأنها لوحات يرسمها بتكويناته، وألوان عناصر اللقطة، فيرسم شخوص فيلمه في فضاء الكَادر، بعينه هو لا بعين السارد الموضوعي، مؤكداً في جُلّ لقطاته – عدا المشهد الأخير بالتحديد- على وجود إطار أو أكثر داخل إطار الشاشة، فأول لقطة للبطلة تفتح الشباك المغلق، والكاميرا خارجه، ويتحدد مكان البطلة من خلال إطار الشباك، فالحبيبان دائما محبوسان، بخيط مشاعرهما الساري بينهما، لا يقدران على الانفلات به وسط الشقة، أو خارجها.
وبعد أن مهد مخرجنا لجو الفيلم الرومانسي، من خلال سطور أدبية في مقدمة الفيلم، نجده من أول مشاهد العمل يقطع قطعاً مونتاجياً مفاجئاً حاداً (كما في مشهد اتفاق البطلة مع صاحبة الشقة على إيجار الغرفة)، فهو يوازن بين أحاسيس العاطفة التي تتقاطر في عناصر المشهد البصرية/‏‏ السمعية، دون أن يجعل المشاهد يتماهى مع الشخصيات والخط الحكائي، وإلا صار الفيلم ميلودرامياً لا جديد فيه. وعين المخرج تموج بالحنين لهذا العصر، والمكان الذي عاشه طفلاً (صور أغلب المشاهد الخارجية في بانكوك بتايلاند، لصعوبة التصوير في هونغ كونغ)، فلا يفوته أن يلفتنا لجمال الورود المرسومة على فستان البطلة (عنوان الفيلم الأصلي: سنوات وردية)، وذلك بلقطة متحركة من أسفل لأعلى تملأ أغلب الكَادر للتنويه عن رومانسية الشخصية. وقد ساعده في إبداع الصورة، مصوره الأثير كريستوفر دويل، وأكمل عمله المصور بينج بن، دون أن يفقد الفيلم هارمونيته الضوئية التي من أهم سماتها درجة الإضاءة المنخفضة (Low key)، واحترام مصادر الإضاءة داخل مساحة الكادر من موجودات المكان، وإكسسواراته العادية دون افتعال، كما في (الأباجورات الكثيرة للمشاهد الداخلية، ولمبات الشوارع)، والبراعة هنا في خلق غير العادي من العادي، مع إشباع الصورة بجماليات مبتكرة للألوان الساخنة غالباً، وتصميم نسب ضوئية متناثرة، بحس تشكيلي باهر. يتسيَّده الأخضر، البني، وأحيانا الأصفر، كما في لون إطار الباب الخارجي لغرفة البطلة الذي يفصل بينها وبين البطل في بدء تعارفهما، مع خط أحمر محسوس في المنتصف، ليصبح الأحمر المتوهج - بعد فوران مشاعرهما - لوناً دالاً لافتاً، كما في (ستائر ممر الفندق الجديد، فستان البطلة)... والألوان هنا ليست لمجرد خلق جماليات ساذجة، بل لتتوافق وتتداخل في توظيفها الدرامي والنفسي، بمثل إحساس المخرج الرهيف بلمبات الشارع، والحوائط الباهتة اللون، فهو يعمل على أنسنة تلك الجمادات، فيجعل لها إحساساً دامعاً، لوجع قلب الحبيبين، والتباس المشاعر فيهما بين الحب وهاجس الخيانة.

التكوين.. حركة الكاميرا
يترجم المخرج مثلاً مزاج الحب الذي يحسه مع بطليه، بطريقة تناول وتذوق الطعام، في (لقطات مكبرة جداً)، بنَفْس منفتحة تشتهي لذة الأكل، قد تكون عوضاً لهما عن الحرمان من لذة عناق الجسد للجسد.
ومن السهل أن نلحظ بأن لقطات الفيلم لا أثر فيها لأي مساحة فراغ أعلى الكادر، ولا حتى في الشارع، فكثيراً ما نرى لمبة السقف الضخمة، تهيمن على أعلى التكوين، فتَشي بالعبء النفسي الراسخ فوق البطلين.
أما حركة الكاميرا فكانت تدنو في حنو من برعم الحب المستور في القلبين، فتربط تارة بين أرواحهما في عالمهما المادي المنفصل، كمكاني العمل، وتارةً أخرى يتلاعب بها مبدع الفيلم بوعي، فيوقفها في (كادرات ثابتة- Fix)، حيث يتوقف الزمن النفسي في كيان البطلة، مثل لحظة أخذ القرار إن كانت تكمل الذهاب للبطل في الفندق، أم تتراجع؟
وهي الكاميرا التي تهمس لنا «بالسرعة البطيئة» بتباين جوانيات الحبيبين المأزومين عن طبيعة من حولهم، مع استخدام عدسة «التليفوتو»، للإيهام البصري بتلاشي المسافات تقريباً بين مقدمة الصورة والخلفية، فيصبح الحبيبان جزءاً من المكان، مثل مشهدهما في الشارع ليلاً يسيران «بالسرعة البطيئة»، بعد اكتشافهما خيانة أزواجهما، يكاد ينسد الطريق أمامهما.
وأخيراً هي الكاميرا «الثابتة» التي تحترم أداء الممثلين الحساس «توني لونغ، ماجي تشيونغ»، في التعبير الصامت، (باللفتة، الإيماءة، انحناءة الجسد، وانكسار النظرة).
ولا يفوتنا أيضاً أن نلحظ بعض التزيد غير المستساغ في لقطات (الدخان، وساعة العمل الكبيرة)، واللجوء للمباشرة المستهلكة في التعبير النفسي عن حصار البطلين، بوقوفهما المتكرر، وراء قضبان حديدية بحائط الشارع.

المشهد الأخير
في المشهد قبل الأخير أراد المخرج - كما ذكر- أن يضع مشهداً إخباريا في (كمبوديا)، وقت استقبال الرئيس الفرنسي شارل ديجول عام 1966، قاصداً تثبيت الزمن، بعرض ملمح من حقيقته الملموسة، بعد الانسيابية الزمنية في أثير عالم الأحاسيس طوال الفيلم، لكن نعتقد أن هذا المشهد قد حقق أيضاً تمهيداً مناسبا، قبيل المشهد الأخير للبطل «الصحفي»، عندما نراه بعدها في المشهد الختامي المُلهم يزور المعبد المهيب «أنجكور وات» هناك، بكاميرا تتحرك برصانة، حيث الكادر المفتوح، وفضاء السماء البعيدة لأول مرة بالفيلم، تتعاظم معه أعمدة المعبد في الهواء الطلق، بزاوية الكاميرا المنخفضة، والعدسة الواسعة، إذ يدلي البطل بسر حبه في فتحة بجدار المعبد، ليخلده كما تحكي الأسطورة ويراقبه طفل في خفاء من أعلى المعبد.
وفي (لقطة مكبرة جداً) تبرز لنا كف يد البطل، ببشرتها وأوردتها، وهو يلصق وجهه في فتحة الحجر، يهمس له، ونور الشمس يغمره، في حين تتهادى الموسيقى (لا موسيقى مؤلفة أصلية طوال الفيلم، إلا في هذا المشهد فقط) في شجن بليغ، يفتح فينا مسام الإحساس، يحرر تنهيداتنا المكتومة مع صرخة (الوتريات)، بعد تراكم شحنات المشاعر فينا، فتُذكرنا بلوعة الفقد، وتُعجزنا عن استيعاب ماهية المشاعر، بعدما ينسرب العمر!! ول اتهدأ الموسيقى في لحن بطله (آلة التشيللو)، ليختم الفيلم قصيدته برثاء بالغ الألق، ترثي هذا الحب العذري الذي أراد الزمن أن يجرف نبتته، فحرص البطل بوفائه رغم مرور سنوات أن يحفظه في عالم الأرواح، وتتفاعل الكاميرا مع الموسيقى، فتتسامى حكمة المشهد الروحانية مع المجاز الشعري، ثم يغطي البطل سرَه، بفروع زرع أخضر، ويطمئن أن حبه الخفي قد أضحى في أسفار التاريخ، وأسرار العشاق المكلومين، ولا تسكت آهات اللحن، فتتحسس عدسة الكاميرا تفصيلات أناس وقلوب عاشت في زمن سحيق، تحكي عنهم النقوش والرسوم، ويرحل البطل بسمته الطيب النبيل، والطفل العجيب يقف بعيداً يشهد اللحظة، كأنه حارس السر للزمن القادم، ويبقى المعبد رابضاً بأحجاره، وحكاياته السرمدية، حتى يسكت كل شيء، بعدما يكون المشهد قد باح لنا بمكنون الفيلم، فنشتاق لرؤيته من جديد، لنعيد قراءة العمل المتعدد التأويل، عبر رحلة السرد المركبة، التي كانت عن مشاعر لا يهزمها زمن، ويا لها من مشاعر!!
............................................................................
(*) لغة الصورة ــ روي آدمز

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©