الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

النفق بين إرنستو ساباتو ووليام غاس.. بئر الذات السُّفلى

النفق بين إرنستو ساباتو ووليام غاس.. بئر الذات السُّفلى
25 أكتوبر 2018 00:13

إسماعيل غزالي

في معاجم اللغة العربية يعني النّفق: سَرَبٌ في الأرض، أو الجبل له مدخل ومخرج، بالضرورة له مخلص إلى مكان. وفي لسان العرب تحديداً، يُسبغ ابن منظور على المفردة معنى تكفيرياً دخيلاً عرفه العرب مع الإسلام، اشتُقّ منه فعل نافق ومصدر النفاق، أي النفق وهو السَّرَب الذي يستتر فيه المرء لستره كُفْره.
التستّر الذي يعني الشيء الخفي والمجهول والمتواري عن الكل، هو ما يهمّنا في النظر إلى المفردة موسّعة، في منحى أعمق وأشمل خارج حدودها الاصطلاحية الضيقة، وهذا ما يجعل التستر القرين بالنفق ضمن استعمالات ثقافية وأدبية وجمالية وفلسفية تسبغ على المسألة أكثر من معنى وقيمة.

أن يكون النفق مضطلعاً بالسرية، فهذا يحيل على مناخ خطورة تجعل منه ضرورة كمخرج للطوارئ. مخرج تلوذ به الذات الفردية أو أقلية ما لتحتفظ بقيمة أشياء مريبة يجب أن تظل مجهولة أو محجوبة عن العامة. أو هو محض مكان سري لا يمكن بالضرورة أن يكون مخرجاً، ليس مسرباً بالمرة ولا يفضي إلى جهة معلومة، وإنما محض مستودع وملجأ لحالات إنسانية تستدعي الانزواء والهروب والغياب. وغير ذلك يمكن للنفق ألا يكون بالفعل مكاناً عملياً، وإنما محض مجاز لمنطقة داخلية مرعبة، مظلمة تتقعّر الذات الإنسانية كبئر شطون تحتشد فيها هواجس مفزعة وأفكار صادمة وصور فادحة، أقل ما توصف بالممنوعة والمحظورة في المنظومة الأخلاقية التي تنتمي إليها، وتشكل خروجاً مارقاً على نسقها...إلخ

نفق الأعمى
في التاريخ الحكائي والشعري العربي القديم، وردت استعمالات نادرة للنفق في المتون كمكان أو كعلامة أو مجاز، كما في قرائن تدل عليه، مثل القبو والسرداب في بعض حكايات «ألف ليلة وليلة» على سبيل المثال. لعل ما يطفو بشكل سرابيّ ضمن هذه الاستعمالات القليلة في التراث الحكائي العربي وطروسه الهائلة، نفقُ الشاعر أبي العلاء المعرّي الذي تحدّث عنه طه حسين في سيرته الأيام. نفقٌ جعله الشاعر مكاناً أثيراً وسرياً لأكله، فهو لا يتناول طعامه، إلا إذا خلا بنفسه في الحفرة التي أحدثها أسفل البيت. ومفارقة نفق الشاعر المعري أنه أضحى سجين نفقين: نفق عماه البيولوجي أولاً، فضاعف من العمى بنفق عمليّ ثانٍ، يلوذ به في طقوس أكله، هو النفق المصنوع لحاجة ضرورية. كملجأ مرغوب ومطلوب لتحقق لذة الأكل، أو هو الشرط الوحيد لحدوث فعل الاستمتاع بالطعام على حدة وفي انزواء مطلق.
عندما تتحول الظلمة إلى ظلمتين، الظلمة الأولى حادثة بيولوجية لعينة أو طارئة بسبب حادث صادم، تظل قسرية وجبرية أو قدرية بالأحرى، مأساوية وغير مرغوبة، والظلمة الثانية اختيارية، ذات عزاء، هي محض ملاذ ومتعة.
نفق الشاعر المعري، المفارق، لا يقتصر على حدود وجوده السري والخفي كملجأ للأكل براحة ومتعة بعيداً عن الرقابة، رقابة الخادم أولاً، ورقابة الملأ، أي الزوار. يمكن لمعناها أن يتخطى هذا الحد كضرورة لحاجة بيولوجية يومية لها علاقة بالأكل، ليصير أكثر من ذلك حاجة أنطولوجية:
النفق هنا هو قبر الشاعر الذي يتحول فيه الموت مصدراً لسعادة وليس لشقاء أو رعب وفناء. القبر الذي يتحول إلى فضاء حميم لممارسة حياة خاصة، لا تتحقق للشاعر الضرير علناً، وهو قيد ترصد ومراقبة مزعجة، لا يأمن أحوالها بسبب فقدانه لبصره.

نفق الملكة
بالرجوع إلى التاريخ الحكائي والأسطوري العربي القديم دائماً، نصادف نفقاً آخر لا يقل غرابة، هو النفق الذي أنشأته الملكة زنوبيا أو الزباء ويمتد من جهة خفية في قصرها، بل من تحت سريرها كما يروي المسعودي وحفرته سَرَباً طويلاً لأميال تحت نهر الفرات، يصل بين حصنها وحصن مدينة أختها «زبيبة» التي كانت تبادلها الزيارة عبر النفق ذاته، كما ورد في تاريخ الطبري، أو تهرب إليها هذه إنْ خشيت عدواً كما ذكر البكري... إلخ. النفق الذي أحدثته كملاذ للطوارئ، وقد أعدته تحسباً لأي عواقب غير محمودة قد تطرأ في صراعها مع أعدائها، خاصة عمرو بن عدي الذي قتلت خاله ملك الحيرة المدعو «جذيمة»... وبدل أن يكون النفق خلاصاً كان المكان المظلم لموتها، حين دهمها عمرو عند بابه وشربت سم خاتمها كي تحول بينه وبين مقتلها بيده. نفق الزباء هذا، وإنْ كان يحمل معنى من معاني المكر العسكري وخطط السياسة الحربية التي ألفناها في تراث الحروب والصراعات الكونية القديمة عند الإغريق والرومان على سبيل المثال، أو المسرب الاحتياطي للهروب الأخير عندما تمضي الأمور السيئة إلى الأقصى. كيفما كان دهاء تشييده منتمياً لاستراتيجية فكر المعركة والحرب، إلا أنه ينفرد بخاصية أو قاعدة معمارية تبدو ملازمة، وهي أن ما من قصر عظيم وأسطوري لا يتوارى أسفله نفق، بل إن عظمة اللحظة التاريخية للقصر وشموخ ملوكه تختفي أسرارها ضمن هذا النفق السري الذي لا يشكل فقط مسرباً خفياً للهروب، وإنما المسرب المجهول لعظمة الدولة أو سلطتها، ما أن ينكشف للعدو مكانه الغامض يغدو الطريق السريع لدمارها واندثارها، هكذا ترتهن حاكمية السلطة إلى القدرة على الحفاظ وصون سر النفق.

«نفق» الأدب
في الأدب العالمي تشرئب رواية الكاتب الأرجنتيني «إرنستو ساباتو» الموسومة بـ «النفق»، وتسمق كأشهر ما يكون في تاريخ الكتابة السردية الحديثة، إنها العلامة البكر التي تلمع في الذهن بمجرّد ذكر النفق كعنوان أدبي (روائي). وإن ظهرت رواية سابقة على تاريخ صدور عمل «إرنستو ساباتو» سنة 1948، للكاتب الألماني «بيرنهارد كليرمان» المنشورة سنة 1913 تحمل العنوان نفسه، وتؤرخ على نحو سردي وتخييلي للمراحل التي استغرقها بناء نفق عبر المحيط الأطلسي يربط بين القارة الأوروبية والقارة الأميركية، وكذلك ترصد المضاعفات الوخيمة للخسارات الضخمة التي كلفها المشروع إنسانياً ونفسياً واقتصادياً... إلخ.
ورغم تواتر الأعمال التي اختصت عناوينها بمفردة النفق أو مواضيعها على حد سواء، فيما بعد، تجارية منها أو بوليسية أو قصصية نوعية كقصة عبر النفق للبريطانية الحاصلة على جائزة نوبل «دوريس ليسنغ» والمنشورة بمجلة «ذا نيويورك» سنة 1955. يظلّ العنوان الثاني اللافت الذي يزاحم نفق «إرنستو ساباتو» شهرة وصيتاً، بقوة معرفية كاسحة وزخم جمالي جارف هو عنوان الرواية الضخمة والمثيرة للكاتب الأميركي وليام غاس الصادرة سنة 1995.

تقاطعات وافتراقات
أول ما يثير الانتباه بالنظر إلى الروايتين معاً، هو أن نفق الكاتب الأرجنتيني «إرنستو ساباتو» ونفق الكاتب الأميركي «وليام غاس» كلاهما محض مونولوغ صادم يفصح عن المناطق الأشد ظلمة لشخصيتين يجمعهما أكثر مما يفرّقهما.
فشخصية رواية نفق «ساباتو» رسّام غريب الأطوار يدعى «خوان بابلو كاستيل»، يعترف من البداية بارتكابه جريمة قتل عشيقته المدعوة ماريا (هذه التي افتتن بها حد الهوس حين رمقها تتأمل منظر نافذة في معرضه، واتضح فيما بعد أنها الوحيدة التي تتماهى مع فنه، وتستوعب قلقه على نحو غامض).
يبدو السبب المعلن وراء القتل غيرة، وفي المضمر المسألة وجودية تماماً، هي محض كوابيس الوحدة وضراوة القلق والانفصال واللاتواصل.
وأما شخصية رواية «وليام غاس»، فأستاذ تاريخ يدعى «ويليام فريديريك كوهلر» بعد أن ينتهي من كتابة دراسة «عقدة الذنب والبراءة في ألمانيا النازية» يشرع في كتابة مقدمة لها، فيجد نفسه بدل ذلك يكتب سيرة مضادة، يحشد فيها كل ألغام حياته المأساوية. وكي لا يفتضح أمر مخطوطته الكارثية، يحفر نفقاً في أسفل بيته كي يخفي ما يكتبه عن زوجته والآخرين.
وبعيداً عن هذا المشترك الأولي بين الشخصيتين الرماديتين، وتطابق سوداويتهما ونظرتهما نحو الخارج، وأكثر نحو الداخل، تبزغ هوة الاختلاف بين العملين على نحو شاسع، مع التقدم في القراءة بعمق. فيبدو على نحو فارق أن نفق «إرنستو ساباتو» أحادي، محض كهف مظلم يكتشفه الرسام في داخله، بعد ارتكابه جريمة قتل امرأة، يعزز من فكرته السوداوية حول ذاكرته الشبيهة بنور باهت يضيء متحفاً قذراً من العار.
أما نفق وليام غاس، فمتعدّد ومتشعب، وهو نفق واقعي حفره كوهلر بنفسه أسفل بيته، ومع ذلك، غير أن الحفر المضاعف إنما هو مجازي لا حدود له في طبقات ذاته وذاكرته، يقابله حفر أركيولوجي في اللغة والتاريخ والفكر والسياسة والمعنى... بل الأمر شبيه بنزول إلى قعر الجحيم.
فضلاً عن ذلك، رواية ساباتو مكثفة جداً، أشبه ما تكون بنوفيلا، تنتهي بسرعة فائقة من حيث بدأت باعتراف فاضح لجريمة شخصية، تعكس اختلالاً مزمناً واضطراباً نفسياً ينحو منحى موقف وجودي من انحطاط العالم كما يعيشه قلق الرسام ويتكبد قسوة عزلته، غارقاً في المياه السوداء لتناقضاته الفادحة. هكذا تتقشف الرواية في شخصياتها ووقائعها ولا تولي اهتماماً معقداً لحبكتها ذات البساطة الماكرة.
وعلى النقيض، رواية وليام غاس ضخمة، واستغرق في كتابتها ثلاثين سنة، ذات هندسة حكائية معقدة، مفخّخة بهوامش وتخطيطات ورسوم ميتا سردية – لا ننسى أن وليام غاس هو أول من استعمل أو ابتكر مفهوم «الميتا قَص» أو ما وراء القَص في بداية السبعينيات قبل أن تتلقّفه الناقدة «ليندا هشتيون» في كتابها (السرد النرجسي: مفارقة ما وراء القص) 1980، وكذلك فعلت «باتريشيا واو» في كتابها (ما وراء القص: النظرية والتطبيق عن القص الواعي بذاته) 1984، وأما نفق «وليام غاس» فيتشعّب بلا نهاية، ليغدو متاهة هائلة ذات تضاعيف مرعبة تتخطى السيرة الفادحة لبطلها كوهلر، لتكون سيرة جماعية على نحو أوديسي وملحمي للقرن 20.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©