الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما يصبح التناص تجلياً

عندما يصبح التناص تجلياً
27 أكتوبر 2010 21:03
التناص هو “أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين والتلميح أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل”. وترى جوليا كرستيفا رائدة هذا المصطلح أن “كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى”. ويؤدي التناص وظيفة مهمة في النص الأدبي سواء أكان روائياً أم شعرياً “ولا يستحضر هذا النص أو ذاك للزينة أو للديكور أو استعراض القدرات الثقافية، وإنما لغرض يراه المؤلف ضرورياً لتعميق فكرته المطروحة أو بلورة رؤيته في قضية ما، أو يراه منسجماً مع البناء الفني أو الأسلوبي أو اللغوي في روايته”. يتجلى التناص في ديوان “وجوه وأخرى متعبة” للشاعر علي الشعالي، الصادر عن مشروع (قلم) التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، في مظاهر متعددة، يمكن أن نقسمها إجمالاً إلى ثلاثة مظاهر: التناص مع القرآن الكريم، التناص مع الحديث الشريف، التناص مع التراث الشعري واللغوي. وسنتناول باختصار أمثلة لكل منها للتدليل. التناص مع القرآن الكريم استلهم الشاعر علي الشعالي الكثير من الألفاظ القرآنية التي حملت دلالات غنية، أثرت النص وعمقت فكرته ومنحت رموزه الكثير من الإيحاءات والمضامين. ومن أمثلة ذلك استلهامه لبعض المفردات والتشبيهات القرآنية، مثل قوله: “في لغة البحر اللجي” (ص 63)، وقوله: “أتخذ سبيلي نحو القمة سَرَبا” (ص 64)، وقوله: “واستفزز بركاني الخامد..” (ص 66)، وقوله: “سآوي إلى جبلي” (ص 107)، وقوله: “واشرح صدرك” (ص 126)، وقوله: “قبل أن يرتد طرفي..” (ص 136). وقد يجمع بين الإشارة إلى أكثر من سورة في سطر واحد كقوله: ?“قل أعوذ بربي الصمدْ” (ص 97)، ففيه إشارة إلى سور (الإخلاص والمعوذتين). وقد يستدعي الشاعر بعض الرموز القرآنية مثل: جب يوسف، وعصى موسى، ليحملها دلالات ورموزاً عصرية، كقوله: “لا تعبئي بي والدجى يا جب يوسف” (ص 22)، وقوله: “يا عصى موسى بربك من أكون” (ص 22). التناص مع الحديث الشريف بتصفح ديوان الشاعر علي الشعالي نجده يستمد الكثير من رموزه وإسقاطاته من ألفاظ الحديث النبوي الشريف وقصص السيرة المطهرة. فمن ذلك مثلاً قصيدته التي بعنوان “الفاروق”، التي يتحدث فيها الشاعر ـ كما يوحي العنوان ـ عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كرمز للحاكمية العادلة. ففيها يشير الشاعر إلى فضائل عمر، ويستدعي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً، وأبو بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فرجف بهم، فقال: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصدِّيق، وشهيدان). يقول الشاعر: بعد قرون من هزة جبلٍ يقف عليه ثلاثة رهط جبل يتلوى شوقاً من صدِّيق وشهيدين (ص 34-35) وقوله: “جبل يتلوى شوقا” فيه إشارة إلى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): “أحد جبل يحبنا ونحبه” (صحيح الجامع). ومن القصائد التي استلهمت بعض أحداث السيرة النبوية، قصيدة “إيه أهل السَّمُرة”، وهي الشجرة التي انعقدت تحتها بيعة الرضوان، وورد ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى “لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة” (سورة الفتح ـ 18). والشاعر هنا يستدعي هذا الرمز ليستنجد بأهل السمرة، في هذا الزمن الذي تداعت فيه الأمم على المسلمين كتداعي الأكلة إلى قصعتها. وقد اختار الشاعر التعبير (بأهل السَّمُرة) ليستدعي إلى الأذهان صرخة النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة حُنين حين انهزم عنه المسلمون لما باغتهم العدو. ورد في صحيح مسلم: “فلما التقى المسلمون والكفار، ولّى المسلمون مدبرين. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قبل الكفار. قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي عباس! ناد أصحاب السمرة). فقال عباس (وكان رجلا صيتاً): فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك! يا لبيك! قال: فاقتتلوا والكفار”. وكأن الشاعر هنا يكرر الصرخة نفسها لينادي المسلمين الذين انهزموا اليوم وتركوا الميدان، يدعوهم إلى أن يثوبوا إلى رشدهم، مذكراً إياهم بالعهود التي في أعناقهم تجاه أوطانهم ومقدساتهم. يقول الشاعر: إيه أهلَ السَّمُرة.. لا تجلسوا ولا تناموا حتى تطالوا النجم حقاً مغتصبْ. وتُتبعوا سببْ. (ص 48) وقوله: “وتتبعوا سبب”، إشارة إلى قول الله تعالى عن ذي القرنين: “إنا مكّنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً” (الكهف، 84-85). وكأن الشاعر يريد أن يذكر المسلمين اليوم أن الله قد وهبهم أسباب النصر، فلم يبق عليهم أن يُتبعوا تلك الأسباب بأسباب الأخذ بها. وشبيه بهذه القصيدة، قصيدة “بل أنتم كثير”. ومنذ العنوان تطالعنا الإشارة إلى حديث ثوبان المشهور: “يوشك الأمم أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة بنا نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت”. فالشاعر هنا يستدعي هذا الحديث ليشير إلى تحققه في واقع المسلمين اليوم، حيث تداعى عليهم العدو الذي يتلهى بهم تارة بالحرب وتارة بالسلام: ليغرس في صدر هذا الضجيج رمحاً محجلة باللهيب وبالثلج من كل ناحية بالسلامْ. (ص 51) وعلى الرغم من كثرة المسلمين اليوم، فإنهم كزبد البحر وغثاء السيل: زحام.. ولكنه مثلما ينفش البحر اسفنجةً وهي ظمأى مثلما تنفخ الريح قبعةً وهي أوهى من الشيء لكن من الخلف بئس الركامْ. (ص 52) التناص مع التراث يتجلى التناص مع التراث الشعري واللغوي في ديوان “وجوه وأخرى متعبة” للشاعر علي الشعالي في مظهرين: الأول هو استخدام بعض الألفاظ المعجمية، والثاني هو التناص مع أبيات شعر أو أمثال مشهورة. فمن الألفاظ المعجمية التي حفل بها الديوان، على سلاسة أسلوبه ورقة لغته، لفظة (زِبرقان) كما في قوله في قصيدة “فرس شقراء”: أزاهرٌ على يديكِ فضةٌ جبينكِ الوضيء زِبرقانْ (ص 90). والزِّبرِقانُ، بالكسرِ: القَمَرُ، قالَ الشّاعِرُ: تُضيءُ له المَنابِرُ حِينَ يَرقَى عَلَيها مِثلَ ضَوْءَ الزِّبْرِقانِ ومن الألفاظ المعجمية أيضاً، وجاء عنوان قصيدة: (لا لعى)، وفيها يقول: لكِ أن تقولي لانتحاري لا لَعَى (ص 118). يقال للعاثر: لعاً له، إذا دعوا له. ولا لعاً له، إذا دعوا عليه، وشمتوا به. أي لا أقامه الله من سقطته. قال الأخطل: ولا هدى اللهُ قيساً من ضَلالتها ولا لَعاً لبني ذَكْوانَ إذ عَثَرُوا ومن القصائد التي حفلت بالعديد من الألفاظ المعجمية قصيدة (سيف الضحى ـ ص 76)، وهي من القصائد العمودية القليلة في الديوان، وفيها ألفاظ جزلة وصور جميلة، ومطلعها: الصبح أطلق جيشه هتافا لك سيدي متلهفاً مشتافا واشْتَافَ الرَّجُلُ: تَطَاوَلَ ونَظَرَ. ومنها قوله: عرفتك ألوان الخريطة شامخاً ثبتاً إذا سقف المجرة هافا ومعنى هافَ: أي سقط، يقال: هاف ورق الشجر يهيفُ: سقط، ومنه الهفوة بمعنى السِّقطة أو الزلة. والقصيدة موجهة ـ فيما يبدو ـ لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، بدليل قول الشاعر فيها: يا من حرثت البحر حسبك أن ترى نخلاً بهياً في الخليج وغافا والمظهر الثاني من مظاهر التناص مع التراث في الديوان هو في استدعاء بعض الأبيات والأمثال المشهورة. فمن ذلك قوله: ليلاي ليلاي كل يغني (ص 32) ففيه إشارة إلى المثل المشهور: “كل يغني على ليلاه”. ومن ذلك أيضاً قوله في قصيدة “على أي جنب نموت”: ولست أبالي على أي جنب أقول القصيدة (ص 79). ففيه استدعاء لبيت خبيب بن عدي ـ رضى الله عنه ـ من أبياته التي أنشدها حين قتلته قريش وصلبته انتقاماً لقتلاها في بدر: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي والشاعر هنا يستدعي هذا الرمز للشهيد الذي يقتل في سبيل الله، ليقارن به بين الشاعر الذي يتلهى بالشعر وبين المجاهد الذي يبذل روحه فداء لوطنه ودينه: ولستُ أبالي على أي جنب أقول القصيدة ولستَ تبالي بأي رصاص تموت كما شئت أنت وشاء الحمام المهاجر وشاءت حروف القتال وقفتَ وكل سيجنح للسِلم يوماً سواكْ (ص 82). وقوله: “وقفتَ” يستدعي إلى الذاكرة بيت أبي الطيب المشهور مخاطباً سيف الدولة: وَقَفتَ وَما في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ كَأَنَّكَ في جَفنِ الرَدى وَهوَ نائِمُ فالشاعر هنا يرمز بهذه الكلمة المختصرة لذلك البيت ليوحي بأن هذا المجاهد اختار أن يقف بمفرده في وجه الموت، وفي وجه رصاص الأعداء بينما يتلهى الشعراء بنظم الشعر، ويجنح الآخرون للسِلم. والجنوح للسلم فيه استدعاء للآية الكريمة: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال، 61). ولعل في ذلك إشارةً خفية من الشاعر إلى أن أولئك الذين يجنحون للسلم سيبررون جنوحهم هذا ويؤلونه ويجدون له التخريجات الشرعية والوطنية. وأخيراً، فإن من مظاهر استدعاء التراث الشعري أيضاً قول الشاعر: وغضبتك المضرية دفاقة في عروقك (ص 127). ففيه تناص واستدعاء لبيت بشار بن برد المشهور: إِذا ما غَضِبنا غَضبَةً مُضَرِيَّةً هَتَكنا حِجابَ الشَمسِ أَو تُمطِرَ الدَما وقد وردت الإشارة تلك في قصيدة “نور المعركة”، وتبدأ بقوله: موجة تلو أخرى من الجند تذرع تلك الجبال. وغضبتك المضرية دفاقة في عروقك الرماح تشير لصدرك ظامئة للخلود وجائعة للنوال. وفيها يتحدث ـ كما يظهر ـ عن المقاتل الذي يتصدى بمفرده للكثرة من الأعداء الذين يحيطون به، ولكنه كثير بمفرده: واقفاً كنت.. شامخاً سوف تبقى الرجال هنا يسقطون سواك فأنت وروحك جمع غفير (ص 130). وهكذا رأينا كيف أجاد الشاعر علي الشعالي في استخدام التناص في شعره، فجاء متساوقاً مع نصوصه، متناسقاً فيها. وقد تجلت أنواع التناص في ديوانه بين التناص الديني المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية، وبين التناص الأدبي المستمد من اللغة ومن مشهور الشعر والأمثال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©