الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من حالات الأشياء إلى حالات النفس

27 أكتوبر 2010 20:57
بترجمة جيدة وبالغة الدقة، أصدر المترجم والجامعي والسيميائي المغربي المعروف الدكتور سعيد بنكراد، الترجمة العربية لكتاب “سيميائيات الأهواء: من حالات الأشياء إلى حالات النفس”، الذي صدر مؤخراً عن دار الكتاب الجديد في 374 صفحة، وهو كتاب من أهم الكتب التي أغنت المكتبات الفرنسية والعالمية في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم، وهو كتاب يعتبر من أهم ركائز السيميائيات الفرنسية (مدرسة باريس) وثمرة جهد فكري جبار بذله عملاقان فرنسيان هما: ألجيرداس جوليان كريماس ـ أو كما يتداوله المغاربة في الوسط الجامعي غريماص ـ وجاك فونتيني وهو أقل شهرة من زميله، والكتاب صدر في طبعته الفرنسية عن دار سُويْ العريقة، أشهر قليلة قبل وفاة كريماص في فبراير 1992. ويتناول الكتاب ظاهرة مألوفة تنتمي إلى المعيش اليومي: ظاهرة الهوى كما يمكن أن تتجسد في صفات يتداولها الناس ويصنفون بعضهم بعضا استناداً إلى ممكناتها في الدلالة والتوقع الانفعالي. فالبخل والغيرة والحقد والحسد والغضب وغيرها من الصفات هي كيانات تعيش بيننا ضمن ما تحدده “العتبات” التي يقيمها المجتمع ويقيس من خلالها “الفائض الكمي” في الانفعال الموجود على جنبات “اعتدال”، هو ذاته ليس سوى صيغة مفترضة لا يتحدد مضمونها إلا ضمن التقطيعات الثقافية المخصوصة التي يتحقق داخلها هذا الهوى أو ذاك”. فالهوى ـ برأي سعيد بنكراد في تقديمه الكتاب ـ ليس “عارضا أو مضافا أو طارئا يمكن الاستغناء عنه أو التخلص منه، كما يمكن أن نتوهم ونحن نحتفي بعقل لا يأتيه الباطل من كل الجهات. إنه “جزء من كينونة الإنسان وجزء من أحكامه وميولاته وتصنيفاته. وباعتباره كذلك، فقد كان “جنونا يسير العقل” ـ كانط ـ، واعتبره البعض الآخر “انصياع الروح للجسد” ـ ديكارت ـ، واعتبره فريق ثالث حصيلة لفوضى تصيب الحواس وتقود العقل إلى الانهيار والتلاشي أمام رغبات جسد تستهويه الشهوات وتقوده إلى المعاصي، كما حذرت منه الديانات جميعها، وعلى رأسها النص القرآني “فلا يصدانك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى” ـ سورة طه، آية 16. فالهوى، في جميع هذه التصورات، نقيض للفعل، انه يشوش عليه ويفسده ويغطي على جوانب العقل فيه. كيف نلج عالم المسكوكات الثقافية للحالات الانفعالية؟ ردا على هذا السؤال يرى بنكراد أن هناك “فاصل بين الهوى باعتباره تجاوزا “للحدود” ـ العتبات الثقافية ـ وبين المشاعر التي تشير إلى حالات “اعتدال” تفترضها الثقافة وتحتكم إليها من أجل قياس حجمها وتصنيفها حسب الكثافة والامتداد والإيقاع. لذلك، وكما، ستثبت ذلك الدراستان اللتان يضمهما هذا الكتاب، فإن الحكم الأخلاقي لا ينصب على كينونة المشاعر في ذاتها، بل يحكم على الفائض الانفعالي الذي يحول هذه المشاعر إلى هوى، أي إلى طاقة تعوق نمو المجتمع وتحد من تطوره ـ التكديس الذي يقوم به البخيل ويؤدي إلى تدمير الثروات من حيث هو منع لتداولها. و”هذا ما يجعل تمظهر الهوى رهينا بوجود ملاحظ مؤهل ثقافيا”، وقادر على تحديد ما ينتمي إلى الهوى ـ البخل امتناع عن الإنفاق ـ وبين ما ينتمي إلى سلوك معتدل ـ الاقتصاد هو إنفاق باعتدال. لذلك، “فبمجرد ما يتم التعرف على الهوى وتحديده بصفته تلك، فإننا نخرج من دائرة البعد الهووي الحي، لكي نلج عالم المسكوكات الثقافية للحالات الانفعالية”. يتعلق الأمر “بعتبات مدرجة ضمن سلمية الكثافة، وهي سليمة موجهة تمكننا من تحديد المغالاة أو النقص، وذلك وفق موقعنا داخل هذه السليمة”، كما يقول المؤلفان”. استنادا إلى ذلك، فإن الحديث “عن الهوى، كما يقول المؤلفان، “هو محاولة لتقليص تلك الفجوة الفاصلة بين “المعرفة” و”الحس”. ويرى بنكراد أنه إذا “كانت السيميائيات قد أصرت، في مرحلة أولى، على الكشف عن دور التمفصلات الكيفية الذرية، فمن واجبها الآن محاولة إجلاء العطور الهووية التي تنتجها ترتيباتها، فليس الانفعال المرافق للأفعال مجرد رديف عرضي لا يدرك إلا من خلال الفعل ذاته، كما لو انه “موسيقى مصاحبة” لا تأثير لها في مجرياته، إن الهوى، على العكس من ذلك، طاقة خاضعة هي الأخرى لمفصلة تتم وفق آليات بنيوية مخصوصة. إننا أمام مسارين مستقلين، ولكنهما لا يتطوران في انفصال عن بعضهما البعض، فالاستقلالية لا تؤدي إلى طلاق بين ما يأتي به الهوى وبين ما تبنيه الأفعال – لا يمكن الفصل بين هوى الغيور ومجمل البرامج التي يتوسل بها من أجل تنظيم علاقته مع الغريم والمحبوب-. إن الفارق بين المسارين يكمن في التركيز على الفعل في حالة المسار السردي، وعلى الكينونة في حالة المسار الهووي”. لذلك ينبهنا بنكراد إلى أنه “لا يمكن فهم مقاربة الهوى في هذا الكتاب، إلا من خلال ما يقدمه النموذج النظري الذي قامت عليه السيميائيات كما تصورها وصاغ حدودها كريماص وأتباعه. وهو نموذج مبني في شكل سيرورة لا تقف عند الوجه المرئي للظاهرة الا من أجل استحضار ما يمكن أن يكون أصلا لكل الظواهر الممكنة. فالسيميائيات تحتفي بالسيرورات التي تقود إلى المعنى وتكشف عنه من خلال ما يخفي وليس فقط عبر ما يكشف ويوضح. فكل شيء منظم بشكل سابق على وجهه المرئي في مستوى سابق لا تعمل النسخ المتحققة إلا من أجل تسريب نسخة منه هي الوجه المشخص الذي تستوعبه العين وتنتشي به أو تزدريه. يسري هذا على كل ظواهر المعنى، ما كان منها من مشمولات الفعل بكل تنويعاته، وما كان منها من حالات النفس التي يسميها المؤلفان وتسميها الثقافة أيضا الاستسلام للإغراء والإغواء وكل نداءات الجسد المنفلت من عقال العقل الرصين”. ويشير بنكراد إلى أنه بذل جهداً كبيراً من أجل ترجمة هذا الكتاب المميز من حيث الموضوع والمقاربة. فقد شكل لحظة صدوره حدثاً معرفياً حقيقياً، واعتبر فاتحة لحقل من الأبحاث ستتالى بعد ذلك، خاصة في فرنسا، وتشكل الآن إبدالا جديدا، إن لم نقل قائم الذات داخل حقل معرفي دائم الانفتاح. وبصفته تلك، فإنه مستغلق ويستعصي على الإدراك في غياب إلمام واسع بالأسس المعرفية التي ينطلق منها المؤلفان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©