الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفيل الحائر

الفيل الحائر
14 أغسطس 2014 20:15
لم يتقدم أحد لخطبتها، على عكس صديقاتها وزميلاتها، اللاتي تزوجن وأنجبن البنين والبنات، مضى قطار الزواج ولم يمر على محطتها، ليس أمامها إلا الاستغراق في العمل، فهي موظفة مجتهدة، وناجحة في مهمتها، جادة في حياتها، تقضي الليالي الطوال تفكر في ذلك، ثم تضرب كفا بكف وهي تتساءل: لم يبق أمامي إلا أن أقلب الأوضاع، وأختار لنفسي عريساً ثم أذهب لأخطبه من أهله؟ فأنا عندي الكثير من الإمكانات التي يفتقدها الشباب وتعوق مسيرتهم إلى الزواج، عندي الشقة، ولي دخل ثابت لا بأس به شهريا من وظيفتي، لكن المشكلة الأكبر التي لا حل لها ولابد أن أعترف بها، خاصة مع نفسي، أنني لست جميلة بالقدر الكافي الذي يجعل الرجال ينظرون إليّ، ويتقدمون لخطبتي وإن كنت في نفس الوقت لست دميمة ولا بالشكل المنفر، خاصة أنني أهتم بمظهري وأدقق في اختيار ملابسي. ذكرى الميلاد منذ أيام تخطت الأربعين، كانت ذكرى ميلادها قاسية على نفسها، فبدلا من أن تحتفل بها، حاولت أن تتناساها وتتجاهلها، كي لا تعيد التكرار بالاعتراف بأن العمر يتقدم وأن فرص الزواج تتلاشى يوما بعد يوم وتكاد تنعدم بالمرة، لكنها عندما أرادت أن تنشغل بشيء ما مختلف يجعلها تنسى الموضوع كله واتجهت إلى جهاز الكمبيوتر لتتسلى مع أصدقائها على موقع الفيس بوك، ففوجئت بعشرات الرسائل التي تقدم لها التهاني والحياة السعيدة والعمر المديد وأن تتحقق لها الأمنيات التي تريد، كأنها قد أصابتها صدمة من الشيء الذي حاولت أن تهرب منه، فخرج لها من جهاز الكمبيوتر مثل العفريت، لم يكن أمامها إلا أن تتظاهر بالكلمات بأنها سعيدة بهذه المناسبة، وتوجهت بالشكر إلى كل من شاركها وقدم لها تهنئة وباقة ورد «افتراضية»، وهربت بسرعة عائدة إلى سريرها فيعود إليها التفكير يطاردها إلى أن تخلد إلى النوم وتروح في سبات عميق. ليست الحياة عندها كلها كئيبة، بل تأتيها أحيانا الأخبار السارة، فبينما تضع حقيبتها فوق مكتبها وتطلب من العامل أن يأتيها بكوب الشاي الصباحي الذي اعتادت عليه، يرد عليها بابتسامة عريضة بأنه لابد من استبداله بكوب من الشربات بهذه المناسبة السعيدة، ظنت أنه يحدثها عن عيد ميلادها الذي كان بالأمس، وردت عليه بلا اهتمام شاكرة له، ففهم أنها تقصد شيئا غير الذي يقصده، فنقل إليها الخبر السعيد مباشرة، مقدما لها التهنئة على ترقيتها لدرجة «المدير» التي يحلم بها الجميع، فثبتت على الوضع الذي كانت عليه ونظرت إليه باهتمام بالغ وهي تحد نظرها نحوه، وتسأله من أين جئت بذلك، فرد ووجهه يتهلل، المهم أن تعطيني البشارة أولا، ففتحت حقيبة يدها وهي ترتعش وحاولت أن تسيطر على أعصابها وأخرجت مبلغا من الأوراق النقدية ربما من استعجالها لم تعرف عدده، ودسته في يده وهو الآخر بدوره دسه في جيبه دون أن ينظر إليه وقال: إن القرار وصل صباح اليوم في البريد الرسمي. وقضت المديرة يومها السعيد في تلقي التهاني من الزملاء، لكن جرح مشاعرها تلك الكلمات التي جاءت من بعيد من إحدى زميلاتها وهي تقول: مسكينة. . ما قيمة ما تفعله وهي وحيدة بلا زواج، فالزواج هو أهم شيء في الحياة كلها بالنسبة للمرأة، وهذه لو امتلكت الدنيا كلها ولم تتزوج تظل تفتقد كل شيء، سرت دمعة من عينيها لم تستطع السيطرة عليها لكن نجحت في إخفائها وتجفيفها بسرعة شديدة، وكانت تلك الكلمات القليلة كفيلة بإفساد فرحتها وهي التي تبحث عن لحظة سعادة. صراع داخلي لم تتوقع «الست المديرة» أن يأتي النصيب متأخرا وتطرق الفرحة باب بيتها، لتجد من يتقدم لها طالبا يدها، إنها الأمنية الأولى والأخيرة في حياتها، لكن الحلو لم يكتمل، فهذا العريس يعمل سائقا في شركة للمقاولات والمباني وراتبه الشهري لا بأس به، لكن المستوى الوظيفي بينهما متباعد، والفوارق شاسعة، وكذلك المستوى الثقافي والمؤهلات التعليمية، فهي حاصلة على شهادة جامعية، بينما هو لم يحصل على أي شهادات وبالكاد يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، وما المانع إذا لم يكن فيه ما يعيبه، فهو رجل مثل كل الرجال لا ينقصه شيء، ومتى كان تقييم العريس بمؤهله ومستواه الوظيفي؟ ولكن أيضا متى يتم التغافل عن الكفاءة بين العريس والعروس، ومتى يتجاهل الناس الفوارق بينهما، فهم في الأساس يختلقون الاختلافات لإظهار عيوب أي من الطرفين، مع أن هذا لا يعنيهم، وإذا كان هذا لا يعنيهم ويعنيني وحدي فلا يهمني كلامهم ولا أقيم وزنا لآرائهم، وهل أستطيع أن أفعل ذلك وأنا امرأة حساسة، تجرح مشاعري أقل الكلمات وتنساب دموعي لمجرد الهمسات؟ هكذا كان الصراع داخلها، بين الرفض والقبول، تذهب إلى مميزاته مرة فتميل إلى القبول به زوجا، ثم تعود إلى تلك الفوارق التي لا تعد عيوبا، فتميل إلى الرفض، كانت في حالة عدم توازن، وهي غير قادرة على اتخاذ قرار ربما تندم عليه وهي عاجزة عن قراءة عواقبه، فلو فشلت الزيجة بعد عام أو عدة شهور وأصبحت مطلقة فإن الخسارة ستكون أكبر والأفضل لها أن تبقى على ما هي عليه، ولكن في المقابل هذه هي الفرصة الوحيدة التي جاءتها طوال عمرها كله، وتخشى إن فوتتها ألا تعود مرة أخرى وهذا هو الأقرب إلى الحقيقة، وزاد من حيرتها أن جميع أفراد أسرتها لم يشاركوها أو يساعدوها في اتخاذ القرار، وكانوا كلهم مثلها متخوفين من حدوث ورطة أو الخطأ في الاختيار بين القرارين، وحتى من كان عنده رأي قاطع، سواء بالقبول أو الرفض أحجم عن الإدلاء به حتى لا يحسب عليه فيما بعد، تمنت في هذه اللحظة أن تكون أمها على قيد الحياة، فهي الوحيدة القادرة على حسم الموقف وإخراجها من حيرتها. خوض التجربة أخيرا تغلبت عليها نزعة خوض التجربة، حتى لو كانت متخوفة من الفشل، وأقنعت نفسها بأنها راضية بالاختيار، فالرجل يكن لها كل احترام ويتعهد بحسن العشرة والتعاون والحفاظ على الرباط المقدس وأن تسود بينهما المودة والرحمة وترفرف عليه السعادة، وقد ظهر لها من البداية حرصه على تحمل كل المسؤوليات الزوجية عندما أصر على الإقامة في شقته المتواضعة، ورفض الإقامة في شقتها التي تملكها في منطقة راقية، فهذا جعلها تزداد قناعة به ويزول بعض هواجسها، ثم وجدت منه الاستجابات لمطالبها، ولم تثقل كاهله بالمصروفات الزائدة ونفقات العرس، فهي لا تنسى أنها عانس تتزوج سائقا ولا داعي لفتح الباب أمام المتربصات بهما اللاتي لا يعجبهن العجب، ولا يتوقفن عن الكلام في أمر تلك الزيجة، فأحيانا ينتقدونها لأنها قبلت الزواج من سائق لا يناسبها في شيء، وهم أنفسهم في أحيان أخرى ينتقدون السائق لأنه تزوج امرأة ـ على حد تعبيرهم ـ لا علاقة لها بالنساء إلا من خلال اسمها وملابسها. الحقيقة أن السبب الرئيس الذي جعل السعادة ترفرف بأجنحتها على بيت الزوجية الجديد أن الزوجة لا تتذكر الفوارق التي بينها وبين زوجها، ولا تتخطى حدودها كامرأة وزوجة معه، وتنزله منزلته اللائقة به في كل موقف، وفي المقابل هو يقدر لها تنازلها والقبول بالزواج منه وهو سائق بسيط، ورغم ذلك لم تتوقف الانتقادات لهما حتى بعد شهور طويلة من الزواج واستقرار حياتهما ومرور ثلاث سنوات رزقا خلالها بطفلتين جميلتين مثل الزهور المتفتحة، ولا تنسى الحيرة الماضية التي كانت فيها عند الاختيار، وتؤكد لنفسها أنها كانت سترتكب خطأ عمرها لو رفضته وسارت وراء كلام الناس الذي يؤخر ولا يقدم، وهنا تذكرت فيلم «مراتي مدير عام» وحاولت أن تستفيد منه ومن الأحداث التي كانت فيه، وأنه لابد أن تترك درجتها الوظيفية خارج جدران البيت وهنا تكون فقط زوجة، أما ذلك المنصب فهو في العمل فقط، غير أنها إذا تصادف وأذيع الفيلم وهي في مكان غير بيتها وحولها بعض الغرباء من المتربصين بها، تشعر بالخجل، وخاصة عندما تتجه نحوها لغة العيون الماكرة التي تحاول إفساد حياتها، خاصة أن كثيرات من صديقاتها يعانين من مشاكل زوجية مستمرة، ومعظمهن في نكد وشجار وغضب وهجران لبيت الزوجية. أصيبت الزوجة النحيفة بمرض غريب أصاب الغدد، ما جعلها زائرة دائمة للعيادات والأطباء، لأن هيئتها تغيرت وأصبحت بدينة بشكل غير عادي وتغيرت ملامحها كلها، فمن يراها لا يعرفها، وجعلها ذلك تصاب بحالة نفسية سيئة، لكن المرض وتلك المعاناة في كفة وما حدث من زوجها في كفة أخرى، عندما أصبح يناديها بلقب «الفيل» ويعيرها بتلك السمنة، وحاولت مرارا وتكرارا أن تظهر له تبرمها من كلماته التي يدعي أنه يقولها مازحا، ولم يتوقف ولم يراع مشاعرها ولا مرضها ولا حالتها النفسية، الآن شعرت بالندم مع الألم، استعادت لحظات الحيرة التي كانت في الماضي وأنها كانت محقة في هواجسها، فالرجل لم يصمد طويلا وهو في خانة حسن الظن من تفكيرها، وظهرت سطحيته في التفكير والتعامل معها، ولم يتحمل تعرضها لحالة لا يد لها فيها ولا ذنب. كررت على مسامعه كثيرا أنها تتأذى من هذا الوصف ولا يجوز له أن يجرح أحاسيسها بكلماته غير المسؤولة وأن هذه حالة ستزول بإذن الله مع العلاج وقد أكد لها الأطباء أن حالتها ليست مستعصية وستستجيب للأدوية، لكنه ألقى بهذا وراء ظهره واستمر على ما هو عليه، فاضطرت لأن تحمل طفلتيها وتعود إلى شقتها، وهي غير قادرة على رعايتهما بسبب ظروفها المرضية، والوقت الطويل الذي تقضيه في المشافي ودور العلاج الطبيعي، لا تجد غير الدموع تخفف بها الآلام النفسية والجسدية، حتى وجدت من تهمس في أذنها بأنها لا يجب أن تقابل ذلك بالصمت فهي لها حقوق على زوجها، ولا يجوز أن تفرط فيها، عليها أن تلجأ إلى المحكمة لتجبره على العودة إلى رشده، فأمامها إقامة دعوى خلع وإحراجه وجرحه في رجولته وأمامها أيضا دعوى الطلاق، وبذلك تحصل منه على نفقة لها وللصغيرتين وهذا سيجعله يفيق ويثوب إلى رشده. الزوجة في قرارة نفسها ترفض كلا الطريقين ولا تريد أن تخلعه أو تحصل منه على المال، كل ما تريده أن يشعر بالخطأ ويعتذر عنه بكلمات قليلة من أجل عودة المياه إلى مجاريها وحياة أفراد الأسرة إلى طبيعتها. تراني. . أخطأت في الاختيار. . هل يعود نادما معتذرا. . أم تأخذه العزة بالإثم. . ونضيع جميعا. . مازلت أنتظره. . بعد أن مرت ثلاثة أشهر على فراقنا. . لم يسأل عن الطفلتين. . ولا أدري فيم يفكر. . وأيضا لا أدري ماذا أفعل، ولا أي الطرق أختار هذه المرة. . أقول لنفسي مازحة. . أنني الفيل الحائر!!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©