الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«النافذة التي أبصرت» رواية الهُويات القلقة

«النافذة التي أبصرت» رواية الهُويات القلقة
13 أغسطس 2014 21:45
إيمان اليوسف في أولى بواكيرها الروائية «النافذة التي أبصرت»، الصادرة حديثاً عن دار «كُتّاب» للنشر والتوزيع في دبي، تُطل على المشهد الروائي في الإمارات بزخم شبابي واعد على كل المستويات الفنية، سواء بأسلوب السرد الرشيق الذي تميز به النص، أو في توليفة الحكاية الشائقة، الماتعة بتفاصيلها وأحداثها وشخصياتها، التي بدت مرتبكة وأحيانا مذعورة، أو بلغتها المطرزة بالتناصات اللافتة بدلالاتها على الوعي العميق بحركة الثقافة العربية المعاصرة بالدرجة الأولى، والثقافة الإنسانية عموماً، هذا فضلاً عن محمولات النص المعرفية بالمعنى الثقافي الواسع. وإذا كان العنوان هو العتبة الرئيس للنص بتعبير جيرار جينيه، فإنه في «النافذة التي أبصرت» يكاد يختزل مضمون النص بالمعنى الفلسفي، لأن النافذة التي شرعتها اليوسف في الرواية، هي في الواقع نافذة وجودية بالمعنى المجازي، كونها مشرعة على الداخل الإنساني في إطار البحث عن الهُويات القلقة، عن كينونة الذات وسيرورتها في عالم هش، ينتابهه القلق والخوف على المستقبل والمصائر في كل الاتجاهات وكل الاحتمالات. الناظم الجمالي تتألف الرواية من نحو ثلاثمئة وسبع عشرة صفحة موزعة على ثلاثة فصول. تدور أحداث الفصل الأول في تركيا، والثاني في العراق، والثالث في كندا. ويجمع بين شخصياتها مأزق الهُوية والخوف من المستقبل، من خلال قصص إنسانية مغمسة بالأوجاع والآلام، تتخللها ومضة جمال وحيدة تظهر في ثنايا النص بفصوله الثلاثة، كامناً بشخصية زينب. تستهل الكاتبة الحكاية بمأساة ديريا كرايسمين المسيحية التركية وصديقتها ناز السنية، اللتان أعتادتا على اللقاء للتنفس بحرية يوماً واحداً مطلع كل شهر، يتخلله غداء، ينتهي بالتسكع في أسواق «أولوس» القديمة، ومن ثم شراء حاجاتهما من المؤن الغذائية، ويقفلان عائدتان، كل منهما إلى خرابها المعنوي والروحي اليومي. ذلك لأن ديريا تعيش مع زوج قعيد الكآبة في البيت منذ أكثر من عشر سنوات، بعد أن ضاعت تجارته وأمواله بسبب التضييق والضرائب الباهظة والأتاوات المتعددة ثمناً لمعتقده الديني. بينما ناز تصارع على مدى سنوات عديدة لإنتزاع أمومتها بابنها أرسلان، الذي عاش بكنف شقيقتها أوكسان منذ ولادته حتى صار عمره خمس سنوات، كانت خلالها ناز في مصحة نفسية، وعندما غادرتها راح الفتى يهرب منها، وشب وصار رجلاً، ومازال الشرخ قائماً بينهما. إلا أن ديريا بعد أن ودعت ناز في ذلك اليوم، لا تعرف كيف ركنت سيارتها، وحجزت تذكرة إلى بلدة «نيكدة» غربي أزمير بمسافة تسع ساعات في القطار، قاصدة نزلاً سياحياً متواضعاً. أما كيف حصل ذلك فهي لا تعرف، ربما كان توقاً داخلياً للانعتاق، إذ كل ما تدركه تلك الليلة أنها «حَلُمت أنها طفلة ولها شعر طويل تراقصه حماماتان». ولكن الطفلة التي صارت عليها ديريا تماهت وتلاشت بأسطورة «زينب لقمان وجبل حسن»، بعد أن كشف السرد أن الجبل اكتسب اسمه منذ زمن بعيد؛ من رجل صالح مات ودفن على قمته، وأن زينب المعلقة صورتها في بهو النزل، وفدت منتصف القرن التاسع عشر إلى «نيكدة»، بعد زلزال دمر بلدتها «تشيشمي» غربي إزمير، ولأنها «ابنة بحر» - كما يقول قدسي مدير النزل في حواراته مع ديريا - شيدت النزل الوحيد في البلدة، ولكنها قصدت ذات يوم «جبل حسن للتنزه ولم يرها أحد بعد ذلك اليوم». ليكشف السرد أنها ظهرت في العراق من خلال أحفادها «الشيخ عبد الرحمن حسن» و»ماجدة»، و»صالح» الذي غيبته الحرب العراقية -الإيرانية، التي أوغلت بخرابها وتشظياتها في عمق الذوات العراقية، ما أحالها إلى عدم وحشي سديمي، دفع الشيخ عبدالرحمن للتفكير بالفرار مع أسرته وأسرة شقيقته ماجدة من مطحنة الحرب. ولكن الأقدار الفائقة بفجائعيتها تصل إلى الذروة، حينما حَطَمَتْ نحو خمسة آلاف كردي أطفالاً ونساءً وشيوخاً بضربة كيماوية واحدة، من بينهم «ملك» وحسن ابن الشيخ عبدالرحمن الوحيد. وهكذا نجد «زينب» في الفصل الكندي، تحاول الطبطبة على روح ديمة الممزقة بسياط الانتماء وجروح الهُوية. المستوى الفني تنجح الكاتبة بتقديم شخصيات منهوبة بالقلق، وتبحث عن خلاصها في المنافي بعد أن استحال ذلك في الوطن الأم، ولكنها لا تحصد سوى «شعور طفيف بالانتماء والاستقرار. . والكثير من الامتنان» لنجاة البدن من الهلاك. أما الروح فمازالت منقسمة، حائرة، قلقة، مرعوبة، تبحث عن نجاة أخرى، مكللة بالطُمأنينة والسكينة، مطرزة بالمحبة والسلام الداخلي، الشرط الأول لإستعادة إنسانيتها المفقودة. ولكن الكاتبة رغم نجاحها بتقديم شخصيات حائرة تبحث عن خلاص روحي بإحالات فلسفية ومقاربات وجودية،- بمعنى حضور الكينونة المتناغم مع الواقع والتاريخ -، إلا أنها لم تكن موفقة بالدرجة عينها في رسم الخيوط، التي تفصل فيما بين الشخصيات الرئيسية في مساراتها الفنية والسردية في اللعبة الحكائية أو الروائية؛ كتمّثيلات نصية أو أدبية، تجعلها نماذج إنسانية تائقة للأجمل والأكمل، طالما هي تبحث عن خلاصها كحق إنساني مشروع للجميع. ما جعل قراءة الرواية لا تخلو من صعوبة في الفهم لفك الخيوط المتشابكة بتشابك الشخصيات. وربما تتمكن الكاتبة من خلال القراءة ومواصلة الكتابة مستقبلاً من تطويع لغتها، بحيث تصبح أكثر تقّعيداً في المعنى، وأوضح تكثيفاً في الإحالة أو الرمز والدلالة. كذلك لا بدمن الإشارة إلى التناصات الجميلة، التي استخدمتها كمفاتيح أو عتبات للنص وللفصول، رغم الإطالة في بعضها. إلا أنها أدت أغراضاً عدة، منها ما يتعلق بمساعدة المتلقي لفك شيفرات النص بامتياز، مثل التناصات المقتبسة من شعر محمود درويش، ومنها ما يُريح السرد، ويجعل المتلقي يلتقط أنفاسه، ليأخذ قسطاً من التأمل بفضاء الدلالات للإحاطة بأكبر قدر ممكن من محمولاتها الجمالية والمعرفية. وهي على العموم تناصات ذكية، واعية لغرضها الأدبي والفني والمعرفي، وتؤشر على عمق ثقافة الكاتبة. وهذا ما يبشر بجيل روائي شبابي جديد في الساحة الإماراتية؛ بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى، - كما أشرنا في التقديم-، على الرغم من ركام النشر الذي يطفح بالغث أكثر من السمين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©