الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جوزاء».. أمكنة قاسية وشخوص باهتة

«جوزاء».. أمكنة قاسية وشخوص باهتة
27 أكتوبر 2010 20:49
إن أي عمل أدبي لابد أن تجتمع فيه الموضوعاتية (ثيمته) وطريقة معالجته لتلك الموضوعة بما نطلق عليه “شكل المعالجة”، أو الأسلوب أو الهيكل الذي نقدم فيه الحكاية، أو المبنى الذي نرسم فيه العالم موضوع البحث. في هذا الإطار يتكون لدينا موضوعة وشكل، معنى ومبنى، وفي كثير من الأحيان تبدو الأشكال قوية في موضوعات ضعيفة وبالعكس يحدث الكثير. في السينما تتجلى هذه الثنائية بين فيلم يمتلك موضوعة غريبة وجميلة ولكنه يقدم بشكل ضعيف، وبين آخر يمتلك موضوعة ضعيفة ويقدم بشكل جمالي رائع. ومن الضروري أن نفهم أن السينما اشتغال جماعي مهني (صناعة) يسهم فيها المخرج والممثل والمونتاج والتصوير والإنتاج من أجل تأسيس صرح إبداعي متميز، وهذا عكس أي عمل إبداعي آخر، الشعر نتاج فردي وكذا في الكتابة النثرية والتشكيل. لم أرد من هذه المقدمة البسيطة إلا لكي أشير الى ما حدث في فيلم “جوزاء” للإيراني زماني عصمتي المخرج الشاب الذي تصدى لموضوعة تقليدية، وبشكل فني وهندسي لم يقدم فيه الشيء الكثير. “جوزاء” (80 دقيقة) يمثل فيه نسيم كياني ومرداد شيخي وحامد بازغاني ومحمد رضا فارزاد وفازيا سمراني وحسين نيروماند وهو من فئة أفلام (آفاق جديدة) والذي عرض ضمن مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الرابعة. الشكل الهش يبدأ الفيلم وعند عرض أسماء العاملين في الفيلم بتصوير “ماكينة خياطة” وهي تعمل بشكل رتيب لتخيط قماشاً، شكلاً هشاً (لاحظ أن هذه الدلالة هي مجمل قصة الفيلم والتي ستكون محور ما سيحصل) حيث استطاع زماني أن يخلق ما يسمى بـ (الأرصاد) وهو أن تسبق القصة بإشارة أو علامة تحيل الى ما سيأتي. ثم يعقب ذلك منظر فتاة جميلة (اسمها إلهام) تجلس ملتفة بعباءتها في مركز للشرطة الإيرانية وفي لحظة اختيار بعد أن تبصر ما يحدث أمامها من امتهان لكرامة النساء المتهمات بقضايا مختلفة، تهرب الفتاة، راكضة في مداخل المركز الذي يبدو كبيراً غير أنها لا تجد منفذاً. يتحول المشهد في انتقالة زمنية غير دقيقة، بل لنقل غير واضحة الى هذه الفتاة وهي تجوب الشوارع ويتعرض لها الكثيرون في إطار من أجل تصوير مدى استلاب المرأة الإيرانية في بيئة ظلامية لا ترحم، حيث يتكرر مشهد التحرش الجنسي خلال دقيقة واحدة لأكثر من ثلاث مرات. ينتقل الفيلم الى مكان مغلق في أحد أزقة المدن الإيرانية، يتحاور فيه شابان، يبدو المكان بضيقه وتداخل غرفه وسلمه المتعرج محل استوديو للتصوير الفوتوغرافي. يتحاور (أمير) الشاب المدرس الجامعي الذي يقول عن نفسه إنه فلكي مع مهدي صاحب الاستوديو ـ كونهما صديقين ـ بأن يحاول الأول إقناع الثاني بالموافقة على إجراء عملية إجهاض أو ترقيع للعذرية، لفتاة هي إلهام التي تجوب الشوارع ولا تعرف أين تذهب، وبعد جهد طويل، ممل، أوجد قطيعة بين المشاهد والقصة، بارد الى حد بعيد (وهذه سمة عامة في الفيلم سوف نجدها في مفاصل كثيرة تحتاج الى انفعال مشوب بالغضب تطالعنا برودة وهدوء وعدم مبالاة الممثلين، وشخوص الحكاية) يوافق مهدي على استغلال الاستوديو لإجراء العملية. هنا يبدأ سيناريو الفيلم بالاشتغال على نظام الاحتمالات، حيث يخاف مهدي احتمال أن يأتي زميله الذي يشاطره الاستوديو والغائب في زيارة لأهله والذي يصفه بالخبيث. تستدعى الفتاة من الشارع (عبر الموبايل) ويأتي طبيب شاب (رضا) ومساعده (ياسر) لإجراء العملية. نص الحكاية عند دخول إلهام الزقاق المؤدي الى الاستوديو ثمة عباءة تخرج من أحد البيوت فتبصرها وقد دخلت الاستوديو.. كل شيء يبدو طبيعياً. ويأتي (رضا) الطبيب الذي يتعرف على أمير ومهدي حيث يكتشف أنه صديقهما، ويطلب مستلزمات كثيرة من القطن والشاش الطبي، فيقترح عليه أن يذهب مساعده (ياسر) لشرائها، وبعد دقائق يطرق باب الاستوديو في الوقت الذي كانت تستكشف فيه إلهام السلم المؤدي الى سطح الاستوديو حيث ثمة طائرة ورقية تحلق في السماء (في رمز مستهلك، وعادي للطفولة المفقودة التي تحس بها إلهام). تطرق الشرطة الباب، يستفز أمير ولم يرتجف الطبيب رضا.. وياسر غائب وتدخل الشرطة، ويبدأ مهدي صاحب الاستوديو بإعطاء تبريرات لوجود أشياء لا تمت لعمل الاستوديو بأي صلة.. وهنا نجد: أولاً: وشاية الجيران هي التي استدعت الشرطة. ثانياً: يحاول مهدي إقناع الشرطة بأنهم يشتغلون فيلماً من بطولة “إلهام و رضا”. ثالثاً: يدعي أمير أنه يزور صديقه مهدي. رابعاً: إلهام لم تتحدث أو تدافع عن نفسها. خامساً: الجميع يقف بموضوعية وبدون انفعال ولم نر أي أثر للشارع المحتج باستدعاء الشرطة. سادساً: البيوت المحيطة بالاستوديو بدت فارغة حينما ركضت إلهام هاربة من الشرطة، صاعدة السلم الى سطح الاستوديو ومنه الى أسطح البيوت الأخرى التي بدت مهدمة، وسخة، عفنة، متروكة. سابعاً: كان حضور الشرطة ما بين ذهاب ياسر لشراء القطن وعودته ليس كافياً زمنياً. الموضوعة التقليدية الموضوعة تقليدية، بائسة، ليس فيها كشف لبيئة وتناقضات المجتمع الإيراني الذي يعيش صراعاً فكرياً وأيديولوجياً بين الحداثة والتقليد، وبين الاهتمام بالبعد الفكري المتحرر وبين الانغلاق على الكبت والقهر والتسلط. هناك محاولات داخل موضوعة الفيلم ترميزية تشير الى استلاب المرأة ولكن هذه المحاولات (وهذا هو الغريب حقاً) قد صدرت من فئة مثقفة كان المفروض أن تؤمن بالتحرر والوعي بأهمية وجود المرأة والتي يمثلها (أمير.. الأستاذ الجامعي المثقف والذي يدعي بأنه فلكي غير أنه افتض عذرية إلهام وثانياً عندما تآمر بموافقتها على ترميم العذرية وإعادتها وهو المتهم الأول في إشارة الى اتهام ثقافي واضح). نتساءل: مع من يقف زماني عصمتي.. هل يقف مع أمير المثقف المتخلف، أم مع إلهام الفتاة المستلبة، الخائفة، أم مع الشرطة التي بدت لديه أكثر إنسانية وهي ممثلة الفكر التقليدي المتسلط؟ ونتساءل: كيف ينعت زماني عصمتي (رضا) بالطبيب وهو الذي يمارس عمليات لا شرعية، وكيف يمكن أن يصف لنا زماني هذا الانحلال الأسري الذي وجدناه في مركز الشرطة لأكثر من حالة كان هاجسها الجنس والاختراق الجنسي؟ امرأة يضبطها زوجها مع عشيقها (الزوج يبقي زوجته وعشيقها عاريين حتى مجيئ الشرطة كي يشهد معه شهود على حالة الزنا) وأخرى لفتى مسجون لم يتجاوز الـ 15 عاماً يقبع في زاوية الزنزانة خائفاً ليروي حكاية “كرة القدم” التي سقطت على سطح الجيران فيرى ليلاً حين يبحث عنها، زوجاً وزوجته في ممارسة جنسية، فيمسكه الزوج. نلاحظ هنا أولاً أن الفيلم عالج ما يجري من فهم للجنس في المجتمع والسلطة الإيرانية، ثانياً أنه اتهم المجتمع بالخرق وبرر للسلطة (عبر شرطتها) بمحاكمة هؤلاء.. وكأن الشرطة ممثلة السلطة، تمتلك موضوعيتها وإنسانيتها العالية ويتجسد هذا الأمر في لغة المحقق التي بدت شفافة وهادئة ومتزنة، أما القاضي فبدا باحثاً عن الحقيقة التي يريد إنصافها. من مكان ضيق الى مكان أضيق، من الاستوديو الى مركز الشرطة مع حالات قصيرة خرجت فيها الكاميرا لترصد الشارع الإيراني.. الصورة لدى زماني مشرقة، غير أنها (وهذا قصورها في فيلم يجب ان تحكمه الانفعالات الدرامية العالية ) ركزت بشكل واضح على كلية الجسد ولم تلتقط الانفعالات الأكثر وضوحاً في وجوه الممثلين الذين بدت برودة أعصابهم ولا مبالاتهم سبباً في حصول قطيعة وملل سريع بين المستقبل والمرسل (الجمهور والفيلم). في لحظة تنفيذ الشرطة لعملية المداهمة يأتي ياسر مساعد الطبيب رضا حاملاً القطن والشاش الطبي ويريد أن يقدمه لرضا.. ويثير الضحك بلا مبالاته أمام الشرطة، ويتكرر هذا المشهد 3 مرات، حيث أصبحت الكوميديا التي حملها هذا المشهد مفتعلة، لا حياة فيها وسط جو مأساوي يلف الفتاة إلهام التي عبرت عن وجعها بصمت فكانت أكثر الجميع قدرة تمثيلية وتلبساً لشخصية بطلتها. استغل زماني الخوف والظلمة بشكل جميل حينما التقط إلهام التي حاولت الهرب بين سطوح المنازل ـ ثم تمت إعادتها ـ والتي لم تستطع إكمال هروبها فانزوت في مكان مثل الخوف والفزع كله. التحقيق بدا مقتضباً وسريعاً وتقليدياً، وليس فيه من الإبداع الشيء المهم والرواية كلها مبنية على محاولة توصيل آراء نقدية، للسلطة تارة، وللقضاء تارة أخرى وللمجتمع والأفكار ثالثة وللمثقفين رابعة. غابت صراعات الشخوص، انفعالاتهم، وحواراتهم الدرامية مفتتة والشرطي يقدم خدمات كثيرة لإلهام حينما جلب لها محارم ورقية، ودواء الصداع في السجن بكل روح إنسانية تتناقض مع قصة الفيلم. لعبة المكان المكان ضيق والحوار طويل ورضا الطبيب توسد بطانية داخل السجن ونام وكأن شيئاً لم يحدث. حاول زماني أن يخلق أزمات متتالية في الفيلم لكنه لم يفلح.. منها معاناة مهدي من الربو في مكان رطب وحاجته الى دوائه. الفتاة تعترف على أمير (ضمن مفاجأة مقبولة في قصة تقليدية لإنقاذها من الرتابة) وأمير ينكر أمام القاضي وتنفي الفتاة اعترافها ثم ترجع فيه حينما تدخل أمها الى القاعة صارخة بأمير وافتضاضه لعذرية ابنتها ومطالبته بالزواج منها. نساء معذبات تهرب إلهام من عذابها 3 مرات.. في البدء (استهلال الفيلم) وفي وسطه (داخل الاستوديو) وفي الخاتمة (قبل إطلاق الحكم عليها بالسجن) وفي السجن المركزي تتحول إلهام الى متهمة (مشهد أخذ بصمات أصابعها تقليدي مطروق في عشرات الأفلام العربية وربما الإيرانية). ممارسة الانتهاك غير واضحة الجهة. محاولة طرح عذابات المرأة في مجتمع قيمي، قهري يشتغل على فكر ليس بينه وبين الحداثة أي صلة. قدم زماني حالات نموذجية (مثقف وأستاذ جامعي، طبيب، فنان فوتوغرافي) في مقابل (الضابط جام، الشرطي، مجتمع مركز الشرطة)، ولم يفلح في إيجاد روح التناقض بينهما وكأنه يشير الى أنهم جميعاً سيؤون، متخلفون، يمارسون القهر ضد المرأة. المشهد الأخير يرمز المشهد الأخير الى الوأد وغسل العار عبر (الصحراء.. الأب حسين يجر ابنته إلهام على الرمل وسط عاصفة رملية، وتوسلات الأم بالأب كي لا يقترف القتل). في هذا المشهد يأتي الأب حسين غاضباً ويأخذ ابنته من السجن المركزي وتتبعهما الأم، وفي الطريق ينفعل على أحد السائقين عند (محطة البنزين) ولم يعط زماني سبباً واحداً لهذا الانفعال والصدام بالأيدي.. الحكاية بلا سببيتها.. وبعد فترة تهب عاصفة تبدأ في التصاعد حال نزول الأب من سيارته جاراً إلهام الى الصحراء ليمارس فعل القتل ليتصاعد غبار العاصفة مغطياً الشاشة كاملاً وسط صراخ الأم وعويلها وتوسلات إلهام وغضب الأب من وراء العاصفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©