الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المهمة السرية

المهمة السرية
14 أغسطس 2014 20:15
لم يستطع الرجل أن يجيب عن تساؤلات ابنته الكثيرة والمتكررة عن أصلها وفصلها فهي لا تعرف من أقارب أبيها أحداً، لا يتزاورون ولا يتواصلون وكيف يحدث هذا أصلا وهو ينفي لها نفيا قاطعا وجودهم في الحياة، ويجيبها بكلمات مقتضبة بلا معنى وغير مقنعة بأنه مقطوع من شجرة وليس له إخوة ولا أخوات ولا أعمام ولا عمات ولا أخوال ولا خالات فكيف يكون لها أقارب، ثم يضفي على الحوار روح الدعابة لكي يهرب من الإجابة والموضوع برمته؛ فيقول لها إنه وجد نفسه وهو مولود رضيع ملقى على الأرض أمام باب أحد المساجد فالتقطه أحد الأثرياء وقد كان لا ينجب ثم قام بتربيته، وبعد أن توفاه الله ورث عنه كل هذه الثروة، ولما يجدها غير مصدقة لهذه الأسطورة التي لا يقبلها عقل ينهض واقفا وينهي الحوار، مدعياً أنه على موعد مهم مع مسؤول كبير. زوار غير متوقعين الفتاة تدرس في جامعة خاصة هي الأعلى والأغلى في مصروفاتها التي يتم تسديدها بالعملة الصعبة في عامها الأول، وأبوها رجل يحمل لقب الملياردير ولم ينجب غيرها، ورغم هذه الكنوز التي تتمرغ في خيرها، إلا أنها تشعر بالوحدة دائما ولم تستطع صديقاتها الكثيرات من حولها ملء هذا الفراغ بعد أن تبددت أمنيتها في أن يكون لها أخ أو أخت فقد بلغ والداها من الكبر عتيا وابيض شعر أبيها كله وغزاه الشيب، ولم تبق منه شعرة واحدة على سوادها، تزايدت تساؤلاتها تلك عن أقاربها وتشعر بحنين قوي جارف إليهم، لكن أباها لم يقدم لها جوابا شافيا، ومازال كل هذه السنين يلاعبها ويتهرب منها حتى مصدر ثروته الهائلة لا تعرفه وإن كانت لا تصر على ذلك، إلا من قبيل التعرف على من يكون أبوها الذي تحمل اسمه في حياتها وفي كل أوراقها. لكن اليوم جاءها الجواب من غير أن تبحث عنه ومن دون أن تسأل سؤالا واحدا عندما فوجئت بطرقات شديدة على الباب بشكل غير معتاد، أصابت الجميع حالة من العصبية والغضب من ذلك الذي تجرأ على التعامل مع «بابهم» بهذه الطريقة المهينة؟ لابد أنه الآن سيتلقى ردا قاسيا ودرسا لن ينساه في حياته ألا يعرف مع من يتعامل؟ وقبل أن يحدث أي شيء من ذلك وجدوا الباب نفسه يكسر بطريقة غريبة تنم عن خبرة من قام بفتحه بل وتقتحم مجموعة من رجال الشرطة معظمهم يرتدون الملابس الرسمية، انتفض الرجل من جلسته مثل الذي لدغه ثعبان، بينما ظلت ابنته على مقعدها ولاذت بالصمت لم تعرف ماذا تقول تريد أن يأتيها تفسير لما يحدث أمام عينيها، كأنه فيلم سينمائي بالطبع تتوقع أن ما يدور كله خطأ غير مقصود، وبعد لحظة قصيرة سوف يعود هؤلاء أدارجهم، والمؤكد أيضا أنهم سيعتذرون عن فعلتهم وتعديهم على حرمات البيوت، لكن شيئا من ذلك لم يحدث وتأكد لها أنها تتوهم ما تريد أن يكون أو تحلم فتستيقظ من هذا الكابوس المرعب والحقيقة أنها مستيقظة وفي كامل وعيها. لحظات قاسية ربما تكون هذه اللحظة هي القاسية الوحيدة في حياة الفتاة المترفة التي تجد ما تحلم به متحققا أمامها وماثلا بين يديها ويكتمل المشهد الأصعب عندما يقترب الضابط من الرجل الذي يدعي أنه على صلة بكبار المسؤولين، وسوف يقلب الدنيا رأسا على عقب يضع القيود الحديدية في معصميه، ويأمره بالبقاء مكانه بلا حراك أو حتى كلام، وبصوت جهوري أيضا يأمر رجاله بأن ينتشروا في المكان، ويقوموا بتفتيشه بحثا عن الشيء الذي جاءوا من أجله فوجئت الفتاة باستسلام أبيها على غير عادته، فليس هذا هو الرجل الذي تعرفه شديدا حازما حاسما لا يكف عن إصدار الأوامر لعماله ومستخدميه وكيف هو قاس حتى مع الخدم في الفيلا، لقد تغير فجأة وتحول من أسد جسور إلى قط مستكين تنظر إليه عساها أن تجد في عينيه جوابا للتساؤلات التي لا حصر لها وتتلهف للإجابات ثم تلقي نظرة إلى أمها- التي جاءت هي الأخرى من الداخل تستطلع ما يحدث- ربما تجد عندها الرد لكن كلتاهما كانتا في نفس الحيرة. ويأتي رجال الشرطة من الطابق السفلي بكميات كبيرة من المخدرات يضعونها على المنضدة التي تعد قطعة فنية مستوردة من الخارج والرجل مازال منكس الرأس لا ينظر ولا يتكلم كأنه أصابه الخرس، لحظات قصيرة مرت على الأب والابنة والزوجة كأنها دهر طويل يريد أن تنتهي ويخرج من هنا فورا حتى لا تعرف ابنته الحقيقة المرة التي كان يخفيها طوال حياته عنها منذ أن جاءت إلى الدنيا ويتهرب من أسئلتها عنها، الكلمات المعدودة القليلة التي نطق بها همسا في أذن الضابط إنه طلب ألا تعرف ابنته شيئا مما يحدث فوعده، لكن الفتاة رفضت ترك المكان عندما طلبوا منها ذلك حين بدأ تحرير محضر بالواقعة أصرت على الحضور ومعرفة التفاصيل الدقيقة لما يحدث أمامها ولن ترضى أن يتم تغييبها كما كان يحدث في الماضي لم يستطع أبوها بصوته المحبوس أن يؤثر على قرارها فكانت لحظة الانهيار والحقيقة المرة. حقائق تتكشف لم يعد هذا وقت إخفاء شيء من الحقيقة، فكل الأسرار تتكشف وتظهر، ليس بمقدوره إخفاؤها ولا غض الطرف عن بعضها فقد كان صبيا فقيرا معدما يعمل في حظيرة للخيول والبغال والحمير التي يستخدمها أصحابها فيما يسمى بعربات «الكارو» الخشبية ينقلون عليها الأمتعة والمخلفات، وهو يقوم بتقديم الماء والطعام لها ليلا بعد عودتها من العمل وفي الصباح ينظف مكانها ويحمل روثها خارج الحظيرة كل أمنيته في الحياة أن يمتلك بغلا أو حتى حمارا من أمثالها ليترقى ويترك هذه الحرفة المتدنية، بل والتي تدر عليه دخلا لا يكفيه بمفرده وينفقه عن آخره. أصبح شابا فتيا ولا يجوز أن يستمر في هذا، العمل فظل يبحث عن حرفة أخرى، ولكن أمثاله غير مطلوبين بالمرة ولا أمل له إلا في عمل يناسب سنه فانتقل خادما إلى بيت رجل في منطقة شعبية يقيم في منزل قديم، لكن الرجل ينفق ببذخ ويعيش في رغد يتردد عليه زوار كثيرون بعضهم أو أغلبهم تبدو عليه الوجاهة الاجتماعية والثراء. لم يمض وقت طويل وفي أيامه الأولى من العمل هنا أدرك أن الرجل يمارس تجارة ممنوعة، وهي المخدرات غض الطرف عما يحدث حوله وكأنه لا يفهم لأنه وجد نفسه في مكان ووضع أفضل حالا من ذي قبل حتى عندما كان مخدومه يرسله إلى أي مكان حاملا لفافات لا يعرف ما بداخلها يدعي الغباء أو الجهل بما يحدث ويقوم بتوصيلها إلى حيث يأمره ويعود إليه بدلا منها برزمة من الأوراق النقدية. ومع براعته في هذه المهام السرية نال ثقة الرجل فترقى من مهنة خادم إلى مهنة حامل البضاعة وهي مهمة لا يحصل عليها إلا من تتوفر فيه مواصفات خاصة أهمها سرعة البديهة والفهم والتصرف المناسب والحفاظ على السر، وقد درت عليه مكاسب لا يحلم بها فتفتحت عينيه إلى المال وتخلى عن القناعة التي كان يتحلى بها من قبل والتي لم تنفعه في حياته ولم تنتشله من فقره، تغلغل الطمع وسيطر على نفسه قرر أن يصعد خطوة إلى أعلى يتحول إلى تاجر صغير كخطوة أولى، وها هو قد عرف كل الطرق والمسالك وأسرار المهنة وحتى كيف يجذب الزبائن الجدد وكيف يتعرف على المدمنين وقد وجد ترحيبا من «مخدومه» الذي لن يخسر شيئا عندما يسمح له بالاستقلال، بل ستزداد مكاسبه لأنه سيستمر في الحصول على «البضاعة» منه. مال حرام سيطرت شهوة المال الحرام على الشاب الذي لم يجاوز الثانية والعشرين من عمره، لا تسعه الفرحة وهو يعد كل يوم الأوراق النقدية ويضعها بجانب بعضها ويخشى أن تفارقه فلا يأمن عليها في البنك، وهو الذي لم يدخل بنكا طوال حياته ولا يعرف كيف تتعامل هذه البنوك بل يتعجب من الذين يودعون أموالهم فيها ولا يخافون عليها من الضياع، لا يمل من إخراج هذه الأموال التي اكتسبها من دماء الناس يعدها كل ليلة وهو يحتفظ بها في الغرفة التي يقيم فيها. جرت الأموال بين يديه وتكاثرت بسرعة، وانتقل إلى شقة صغيرة ثم سريعا إلى شقة أكبر وكذلك استقل بتجارته ليصبح واحدا من الحيتان، عرف كيف يقيم علاقات مع الكبار وأدرك مبكرا أنه بحاجة إلى غطاء لتجارته فأسرع إلى تجارة الملابس الجاهزة ونجح في الحصول على توكيلات تجارية لماركات عالمية أتاحت له التعرف على نجوم المجتمع الذين يترددون عليه، وأصبحت له علاقات يشار إليها بالبنان حتى عندما تقدم لخطبة فتاة من عائلة عريقة لم يكلفوا خاطرهم ليسألوا عن أصله وفصله ولا حتى عن شخصيته، واكتفوا بالمظهر الذي أمامهم وأعمت عيونهم الفيلا التي قدمها مهراً للعروس، ولم يكن أحد يسأله عن كل هذا إلا ابنته، وهو يجيد المراوغة والهروب إلى أن جاءت هذه اللحظة. لم ينكر شيئا مما نسب إليه من اتهامات ولم يكذّب ما جاء عنه في التحريات واقتادوه إلى محبسه، بينما زوجته في ذهول وأصيبت ابنته بصدمة عصبية أودعت على أثرها المستشفى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©